«الباطنية بين الفلسفة والتّصوف» لـ محمّد البوغالي: في الحفر عن المنسي من أفكار المذاهب المنسية

سألوا أحد المولوية ذات يوم:
«لماذا تكون قلنسوتكم طويلة إلى هذا الحد؟»
فأجاب: «إنها أسرارنا.»»
كما أنّ هناك كُتبا كثيرة من طينة تلك التي جعلت نيتشه يصرخ ذات مرة بأنه: «ليست هناك كتبٌ جديرة بالقراءة»، فبالمقابل هناك كُتب قليلة تلك التي قد تستثير انتباهك، وتستنهض رغباتك الخاملة لتضع نظاراتك على أرنبة أنفك وتمارس هوايتك اللّذيذة: المطالعة. كُتب تَنحت خصوصيتها عميقاً لديك، وتصنع تميزها عندك، خاصة تلك التي تجعل موضوعها هو المقصي والمبعد واللا مفكر فيه، بما هي مجالات وحقول كبيرة لما يمكن أن يكون محل غواية هي بطبيعة الحال الألذ بين جميع الغوايات، «الباطنية بين الفلسفة والتّصوف» الصادر عن «مختبر الفلسفة والتّراث في مجتمع المعرفة» هو من أحد تلك الكتب، يطالعنا فيه صاحبه بأسرار نظام معرفي لظاهرة مثيرة للجدل معرفياً وسياسياً وعقديا نالت منها الاتهامات دون تنال ما تستحقه من الدّراسة والبحث.. إنها ظاهرة الباطنية التي يبحث محمد البوغالي عن خيوطها.

 
يكفي الباحث ـ أي باحث ـ يريد الكتابة عن الباطنية في السّياق الفكري العربي، أن يتخيل، وهو في أول خطوات إنجاز بحث يريده متكاملاً حول الحركات الباطنية وتاريخها في الإسلام، أن يُنصت جيّداً لقصة دمار أهم مكتبات الباطنية، وأقصد هنا دمار المكتبة الفاطمية ومكتبة قلعة ألموت، لتنهار داخل هذا الباحث كل إرادة للاستمرار في البحث، لأن ما بيده من كتب اليوم يبقى تافهاً أمام ما كان بيد أهالي قلعة «ألموت» عن مذهبهم وعن تاريخ حركتهم، وما كان في رفوف المكتبة الفاطمية بقاهرة المعز وتبدد لأجل رغبة جموحة في تدمير الفكر الباطني والانتقام من الحركة.
تقول الحكاية التّعيسة أنه لما دخل هولاكو إلى قلعة أتـباع الحسن بن الصّبّاح، سارع جنوده إلى تسلّق جدران قلعة آلموت التي بقيت صامدة في وجه أعتى الجيوش، وبعدما أبدى هولاكو إعجابه بمعجزة البناء الغريب للقلعة، أمر، كعادته، جنوده بهدمها. وقبلها أمر بحرق المكتبة التي يقول عنها أمين معلوف: «أنها كانت تحوي أفضل ما كان من أسرار الكون». تخبرنا الرّوايات أن النّيران التي التّهمت المكتبة دامت متوقدة على مدى سبعة أيام ضاعت خلالها مصنفات لا تعد، يشهد على هذا نصّ يورده الجويني، وزير هولاكو، في تاريخه حيث يقول: «ربما أنني كنت متشوقاً لتفقد المكتبة، التي طبقت شهرتها الأفاق، فقد اقترحت على الملك ألا تتلف الكتب النّفيسة. ووافق على اقتراحي وأصدر الأوامر الضّرورية، وذهبت لتفحُّص المكتبة، التي انتزعت منها كل ما وجدته في طريقي من نسخ القرآن ومن كتب مختارة أخرى على طريق: «هو الذي أخرج الحي من الميت». والتقطت أيضا الأدوات الفلكية (…) أما في ما يتعلق بما تبقى من كتب، والتي كان لها صلة بهرطقتهم وضلالهم والتي لم تكن مبنية على حديث ولا يدعمها عقل، فقد أحرقتها كله». وعلى غرار إحراق مكتبة ألموت أحرقت مكتبة القصر الفاطمي ومكتبة دار العلم، وضاعت ذخائرها ونُهبت، غير أن الذي دمّرها كان فعله بها أحسن بكثير مما فعله هولاكو بمكتبة الحشاشين، ما دمت قد استغلت جلود كثير من الكتب لصناعة أحذية يلبسها النّاس، وما بقي من المكتبة تم إحراقه، حتى أن رمادها كون تلالاً عظيمة في منطقة الأبيار، والتي ما تزال حتى اليوم تدعى بتلال الكتب، ورمي كثير منها في النّهر.
لا يكتفي محمد البوغالي بالتّبرم من واقع الدّراسات المهتمة بالباطنية التي تنحو نحو الرّكود الموشك أن يصير غياباً مفزعاً، منبئا عن ضحالة المنجز حول التّيارات الباطنية، ولا يتوقف مستسلماً عند وصف التّخليط الذي تعرفه الدّراسات القليلة عنها أو بالأحرى المنعدمة التي تخص إنتاج قول علمي رصين عن هذه الباطنية، ويأبى من جهة أخرى أن يتوارى خلف المنهج الذي تتبعه أغلب الدّراسات حولها من تكرار العروض حول تاريخ طوائف الباطنية وأصول تسمياتها وعقائدها ومشايخها، بل يعود لكل هذا من أجل بناء التّصورات الكبرى وتحصيل مفاهيم الباطنية فلسفياً، وتحديد العناصر المركزية المؤسسة لها، وتقديم صيغة نظرية لفكرها وتراثها التّعليمي، دون الرّكون إلى سياسة استعراض الأقوال الممجدة الإطرائية أو التّطويل في رصد وسرد الآراء المتحاملة والمنتقصة منها، فهذا آخر ما قد يجعله محمد البوغالي هدفا له.
في الحقيقة نحن من نختار أن نبتعد عن هذه المذاهب ونضع بيننا وبينها خنادق لا تردم هوتها، لنُكوّن عنها هالة مقيتة من الأحكام المسبقة، مقررين بألا نخوض من الأصل فيها. نكتفي بتكفيرها وتسويد وجهها، لذا فليس أمامنا من مراجع حول الباطنية إلا فضائح الباطنية. وليس لدينا من تعريف ثان عن الباطنية غير حصرها في طوائف الحشّاشين والقاديانية والدّروز وباقي الطّوائف المغلوبة على أمرها، والملعونة تراثياً من الفرق الغالبة. لهذا من المهم أولاً الإشارة إلى طيبوبة عنوان مؤَلَف محمد البوغالي والإشادة برغبته البحثية الأشد طيبة، والتي ربما يستقيها من طيبوبة تتملك دواخل المؤَلِّف نفسه. عنوان نتحسّس فيه شيئاً من الرّأفة بهذه الطّائفة، على خلاف بقية العناوين التي تزخر بها مكتباتنا حول الحركات الباطنية التي تمتاز بالقسوة في اشتقاق العناوين، والغلظة في الحكم عليها، ونذكر هنا كتاب فضائح الباطنية وقواسم الباطنية. خاصة وأن فِرق الباطنية كانت ولا تزال لايؤتى عليها بطرف لسان إلا ومعها الجملة الآتية: «عليها وعلى أتباعها من الله ما يستحقون»، على الرّغم من أنهم كانوا من أذكى فرق تاريخ الإسلام المذهبي والكلامي، فلا يذكرون بهذه الصّفة، وإنما يذكرون فقط بأنهم أهل إيغال في العلوم القديمة، خلطوا علوم الإسلام بعلوم الأوائل فمُسخ العِلمان. ولهذا لم يكن من ابن حزم الشّخصية المنفتحة في جهة الغرب الإسلامي إلا أن يكرّس التّصورات السوداء عن طائفة الإسماعيلية حيث لا يجد بُدا من أن يصفهم بترك الإسلام جملة، واعتناق المجوسية المحضة، وأنهم يؤمنون بالاشتراك في المال والنساء.
بالرّغم من أن عنوان الكتاب يُنبئ منذ البداية بأن العمل إنما يتحدث بصفة خاصة عن الباطنية فقط، غير أن المكونات الثّلاثة لعنوان العمل: الباطنية الفلسفة والتّصوف، هي كلها محاور عمل هذا العمل، يتم مقاربة كل مكوّن من زاوية أحد المكونات الثّلاثة، خاصة مادام أن التّصوف والفلسفة والباطنية كانوا يشتغلون بذات الوسائل، ويستعملون نفس الطّرق والأدوات في خلق الأتباع، وفي نشر علومهم التي غالبا ما كانت ملعونة هي وأصحابها لدى مكونات مجالات اشتغالهم. فالفلاسفة ونتحدث عن بعض تجارب فلاسفة الحضارة الإسلامية مارسوا أعمال التّنجيم كالكندي والطّوسي وابن سينا، وتمترسوا بالشّعوذة، وكلهم كانوا يتعلمون كتب الفلسفة ويُعلمونها في صمت تام، ووفق سرية تامة، لهذا يمكن تتبع مسار الفلسفة وعلوم التّعاليم معها وفق تشجير من شيخ لشيخ ومن فم لفم، تماما كما التّصوف، إنهم جميعاً صنف من التّعليمية، فالباطنية سموا التّعليمية لأن المعرفة لا تؤخذ من العقل، بل من التّعلم على يد الشّيخ المعلم وهم في هذا كالمتصوفة تماما، معرفة تُتعلم وتلقن فما لفم، وكذا الأمر بالنّسبة للفلسفة في كثير من فتراتها.
من هنا تكمن راهنية هذا المؤَلَّف، ففي تناغم كبير يجعل الحديث عن الباطنية منسجماً مع موضعات تخترق عالم الفلسفة وتخترق عوالم التّصوف، خاصة وأنّ موضوع الباطنية نفسه هو على قدر كبير من التّشابك والتّخليط، إذ يمكن إرجاع محاور الفكر المعاصر الكبرى إلى تراث الفكر الباطني، وهذا ربما هو ما جعل محمد البوغالي يوصي بضرورة تسييج أي دراسة للتيارات الباطنية بعُدّة منهجية توفرها الدّراسات اللّسانية ونظريات الهيرمينوطيقا والسّيميولوجيا وغيرها من الشُّعب الكبرى التي يمكن إرجاعها لرحم الباطنية.
الذين مضوا من الباطنية ولم يعودوا بيننا، يمكن فهمهم على ضوء الفكر المعاصر الذي يمكن إرجاع نقطه الكبرى إلى تراث الفكر الباطني، وهذا ما يجعل محمد البوغالي يوصي بضرورة تسييج أي دراسة للتيارات الباطنية بعُدّة منهجية توفرها الدّراسات اللّسانية ونظريات الهيرمينوطيقا والسّيميولوجيا بالإضافة إلى ما وفرته الفلسفات المعاصرة، لهذا فالكتاب ليس يبقى حديثاً عن موضوعات قديمة ومتهالكة، بل هو حديث ومحاولة جدية لإنتاج قول فلسفي في تخوم الفلسفة المعاصرة، ببساطة لأن ما وفّرته الباطنية للفلسفات المعاصرة كثير ومتعدد، ويمكن في هذا الصّدد فقط الرّجوع لكتابات أمبرتو إيكو في هذا الشّأن، لهذا فأغلب الموضوعات ذات الرّهانات الكبرى في الفلسفة المعاصرة قد تجد أصولاً لها عند الباطنية، فالهيرمينوطيقا أو نظرية التّأويل يمكن اعتبارها قضية منطلقاتها باطنية صرفة، لهذا وبمنطق ما فالباحث محمد البُوغالي لا يبحث في الباطنية بشكل أساسي كما يعتقد القارئ، وإنما يبحث في موضوعات فلسفية لها راهنيتها، وما الهيرمينوطيقا إلا تيمة وموضوعة من تلك الموضوعات المعاصرة. ومن جهة أخرى تكمن خطورة الكتاب في كونه يتعامل مع معرفة هي معرفة سرية أصلاً، والكتاب هو اشتغال حول هذه المعرفة السّرية: طُرقها وطَرائقها، إنه تحد صعب وشاق، فكل حديث عن السّر هو أصلاً حديث يحدث في النّفس خوفاً ويثير فيها رهبة: أخلاقية، دينية، قانونية. إنّ إنتاج قول مفهومي عن الباطنية هو حديث بطريقة ما عن فرقة لم تطبع الحياة المذهبية لمشرق العالم الإسلامي فقط، بل وطبعت تاريخ المغرب السّياسي والفكري والعقدي.
قد يكون للكلام عن السّر لذة خاصّة، وشبقية أخص، خاصّة في زمنٍ الكل يلهج فيه بتناقل أخبار الفضيحة، فكل ما هو باطني يمتلك غرائبية تدعوك لكشف غرابتها، ولفضحها، لا بمنطق الفضيحة المتداول، ولكن لتفجير أسرارها المعرفية، إن تَملكنا حقيقة أسرارها، وكذا الحديث عن الباطنية في الإسلام يمتلك طابعاً خاصّاً، يستلزم خوضُ الكلام فيه جرأة خاصة، ومقدرة كبيرة على الحفر والقراءة في ما بين نصوص تتسيد على الغموض، بما هي مذاهب الباطنيين سيدة الغموض والخفاء ومثوى السّر الذي يجب الحرص على عدم إفشائه، رغم ما قد يلحق الدّارس والباحث في هذا التّراث المسكوت عنه من اتهامات يجلبها له المتداول بين الناس من صور وتهيؤات حول الباطني من كونه ذاك الدّاعية الموغل في كتم ما يعتلج في دواخله، إنه حابك المؤامرات بالدول، والمقبل على الاغتيالات بقلب خاشع، وبفؤاد كله أسرار بعمق جُبّ النّبي يوسف أو أعمق قليلاً، الباطني الذي لا هم له غير قيام دولة السّر والباطن، وزرع بذور الخوف والرّهبة في أعداء دولته المرتجاة الوجود.
رغم أنها كانت على مرّ الزّمان ظاهرة مطاردة ومشبوهة وتسبقها الاتهامات السّلبية التي تخص طبيعة اشتغالها وحصولها على أتباع جدد، وتخصّ أيضاً طريقتها الخاصّة في خلق أقطار سياسية لها، ورغم تاريخ فِرقها الدّرامي والدّموي المليء بالانكسارات والمآسي والإحباطات والانتظارت المُرجأة، فإنها عند الباحث محمد البوغالي تبقى ظاهرة مثيرة ومستفزة يجب العناية بنصوصها، والتّنبه إلى زخمها التّاريخي المثير، إذ تبقى بالنّسبة له من المذاهب القادرة على الصّمود رغم ما تلقته من ضربات على يد السّاسة وسياسات الحصار والتّخويف التي وجهت إليها على الدّوام من لدن المثقفين في العالم السّني كما في بقية بقاع العالم، ويعود الفضل في بقائها إلى أنظمتها السّرية الخاصة التي يفصل الباحث محمد البوغالي القول فيها وعنها.
الحديث عن الباطنية في شقها النّاشئ على أرض الإسلام بالنّسبة لـمحمد البوغالي ليس حديثاً عن الإسماعيلية فقط، باعتبارهم المذهب الأكثر ذيوعاً وشيوعاً، ولا عن الفرق الأخرى التي نسلت من تحت عباءتها، كالحشّاشين أو الدّروز أو النّصيرية، وليس حديثاً بالضّرورة عن الأصول التّاريخية لهذه الفرق أو امتدادتها، وإنما بغية الباحث كانت هي تتبع رحلات المعنى التي تقوم بها مفاهيم الباطنية التي تثير فضوله عبر محطات شتى، فيتعقبها وهي في حضرة الصّوفية ولدى السّحرة، فالخيميائين، والأطباء، والهراطقة القرسطويين، إلى أن تستقر في مذهب فلسفي لأحد الفلسفات المعاصرة، أي محاولة ربط التّجربة الباطنية داخل أرض الإسلام بالتّجربة الباطنية عند سائر الحضارات الإنسانية، ليرتبط المحلي بالكوني، وليهب لنا بحثاً هدفه الحفر عن الأصول النّظرية التي تؤسس للفكر الباطني لا في حيزه الإسلامي وإنما في الحيز الأكبر وهو الباطنية عبر رحلتها الإنسانية، لذا يأبى محمد البوغالي إلاّ أن يستحضر الآراء الغنوصية، والمذاهب الإشراقية، وتاريخ الخيمياء، ومقالات المنجمين وأخبار السّحرة وطلاسمهم، وقُصاصات أخبار الهرامسة الأوائل والمتأخرين، ليحدد لنا شعاع دائرة الإستفادات من الباطنية، وقُطر تأثيراتها البعيدة والقريبة.
يبغي الباحث لكتابه أن ينزاح أن ذاك التّقليد الخائب الذي دأب عليه الدّارسون الأوائل والذي جعل الباطنية سجينة ذاك المعتقد الذي لازمها ، وأسهم في تكريسه هامات وقامات كبيرة من بينها الغزالي الذي نال من الباطنية بذات الدرجة التي نال من الفلسفة، بكونها باطنية سيئة تحشد المتآمرين وذوي المشاريع الشّريرة والنّفوس الشّرسة للفتك ببيضة الإسلام، ويبغي أيضا أن ينتج قولاً فلسفياً عميقاً وأصيلاً يتخذ مسافة آمنة جداً بين المقاربتين التي اقتسمتا الحديث عن أهل الباطن، وخاضتا في غمار تفصيل القول عن هذا التّيار الذي يخترق تاريخ الإسلام وتواريخ الإنسانية وهو تيار الباطنية، فهناك المقاربة العلمية التي قد تهوي بالباحث المنتمي إلى صفوفها إلى خبث تفسيري يجحف في حق الباطنية ممارسةً وتنظيراً، ساعياً لتشريح الظاهرة دون سعي آخر يواكبه هدفه الإحاطة برأي الغالبية من النّاس منها، وهناك المقاربة الإطرائية الدّعائية التي تريد تبرئة ساحة الباطنية والدّعاية لها بحشد جماهير وجحافل الأتباع الجدد.
على طول الكتاب يقدم لك محمد البوغالي تأويلات تغري القارئ بالاستمرار في متابعة القراءة، فللمتخصص فقرات، وللذي لا يزال في مرتبة من يحاول أن يعرف ما الباطنية فقرات، كلا يُمد هؤلاء وهؤلاء، فتحضر عنده أقوال المجذفين من أدعياء الحكمة، ومقولات عَسَسِ العقيدة وحراسها من المتكلمين، وتحضر أيضا مأثورات الحسن الصّبّاح، وبجانبه نصوص أمبرتو إيكو العتيدة عن الهرمسية، ويحضر قاموس الفيروز أبادي وبجانبه معجم لالاند الفلسفي، وتحضر كتب الحديث السّنية وبجانبه أمهات الحديث الشّيعية، ويحضر هايدغر وشذرات من نصوصه الكبرى، وبجواره يحضر وبشكل غير منتظر الرّازي المتكلم والشيخ الرّئيس، ويحضر الجابري وهنري كوربان من جهة ثانية، تماماً كما تحضر شطحات المتصوفة أولياء الله مع هرطقات القرسطويين الملاحدة.
رغم أن الأمر شبيه بتصوير حوار بين مونتيسكيو وميكيافلي، فإنما لكل تبريرٌ لوجوده، وإلحاحٌ ما لحضوره، دون أن يكون استحضاره واهباً للمكتوب تشويشاً ينتقص من قيمة العمل، ودون أن يفترض تزويراً ولا تزييفاً للقول المُنتج، وزللاً للمعنى وانحرافاً فيه، ولا زيغاً عن مضمون الدّراسة، ولكن لينحت جدّة له، وكل ذلك في تناغم كبير يجعل الحديث عن الباطنية منسجماً رغم تعدد فرق الباطنية واختلافها من جهة القواعد المؤسسة والفترات التاريخية التي تنتمي إليها، وخاصة وأن موضوع الباطنية نفسه هو على قدر كبير من التّشابك والتّخليط، لهذا تكون استشهادات محمد البوغالي المختلفة لا مسايرة لهذا التخليط وإنما محاولة للتخلص منه.
الكتاب لا يكرر الطّريقة التي لطالما تعاملت معها الكتابات مع هذه الفرقة، فكل من كتب عنهم كان لا يعنيه في شيء إلا فضائحهم التي كما يقول البغدادي هي أكثر من عدد الرّمل والقطر، فهم لا يرون في أنفسهم بأنهم بشر عاديون، أو حتى متفوقون على بقية البشر بدرجة القرب من الله والفهم عنه، بل إنهم ملائكة وغيرهم من المخالفين شياطين، فيؤتى للشهادة عليهم تأويلاتهم التي لا تقبلها باقي الفرق المخالفة لهم، فمن منظورهم يجب تأويل كل شيء، فمن يستند على تأويل الباطن فهو من الملائكة، ومن يعمل بالظّاهر ويكتفي به هو شيطان (ولعياذو بالله)، تأويلات تنتزع كل مضمون العبادات والوصايا الشّرائعية، حيث يصير الصّوم هو الإمساك عن إفشاء السّر الباطني، ويصير الزّنى هو إفشاءً مقيتاً من لدن التّابع للسر، ونكثاً وقحاً منه للعهد، والجماع إنما هو أن تدعو من لا علم له بعقائد الباطني، أما الطّهارة فهي أن تتطهر من سائر المذاهب الأخرى، وأما الزّكاة فهي بث هذه العلوم بين الناس وليس تصدق بما فضل عن مكنوزات التّابع الباطني من المال والذّهب والفضة والحنطة. والحج طلب العلم الباطني وليس السّفر إلى الكعبة، أما الصّلاة بحسب تأولاّتهم هي مولاة الإمام وطاعته لا في السّجود والرّكوع وإنما في كل ما يأمر به وينهى عنه.
إحالات المؤلِّف المنبثقة من توجهات معرفية شتى قد تحيل البحث بالتأكيد إلى موسوعية مخيفة وساحرة، تؤكد أن صاحبه باحثٌ عنيد، وترسخ فكرة أن عالَم الرّجل كان ولا يزال هو مكتبته التي هي مكتبة الباطنية، إذ تحضر الشّخوص الرّوائية، ومعتقدات ووصفات السّحرة، وتعاويذ المنجمين، وجداول الخيميائيين وجذاذاتهم التّعليمية، ودلائل المتكلمين وبراهين علماء اللاهوت وحجج الفلاسفة، وفق استراتيجيات، الله والكاتب وحدهما من يعلمانها، لكنها استعارات وإحالات تكتسي أهمية لا يمكن تجنبها، فهي لا تحجب الرّؤية بقدر ما ترغب عند صاحبها في استثارة تأويلات كثيرة تربط الباطنية بمجمل العوالم التي اطلعت بالتّأثير فيها والمتح منها، فتتحاور النّصوص في ما بينها، وتناقش بعضها سامحة للقارئ البسيط الذي لا يدرك مدلول حضور الاستشهاد في متابعة تطور التّحليل وتطوير حبكته.
إنها مغامرة بالتأكيد تخرج عن العادي والمألوف في البحث، تتخلص من إكراهات الدّراسات القليلة، وترفض أن تظل أسيرة مناهج بالغة التّقليد في التّعامل من النّصوص الباطنية حد الرّداءة والإسفاف بها، وتنزاح عن مثالب الدّراسات القلقة الملآى بالتناقضات والتّعقيدات التي لا تنتهي، والتي لا يذعن لها محمد البوغالي، فيتعامل مع الإرث الهائل للباطنية: ما كتبه المحسوبون عليها، وما ألفه الخارجون عن دائرتها، بهدوء أعصاب غريب وبوقار رجولي.
رغم الأحكام التي أُلصقت بالباطنية وفرقها في التّاريخ العربي، ورغم التّهويل الذي طال حركتهم، فلا ينبغي أن ننسى أن الحشّاشين أحد فرق الباطنية، وأشدها فتكاً، رغم خطورتهم، فهم الذين وهبوا لنا الغزالي المتصوف الذي سيملأ بكتبه الصّوفية حواضر العالم الإسلامي، من حيث سيصبح «إحياؤه» قانون التّصوف، فالذي قاد أبا حامد نحو التّصوف هو هواجسه التي صارت وسواساً قاهراً من خوفه اغتيال الحشاشين له، لما سبق منهم من اغتيال الكثير من أصدقائه، يقول صاحب «المنتظم في التّاريخ» واصفاً هذا الخوف: «وكنا إذا خرج الطّفل أو الرّجل وتأخر إلى ما وراء العصر علمنا أنهم قتلوه». الخوف هذا هو الذي قاده نحو تجربة الشّك، فقد قتلوا السّلطان والعديد من أصدقاء ومعارف أبي حامد، ولنتخيل درجة التّرهيب التي كان تمارسها هذه الفرقة الباطنية أن السّلطان صلاح الدّين اتخذ احتياطات واسعة للحفاظ على حياته من اغتيالات فرقة الحشاشين، فكان ينام في برج خشبي أقيم خصيصاً له، ولم يكن يسمح لأحد لا يعرفه شخصياً بالاقتراب منه.
قارئ الكتاب لا يضل سبيله داخل الكتاب ولا يشقى، فالحديث عن المعاني البعيدة المنال يتم بأسلوب يستهويك ويأخذ بتلابيب رغبة الاستمرار في القراءة لديك، فالكاتب من جهته يرفض أن ينصب لقرائه سلسلة فخاخ لا يتحكم فيها حتى الكاتب نفسه، فهو يتمحل أن ينتج نصّاً دونماً كمائن ومتاريس أمام قارئه، دون أن يعني هذا الإسفاف في الشّرح والتّفسير، الشّيء الذي قد يهبنا نصّاً رثاً أو رديئاً يواكب الذّوق البسيط، وإنما هو أسلوب يمد يده للقارئ فيضرب المؤلِّف بعصاه الموسوية مستغلقات المفاهيم الباطنية فينفجر الغامض منها، وينبثق الطّريق وسط أوار البحر المتلاطم بالنّصوص والطّلاسم التي تختصر ثراء المكتوبات الباطنية الضّائعة، فيكلِّم ببركة منه الأصم من الأسرار، ويبرئ ما اعوج القول عنه وفيه. فيمكنك أن تعرف مضامين الباطنية وتحوز على صورة متكاملة عنها من خلال الفهرسة الغنية التي ستفتح شهية القارئ المختص والعادي على حد سواء، فهي فهرسة تهب القارئ توجيهات للقراءة شبيهة بالتّوجيهات التي توفرها بطاقة مواقيت القطار، أو طريقة استخدام مرهم أو دواء ما، إنها باختصار الصّنعة في الكتابة.
* باحث في مختبر الفلسفة والتراث في مجتمع المعرفة


الكاتب : محمد صلاح بوشتلة

  

بتاريخ : 06/09/2019