الاسم العربي الغائب

(1)
مَنْ منّا، في هذه اللحظة التاريخية العصيبة، له القدرة على الالتفات إلى الخلْف،لاستعادة هذا الاسم المتوهّج والنّابض بالحياة، والمخلّف أثره تاريخيا وحضاريا، عندما كان العربي يعتزّ بهذا الانتماء، وينافح عنه بما ملك من إرادة وأحلام وآمال، ويعلنها جهرا أمام سطوة المحتلّ والغاصب لأرض العرب، أنا عربي، لكن في زمن الانبطاح والخنوع تحوّل الاسم العربي إلى مهزلة تثير الإشفاق أكثر من السّخرية، مادامت الهوية العربية ممرّغة في تراب الذلّ والمهانة، وغدَت من بقايا الآثار الجيولوجية، التي تحتاج إلى حفْر وحثّ مستحثاثها، للكشف عن أعطاب هذه الذات المنذورة للشللية والتبعية منذ قرون. إن واقع العربي، اليوم، موسوم بهذا الغياب القاسي إثر غيبوبة فرضتها أنظمة متكالبة ومتواطئة مع الآخر الغربي، الذي يجتهد في تحويل العالم العربي إلى حظيرة لتربية الجهل، وتعميم الضّحالة ونشر ثقافة ملء البطن واستعداء ثقافة العقل، مما انعكس سلبا وكارثة على الإنسان العربي المقهور، بفعل سياسات القهر والظلم والاستبداد، وتغييب العقل في مقاربة هذه الغيبوبة المقصودة لاسم ظلّ إلى عهد قريب يثير حفيظة الآخر ويفزعه في عقر داره، ويشكّل عليه خطرا محدقا على الاستقرار والأمن العالميين.
إن أغنية «الأرض بتتكلّم عربي» التي حلّقت في سماء العرب، مدة طويلة، كانت بَلْسَماً وسلاما على أمّة تحْلم وتُمنّي النَّفْس بالوحدة من المحيط إلى الخليج، فكان الاسم متوهّجا في الأحلام، غيْر أنّه مُنْطفِئ على أرض الواقع، وكم كان يشدّنا هذا النشيد الذي لم يكُن سوى أُلْهِيَّةٍ نتلهى بها، ونُداوي أمراضنا المختلفة ونضخّ ماء الوهم في شرايين ميّتة من روح العروبة ونَفَس المقاومة، ضدّ كل أشكال القهْر والجَوْر الممارس على المواطن العربي، تحت يافطة الحلم العربي، بينما الحكّام نائمون وغارقون في بحبوحة الأوهام المرسومة لهم من ذوي نعمتهم،والسّاهرين على أمن كرسي سلطتهم، فخانوا التاريخ وطلّقوا الاسم العربي، واجتهدوا في تبْخيس الذات العربية، من خلال، الْجَلْد والقهرفوبيا -إن صحّ القول- ساعِينَ إلى بَثّهِ في النّفوس باسم الله والمصالح العليا للوطن، فأضاعوه وأيّ اسم أضاعوا. فكان المآل محو الاسم العربي وقتله ببرودة دم وعاطفة، وإقامة صلاة الغائب عليه، ودفنه تحت تراب المهزلة الكبرى.
اِسْمٌ ذَابِلٌ/ وَالْمَدَى رِيحٌ / وَالْوَقْتُ وَطَنٌ مَجْهُول/ وَلَا أَحَدَ هُنَاكَ/ سِوَى رَمْلٍ يَنْسُجُ حَقِيقَتَهُ/ وَيَبْكِي عَلَى مَاءٍ ضَيَّعَهُ/ مَنْ يُقِيمُ لِلْكَفَنِ مَرْتَعَهُ؟ / وَأَنْتَ يَا عَيْنَ الْعَرَبِ الدَّامِعَة/ تُلْقِي نَزْفَ الرَّاءِ بَاءً شَارِدَة/ وَتُقَبِّلُ يَداً يَصْهَلُ فِيهَا مَقْتَلَكْ…!!!
(2)
لمْ يَعُدِ الأمْر مثار الأسئلة والإشكالات التي كانت، في ما مضى، تشتعل وتتوهّج في إطار مقالات ودراسات وأبحاث لتشريح مكامن الْخَلَل المستشرية في الذات العربية، بعد أن تمّ شراء ذمم غالبية المثقفين بفعل سيولة البترول الخليجي، فانبطح المثقف لاهثا وراء المال، تاركا الوضع يزداد قتامة، بل مشاركا ومساهما في تكريس وترسيخ ثقافة مبتذلة سطحية تناقش القشور، وتهمّش البحث عن الجوهر، عن طريق وضْع برامج تعليمية وخلق قنوات إعلامية؛ غايتها بَثُّ برامج تُسَفّهُ العقل والفكر المتنور، لإشاعة ثقافة الإذعان والخزعبلات والخرافات، وكلّ ما يجعل الإنسان العربي تحت رحمة التّفاهة، ولعلّ ما تزخر به هذه القنوات من الغرب العربي إلى الشرق الجريح من برامج تؤكّد على الإسفاف والصفاقة خير شاهد على هذا الوضع الكارثي الموسوم به واقع المواطن العربي، كما تمّ خلْق مراكز للأبحاث ومؤسسات غرَضُها جعل الإنسان العربي خارج التاريخ والحضارة المعاصرة وبعيدا عن الأسئلة الحارقة. فتمّ تغييب كلّ ما يمتّ بِصِلَة بالثقافة العربية الأصيلة المتشبّعة بالعقلانية المتنورة، التي تفتح أفقا جديدا للجدل والتّناظر والاختلاف من أجل بلورة مشروع ثقافي تعليمي عربي يقود الأمّة إلى المستقبل، لا الإقامة في الماضي. والضياع والتّيه في الحاضر.
إن خيانة المثقف العربي جريرة عظمى، في حقّ الإنسان العربي المطوّق بالجهل والأمية، والمنغمس في اللاقيم والغارق في أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية، تطرح العديد من الأسئلة المؤلمة والنازفة حرقة حول أهمية هذا المثقف، فإذا كانت مَهمّته تتمثّل في زرع بذور قيم نبيلة ترفع من قيمة الإنسان، وتبوّأه المقام الجدير ، وفي مقاومة الابتذال والانحطاط بتشكلاته المتنوعة، لكن هذا الغياب/ الخيانة يثبت بما لا يدع مجالا للشّكّ، تورّط هذا المثقف في مستنقع التبعية للسلطة القائمة. هذه الخيانة ترتّبت عنها نتائج وخيمة متمثّلة في الارتكاسات الحاصلة على مستوى الحقوق، المتجسّدة في إقبار العدالة الاجتماعية والاقتصادية بتعطيلها، بنهج سياسات لا علاقة لها بانشغالات المواطن وتطلعاته، بقدر ما لها مصالح بالطبقة الأوليغارشية الرأسمالية المتوحشة، والمتحكمة في دواليب الحكم، فضاعت الحقوق وسُلب الإنسان من أبسط شروط الحياة، حيث غياب الأمن الاجتماعي والروحي، وارتفاع معدّل الجريمة، النّاجم عن البطالة وفشل التعليم رغم الإصلاحات المفتعلة، و هي في العمق تخريب له وتقزيم لدور المدرسة الذي غدا محصورا في الضبط واعتقال المتعلمين في مؤسسات تعليمية تفتقد لأدنى شروط التحصيل العلمي والتعليم ، فماتت المدرسة بخلْق جيل فاقد لبوصلة العلم، ولآليات الحوار والجدل، أجوف معرفيا وقيميا، فكان الفشل الحليف والنصير، إضافة إلى أن المثقف سقَط في أوهام سلطة خادعة ماكرة تلعب دوْر الضحية،لكن حقيقتها المكر والخداع، من خلال، تشويه المثقّف والثّقافة والعلم والمعرفة. فتحوّل الإنسان العربي عدوّا للمعرفة والفكْر والعقْل، وهذه طامّة كبرى أَتَتْ على الأخضر واليابس باسم «الربيع العربي» الذي عرّى حقيقة مفادها أن الإرهاب لا ملّة ولا مذهب له، بل له حواضن تنتعش فيها، من أجل إبقاء أوضاع العالم العربي على حالها، بل يمكن اعتباره (اللجوء إلى الإرهاب) وسيلة من وسائل إعاقة التطور والتقدّم، وسبيلا لجعل الاسم العربي خارج الحضارة الإنسانية.
ضَاعَ الْيَرَاعُ وَالْتَبَسَتِ الرّؤْيَا/ وَاحتَارَ الطّرِيقُ فِي خَطْوِه/ تَجَرَّدَ الْخَيَالُ مِنْ طَبِيعَتِه/ وَارْتَدَى وَهْمَ الْحَقِيقَة/ وَبَاعَ الْوَطَنُ حُلْمَ الْقَبِيلَة/ وَرَافَقَ ذِئْبَ الْخَلِيقَة…!!!
(3)
الاسم العربي مُورِسَت عليْه كلّ أشْكال العنْف، سواء العنف الذاتي أو العنف الخارجي، فالعنف الأول ناتج عن تغييب إرادة الشّعوب وتغليب إرادة السلطة،مما نجَم عنْه طرْد الدّيقراطية من دائرة الوجود، والاجتهاد في أساليب تكميم الأفواه، وفتح أبواب المعتقلات، لتكون الجواب على عيون عربية توّاقة لشمس التّحرّر والشّعور بالاستقلال من كلّ سلطة تروم ممارسة الحيْف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، مما أثّر على مسار التّنمية وترسيخ ثوابت عقد اجتماعي سياسي قمين بإعطاء روح جديدة للحياة بتشكلاتها المتعدّدة في الوطن العربي. أمّا العنف الثاني فخارجي تمثّل في المخططات الجهنّمية التي يتمّ رسَمَتْها القوى المهيمِنة في غرفة العمليات الدولية، والمتجلّية في تحويل العالم العربي إلى بؤر للتّناحر والاقتتال حتى تظلّ الأوضاع المزرية على حالها، وتزداد تأزّما ممّا يُعيق مسيرة التقدّم، لكن قمّة الغرابة تكمن في أنّ دولا عربية، لا تاريخ ولا حضارة لها، يتمّ توظيفها آلية من آليات تخريب وتدمير الوطن العربي. والمؤسف أنّها تتمادى في التّنطّع والادّعاءات المجانبة للصواب، والعقل للتحكّم في رقاب دول أخرى بوقاحة وقلّة تجربة، وبعماء البصر والبصيرة. وأقسى عنف يتعرّض له الاسم العربي عنف المحو والانطماس على يد أبنائه البرَرة لِعَدُوّهم.
هَذَا الْوَجْهُ لَيْسَ وَجْهِي يَقُولُ الِاسْمُ الْعَرَبِيُّ/ الْمَرَايَا انْكَسَرَتْ وَتَشَظَّى حُلُمِي/ لَمْ أَعُدْ بَاباً للصَّهِيل/ وَصَوْتاً للصَّلِيل/ مَاتَ الْحِصَانُ، فُلَّ السَّيْفُ، وَضَاقَتْ الْعِبَارَة/ وَاخْتَنَقَ الْمَعْنَى بِزَفْرَةِ الْوَجَع…!!!
(4)

نعُود للتّأكيد على أنّ الاسم العربي الغائب، النازف المغضوب عليه من ذويه، يعيش محنة وجودية، في منعطف خطير، كانت وراءه حسابات سياسية ضيّقة، وتغلّبت فيه المصالح الآنية المتحكّمة في بعض الدول العربية خدمة لأجندة العدو، وتحديدا الصّهيونية المتطرفة ذات النّزوعات الاستئصالية، غير مُدركين ما يُحاك ضدّ هذا الاسم من مكائد ومخاطر، ستكون تبعاتها وخيمة على الجميع، فالتعلّق بقشّة العدوّ وَهْمٌ سيُفْضي حتْماً إلى الهاوية، بإعلان محو الخريطة العربية الممتدة من بلاد المغرب إلى بلاد الأردن، وتغييرها بخريطة إسرائيل الكبرى من الماء إلى الماء، وتحقيق هذا الحلم الصهيوني سيكون على يد العرب العاربة، الذين تناسوا الجرائم المقيتة المُقتَرَفة في حق الوجود العربي انطلاقا من الاستعمارات التي نهبت ثروات الاسم العربي، ومازالت تأخذ الإتاوات من حكامٍ لا شُغل لهم سوى البقاء على عرْش السلطة، أما المُشترك العربي فمصيره النسيان والطمس من ذاكرة الشعوب. وأمام هذا الواقع المؤلم الأليم المتألّم على كل عربي أن يعلِن سرّا وجهْرا رفضه لاتفاقيات الذّلّ والعبودية الموقّعة من لَدُنِ حُكّام فقدوا بَوْصلة الحاضر والمستقبل، وتقنّعوا بالماضي لإخفاء عجزهم أمام سطوة الغالب الصهيوني المدعوم من القوى الإمبريالية.
فِي الْأُفُقِ الْبَعِيدِ لَيْلٌ قَادِم/ وَصَمْتٌ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى/ وَيُدَوْزِنُ الْعَالَم / وَيَنَامُ عَلَى خَاصِرَةِ الْفَرَاغ/ لَا وَطَنَ لِي / أَنَا الِاسْمُ الْعَرَبِي / التَّارِيخُ جُمْجُمَةُ وَالْجُغْرَافِيَا قَبْرُ أَحْلَامِي…!!!
(5)
إنّ الاسم العربي الغائب سؤال مطروح على كلّ مَنْ في داخله ذرة الانتماء الحقيقي إليه، وَدمٌ يجري في شرايينه، بوصفه تاريخ الحياة، وحضارة الإنسان، وكتابا مفتوحا على الإبداع والجمال والإدهاش، بابا يقودنا إلى أبواب مشرعة على ذاكرة المقاومة والتحدّي، العطاء والإيثار، الصمود والإباء، وعلى أفق الاستمرارية حيث ينهض كالعنقاء من رمادها، معلنا كينونته الضاربة في جذور الوجود منذ الأزل وامتدادا في الحضور الأبدي.
هذا الاسم العربي قُدّر عليه أن يظلّ تحت صلافة العنف المزدوج، ونوائب الدّهر وصروف المكائد، وخيانة المثقف لمشروعه المحلوم به من لَدُن أبناء عروبة مؤمنين بحق الحياة. هذا المثقف الذي ابتلع لسان الحق، ونطق بلغة الباطل، بالصمت والموالاة، بالهروب بعيدا عن نداء الشعوب والأراضي المغتصبة في كل شبر عربي، حيث الخراب والرعب، التقتيل والتهجير لسان حال اسم عربي منذور للفداحات والاغتراب.
إن الاسم العربي الغائب في حالة شرود، وخارج مدارات الانعطافات القاسية والاستثنائية التي تعبُرها الإنسانية،في هذه الظرفية الحضارية، ومأسور في حبائل مسرحية كوميدية تثوي في عمْقها تراجيديا الإنسان العربي المقهور،و تؤدّيها كومبارسات عربية، عبارة عن مهرجين فاشلين، ومشاركين في اغتصاب الحق العربي،ويلعبون لعبة قذرة ستكون وبالا عليهم أولا وعلى بقية الرقعة العربية. لكن للاسم العربي نهضة منتظرة، وصحوة آتية من غروب العالم، ويقظة سرمدية تزعج الأبناء العاقّين قبل الأعداء الحقيقيين للحلم العربي الموحّد،وأمل في أجيال المستقبل، التي لن تستسلم كما استسلم خونة القمر من سماء مفتوحة على الصفاء والطّهر، وعلى أرض زكيّة بدم الشّهداء، والعظماء الذين بصموا الحضارة الإنسانية بآثارهم الخالدة والفاعلة في تغيير العالم علما ومعرفة. وأسهموا في تحويل أرض العرب فضاء لمحبّة الْغَيْر بنهْج طريق السماحة والاختلاف.
هَذَا الِاسْمُ لِي/ أَحْمِلُهُ فِي دَمِي/ نَاراً فِي حَضْرَةِ النَّاي/ نَشِيداً فِي رَحَابَةِ الْإِيقَاع/ وَوَطَناً نَجِيباً فِي دَرْسِ التَّارِيخ/ وَعَصِيّاً عَلَى الْجُغْرَافِيَا الْيَتِيمَةِ / وَجَبَلاً يَسْرُدُ عُبُورَ الْغُيُومِ إِلَى الْحَيَاة… هَذِهِ مَلَامِحِي تَقُولَ مَا تَيَسَّرَ لِي مِنْ حُلُمٍ/ وَمِنْ أَمَلٍ/ وَمِنْ وَجَعٍ/ وَمِنْ سَمَاءٍ تَعْشَقُ رِيَاحَ الْآتِي/ وَلِي اسْمٌ وَاحِدٌ الْعَرَبِيُّ…!!!


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 02/10/2020