البابُ المَحجُوب

 

( الأثر الأدبيّ الغفل ، هو أثر المؤلّف نفسه، لاينقصه سوى توقيع اسمه؛ أمّا أثر الندّ ، فهو للمؤلّف خارج ذاته ؛ هو أثر ذاتيّة مستحدثة كليّة من طرفه ، شأن ردود شخصيّة خارجة من مسرحيّة ألفها هُو )
من تقديم إدمون عمران المالح لترجمة « كتاب اللاطمأنينة» لفرناندو بيسوا ، ص 6.

على الأغلب بسبب تعتعة السّكر الطافح، أو ربّما لدنوه الحثيث من خاتمة عقده السابع، و بداية تسلّل المرض الوبيل إلى جسده النحيل ؛ كثيرة هي المرات التي عجز فيها محمّد شكري ، عن الوصول إلى شقّته بالطابق الخامس لعمارة تولستوي بطنجة.
العمارة ذاتها، سخيّة السلالم، التي لم تكن تتوفّرُ – للأسف – على مصعد يحول دون وعثاء الصعود ومشقّته، فكان يختار الذهاب لقضاء ما تبقّى من آناء اللّيل بفندق ريتز الشعبيّ، رخيص التكاليف، القريب جدا من محلّ سكناه بحي «الروكسي»، والمحاذي لشريط الحانات والعلب اللّيليّة للحاضرة الديونيزوسيّة المتمنّعة عن أن يغمض لها جفن أو يغلق لها رمش .
فندق ريتز ، الذي تمّت صباغة واجهته و تجديد أثاثه بالكامل، مؤخّراً ، في نسخة قشيبة معدّلة، بعد أن تعرّض خلال بداية العام لحريق مهول أتى على جلّ طوابقه، و شوّه صورة معماره .
وغداة المرّة الأخيرة ، حينما ارتاد  محمّد شكري الفندق، بمجرّد ما بَسَطَ جسده المُضْنَى العليل في غرفة، تحمل رقم سبعة، مكوّنة من سريرين اثنين، غاطسا في عُبَابِ نوم عميق، حتّى  وصلت إلى نومته الثقيلة الصيحات المذعورة للقاطنين والقاطنات، مختلطة بأصوات جهاز الإنذار و منبّهات سيّارات الإطفاء ؛ فوثب عندئذ من رقدته هلعا إلى خارج نطاق الغرفة ، منقذفا بقصارى جهده وسرعته داخل المصعد . ضغط على زرّ الطابق الأرضيّ ؛ غير أنّه وجد نفسه داخل رواق طويل متفحّم السقوف والحيطان والأبواب  يثوي به هواء قديم وصمت جنائزيّ .
فعلى الأرجح، لقد وقع بطريقة  مبهمة في منطقة بينيّة فاصلة بين زمنين ، نشأت عن كسر في التناظر الارتداديّ ، وهو الآن سجين تصادي حقبتين مختلفتين ومكانين متطابقين. يمضي سائرا بخطوات حذرة ، مثل زائر غير مرتقب من الأحياء  إلى عالم الأموات ،  في قلب النسخة السابقة من الفندق قبل أن تلتهمه ألسنة  اللّهب الغادرة .
فكان كلّما فتح غرفة من الغرف،  صادف أحد معارفه وصويحباته وندمائه الأقربين أثناء مرحلة شبابه المتصعلكة، أو شخصيّة شطاريّة مشهورة من شخصيّات كتبه السيريّة الأخّاذة ، أو أديبا أجنبيّا ممن سبق لهُ مرافقتهم كدليل سيّاحيّ أثناء زياراتهم الخاطفة إلى المدينة المبيدة للهموم والمداوية للكلوم.
بعضهم كانوا يظهرون له بوجوهم الحقيقيّة ، وبعضهم الآخر متنكّرين بأقنعة ورقيّة ركيكة لا تُخفي سوى، على نحو طفيف،  هويّاتهم المكشوفة أصلا . استغرب بشدّة أنْ لا أحد منهم فاتحه بالكلام، أو حتّى ألقى عليه التحيّة.
ابتلع بعجالة هذا التصرّف غير المستساغ، راغبا أن يتخلّصَ دون إبطاء من براثن هذا الكابوس كي يغادر هاته المنطقة المجهولة من أنفاق المواقيت الملتبسة. فعاد كَرَّةً أخرى إلى المصعد، مغالبا الإجهاد المبرّح وبقايا الشراب الفظّ . غير أنّه، ما  إن عاد إلى غرفته، حتّى ألفى محمّد شكري آخر ، بملابس مختلفة ، يستقلي نائما  على السرير الثاني للغرفة رقم سبعة، وهو ممسك بيده اليسرى المرتخيّة لجام فرس و زجاجة نبيذ فارغة(*) ، وبأسفل فراشه يقعي كلبه الهرم «جوبا « .
نعم، محمّد شكري آخر ، مثل توأم مُمَوَّه أو غير معلن، انشقّ قدامه فجأة ، أو كما لو كان هُوَ عينهُ، أضحى صورة جانبيّة تحملقُ إلى ظلّها المنفصل. فطفق يتساءل، في صمت حائر : أتراه وصل إلى غرفة حقيقيّة، أم هي غرفة انعكاسيّة مجاورة لا وجود لها في الفندق، باطنيّة ومشيّدة داخل « الأنا « من دون ريب،  لكنّها نسخة طبق الأصل للغرفة الفعليّة ، بل ملتصقة بها من الأعلى أو من الأسفل أو من الجانبين  كقطع حجر الدومينو ، الواحدة فوق الأخرى، أو أسفلها، أو جنبها ؛ و تحمل جميعها نفس العدد، وثمّة باب سرّيّ غير متوقّع؛ باب نفسيّ على أقرب الاحتمالات وليس ماديّا  البتّة ؛ شرخ ، أو ثغرة ، أو ثقب أسود في الواقع الفائق، سيفضي به – عاجلا أو آجلا – إلى تخوم روحه المتناثرة المتنائيّة عنه .
لم يجرؤ محمّد شكري على إيقاظ قرينه، قرينه الذي حسب أنّه أتى كي ينسج كفنه في الغيب ويصطحبهُ إلى الموت، لكنّهُ تجاسرَ على أن يسحب من الطاولة الصغيرة الجانبيّة قبعة القشّ الإيطاليّة البيضاء الخاصّة به، وببّغاءه الميكانيكيّ الأخضر. كما جرّ من خلفه بأنشوطة جلديّة كلبه الأثير «جوبا» ، مُقرّراً في تلك اللّحظة أن تكون هاته آخر زيارة له إلى فندق ريتز .. فالمرء يخوض أطول و أعسر سباق في مضمار حياته من أجل الهروب من نفسه، لذلك لا يحبُّ أن يلاقيها ممدّدةً إلى جواره عندما يذهب لقضاء ليلة ما في فندق.. لكن ، ترى هل سيجد فعلا باب الخروج  ؟!

(*) إحالة : حسب بعض الشعائر الشامانيّة الكونيّة التي ساقها ميرسياﺇلياد ، تقوم بعض قبائل شمال ﺁسيا بوضع لجام فرس وزجاجة نبيذ في يد المتوفّى اليسرى عند دفنه ، وهم يحرصون دائما على وضع هذه الأشياء في اليد اليسرى تحديدا وليس اليمنى ، لأنّ اليد اليسرى في عالمنا تقابل اليد اليمنى في عالم الموتى . وفي العالم اﻵخر تتدفق الأنهار بشكل معكوس ، أي من المصب ﺇلى المنبع . فالمعتقد الشامانيّ يؤمن بأنّ كلّ شيء مقلوب رﺃسا على عقب في عالمنا ، بيد ﺃنّه سيستعيد وضعه الصحيح في عالم الموتى ، لذلك نجد ﺃنّ الأدوات ﺃو الأواني ، التي يضعونها في مقابر الموتى تكون دائما في وضعية مقلوبة . وفي بعض الأحيان يحرص ﺃهل المتوفّى ومشيعوه على كسر الأدوات و الأواني قبل وضعها في مقابر الموتى ، لظنّهم ﺃنّ ما هو مكسور في عالما سيصير سليما في العالم اﻵخر . ﺃنظر :مرسيا ﺇلياد ، الشامانيّة والتقنيات العميقة للوجد ( باريس،1951 ).


الكاتب : أنيس الراّفعي

  

بتاريخ : 13/10/2023