البعـــــــد النفسي وشعريـــــة المدينة في «هلوسات» نور الدين ضرار

إن المتتبع لمسار الشاعر نور الدين ضرار، لا بد أن يفتح عينيه على عوالم تجربة شعرية متجذرة لقدرته باستمرار على بلورة آلياته الفنية والتخييلية، مما مكنه من الخروج عن السائد المألوف في خوضه غمار الحداثة الشعرية العربية، انطلاقا من رؤيته الخاصة المدعومة بمرجعياته الفنية والفكرية المتنوعة.
يعد الشاعر المغربي نور الدين ضرار من الشعراء العرب المعاصرين الذين تميزت شعريتهم بثراء فني ومعرفي، يمتح من التراث العربي الإسلامي، كما يمتح من قطوف الثقافة الغربية، بشكل مكنه من صقل تجربته الإبداعية وترسيخ مواقفه الفكرية بكل تميز وتفرد. وهو في ذلك يستمد ركائزه من أنسقة الثقافة التي ينتمي إليها دون الخضوع لها، بحيث يعمد لإعادة صياغتها شعريا للكشف عن مضمراتها المسكوت عنها، منطلقا في ذلك من مخزونه الثقافي المتنوع الذي يتداخل فيه النفسي بالاجتماعي واللساني بالفلسفي، محتفيا في كل ذلك بجمالية اللغة وموسيقية الإيقاع وجدة الصور الشعرية، بتمثلات تخييلية واسعة وتصورات فكرية عميقة.
انطلاقا من هذه القناعة ، سأحاول ملامسة الأثر الذي خلفه لدي ديوانه المتميز «هلوسات خارج التغطية»، وحينما أقول الأثر، فإن ذلك يعني أنني لن أقوم بقراءة شاملة للعمل لتشاكل مكوناته الفنية، بل سأكتفي فحسب بعرض مجموعة من التأملات التي تحصلت لدي من قراءاته المتعددة.
إن أول ما يثير انتباهنا هو العنوان، إذ من المفروض أن يختزل البنيات الدلالية والرمزية للديوان. فإذا كانت الهلوسة هي ضرب من الشعور بمحسوسات غير متحققة في الحياة المادية ومختلفة عن مفهوم الحلم، فإنها تُصَنَّف في علم النفس كتهيؤات أو تخيلات يعتقد الإنسان أنها وقائع حقيقية بفعل اختلاقات ذهنية واختلالات نفسية. هذا مع التساؤل عن طبيعة العلاقة بين الهلوسة المَرَضِيّة والتخييل الإبداعي. أما الوحدة اللغوية الثانية في العنوان فهي «التغطية» التي تتموقع الهلوسات خارجها، مما يفتح العنوان على قراءات دلالية مفتوحة.
وإذا كانت بنية العنوان تحتضن لفظة هلوسات، فإن عنونة نصوص الديوان لا تخلو من ألفاظ تشترك معها في العديد من الخصائص والسمات، مثل: سنوبيا وفوبيا وفرينيا.. وهي ألفاظ تحيل على مرجعية الشاعر السيكولوجية، وتؤثث فضاء الديوان ببعض النظريات الفرويدية التي أعتبرها مفاتيح أو آليات لتفسير مجموعة من الظواهر النفسية كالجنون واللاوعي والحلم والاستيهام والهذيان، وغيرها من الظواهر المجسدة للاوعي والمسكوت عنه من مكنونات الذات الشاعرة وتمثلاتها للعالم والحياة. وتحظى باهتمامنا أيضاً في هذا الديوان، تلك النصوص الشعرية القصيرة جدا التي بأرها الشاعر، وجعل منها لقصائده مداخل رئيسية معنونة جميعها بـ»خارج النص». وباعتبار لفظة «الخارج» واردة في عنوان الديوان ومصاحبة في نفس الوقت لهذه النصوص القصيرة، فإنها تثير أكثر من سؤال: هل هي خارج النص الرئيس، وخارج سياقه؟ أم هي خارج نص مضمر لا تتضح معالمه إلا بعد قراءة الديوان برمته؟ وإلى أي حد تشكل هذه النصوص القصيرة بحكم ذلك، نسقا شعريا مستقلا قائما بذاته؟
إن الإجابة تكمن في تساؤلنا الأخير، خصوصا إذا عرفنا أن الشاعر نور الدين ضرار يعشق مثل هذه النصوص المضغوطة بشعرية مركزة. ونقصد بها هنا شعر الهايكو الذي يعتبر نور الدين ضرار أحد رواده، إذ يتفتق كما يراه «عن كون شعري متناه في مشهديته»، باعتباره إبداعا جماليا ورؤيوياً كاشفا عن دواخل الأشياء. والواقع أنه يتعامل مع هذا الضرب الشعري بحساسية خاصة، إذ يخضعه للتجريب والتجديد سواء بتوظيفه كمدخل لنصوصه الطويلة أو بإدماجه كتقنية في بنياتها بشكل مكنه من تأصيل هذا النوع الشعري، وربطه بخصوصية الهوية الثقافية العربية، بعيدا عن كل تقليد أو اجترار. يقول في مدخل إحدى قصائده:
«ما يكون الليل يا شيخي؟:
وليكن عباءة من حلكة الوقت
على الأرض حجابا من سماء،
أو ليكن بوحي من الغيب
بردة الله المسدلة
على أكتاف الشعراء» (ص56)

إذا كان النص الشعري بناء فنيا مركبا يتولد بموجب تفاعل عناصره ومكوناته الخاصة، فإن الشاعر يختار لنفسه موقعا غير محدد، يسمح له بالانتقال بين الذات المتكلمة والذات المتلقية. إنه يتواجد داخل النص الشعري وخارجه في الآن ذاته، وبناء عليه نلاحظ أن الشاعر في النصين: «سنوبيا الكائن الأوحد» و»فوبيا النهايات»، يحاول الخروج من الدائرة المغلقة للقصيدة الشعرية إلى نصوص شعرية مفتوحة، تدفع بحركية القصيدة لكي تتنامى وتستمر، وتنتقل من حالة وجدانية إلى أخرى، وذلك من خلال تخصيب اللغة الفنية وتأكيد قدرتها على تشكيل أبنية الوعي الخاصة بسياقها النصي في الثقافة وفي المجتمع.
وسواء في قصيدة «فوبيا النهايات» أو «سنوبيا الكائن الأوحد» الموزعة إلى خمس حالات بعدد الحروف المشكلة للفظة «هذيان»، نلامس رصد الشاعر لطقوس العبور بالمفهوم الصوفي، إذ أنَّه يقوم بشعائر الصوفي في تحولاته المقامية، حيث ينتقل من وضع المُهَمَّش إلى وضع المؤثر الفعال في المجتمع، وبذلك يصبح للإبداع الشعري أهمية حيوية بالغة في مواجهة التهميش والخضوع. وإذا كان الشاعر يرفض الواقع، فإنه يقوم بذلك ليعكس حالته القلقة المتولدة لديه من خلال رصده لهذا الواقع، و ما يحبل به من مفارقات وإحباطات. إن وضعية الشاعر المتأزمة مع واقعه المتردي ناجمة عن الرغبة في تغييره ما دام لا يتناسب مع قناعاته الفكرية/الأيديولوجية. يقول:
«أفسحوا لي في غمرة الهتاف
ناصية على الرصيف كي أستريح،
أو اتركوا لي كرسيا مهترئا
في مقهى العطالة
لأسكنه للأبد..
وليكن لي على أرصفة الهباء
أن أدمن لآخر العمر هذياني
كأني كل الناس
وكأني لا أحد..» (ص: 19)
إن الشاعر يعمل هنا على استبدال واقعه تحت ضغط نفسيته القلقة، في إطار علاقة جدلية بين النفسي والاجتماعي. ومن ثمة فإن هذا الاستبدال يؤكد أن الحالة الوجدانية الداخلية للشاعر ترغب في تغيير الواقع الاجتماعي لاستحالة انسجامه فيه. يقول الشاعر:
«هاكم لآخر العمر
دِنانِيَ المشتهاة
على مصطبّة المساء،
أمّا أنا،
فكلّ أعماري استنفدتُها
في صَبوةٍ على حافة السماء» (ص:10)
إن الوضع النفسي القلق للشاعر يدعوه للانقطاع عن الواقع، وبذلك ينشط لديه فعل التخييل الذي يتجسد في مستويات متعددة للذاكرة والحلم والرؤية، بحثا عن بدائل تتسق مع الموقف الفكري والوجداني للشاعر. إنه ليس هنا بوصفه ذاتا فردية، ولكن بوصفه ذاتا جماعية، حيث يصبح الشعر لديه وسيلة فنية وإبداعية لتثوير المفاهيم الفكرية، وتغيير أبنية الوعي عن طريق اللغة الشعرية، وما تحبل به من ممكنات تصويرية وتخييلية وجمالية.
من هذا المنظور، يشكل شعر نور الدين ضرار فضاء لتثوير اللغة التي تعد عنصرا مهما في تشكيل أبنية الوعي بالواقع لتصبح الكلمة لديه معادلا لغويا للفعل الثوري وفق تصوراته الخاصة، ويصبح الشعر بموجب الانزياح هدما وبناءً في الوقت ذاته، كما هو الشأن بالنسبة للفعل الثوري الذي يغير ما هو كائن ليقدم ما ينبغي أن يكون. وللقارئ أن يتأمل معي قوله:
«لي هَدأة مَلاكٍ
بِلَوثةِ الطغاة..
أنا عثرة التاريخ
وخيبة الثورات،
بلا صَولةٍ ولا صَولَجان،
لا ولا حتّى طغمة من عَسكَر
على حَفنَةٍ من جَنزَر
تُتَوِّجُني عليها سَيِّدَ الوقت والمكان» (ص:15)

إنّ نور الدين ضرار لا يعمد لصياغة الأحداث الرمزية بالمعجم وحده، بل أيضا بفعل التخييل الذي يتشكل بواسطة لغته الشعرية، وذلك بشكل يتجاوز الواقع إلى ما يوحي به واقعا محتملا، لأن عناصره ومكوناته تظل حقيقية، وإن تم دمجها في سياقات تخييلية متباينة متنوعة، وهذا ما يسميه «جون كوين» بجماليات اللغة أو جماليات الخيال، يقول نور الدين ضِرَار:
«وأنا
كلما أسدَلتُ
على المسافات ظِلاليَ الجامحة،
اختصرت عمري
بلاغة الأزمنة..
كلما أرخَيتُ
على السواحل قلوعيَ الجامحة
ابتلعتْ وجهي رطوبة الأمكنة». (ص: 25-26)
إن حضور المدينة في القصائد الثلاث الأخيرة من الديوان «كاميكازا» و»كوسمو-فرينيا»
و»فانطازيا المسافات»، يعتبر من الشروط الحداثية التي ساهمت في إخصاب الرؤى وتجديد الدلالة لدى نور الدين ضرار، لأنه قد تعامل مع المدينة باعتبارها موضوعا يضمر أنسقة ثقافية سلبية يجب الكشف عنها واتخاذ موقف منها بهدف معالجتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ثيمة المدينة قد حظيت باهتمام الشعر العربي المعاصر، وخصوصا لدى الشعراء الرواد، حيث تعددت مدلولاتها الرمزية في نصوصهم وتباينت بين الغربة والضياع والخيانة والنفاق والاستغلال.. هذا فضلا عن إحالتها لدى العديد منهم على فقدان الأمان والاستقرار وانعدام التوازن النفسي المولد لليأس والقلق، وغير ذلك من أمراض العصر.. فإلى أي حد يمكن القول إن الشاعر نور الدين ضرار يبحث هو الآخر عن المدينة الحلم ملاذا يقيه من الاغتراب ومن الألم، ويحقق له الحب والأمان وطهارة النفس؟ وهل يعتبر ذلك تفسيرا لرغبة الشاعر في مواجهة واقعها الذي تحول إلى مدلول رمزي يحيل على الضياع والعزلة والجذب الروحي، علاوة على قبحها الأخلاقي؟
إن نور الدين ضرار من الشعراء القلائل الذين راهنوا على اشتغال متخيل المدينة في بناء مشروعه الشعري ككل، وذلك بغية تعميق تجربته الإبداعية وربطها بتعميق السؤال الوجودي الذي يرتبط بمفهوم المكان وبالواقع الخارجي، الشيء الذي فرض عليه توظيف آليات الإدراك والتعبير لرصد متخيله المديني بشعرية فائقة. لذلك يمكن القول إن الشاعر قد اشتغل على ثيمة المدينة/المكان باعتبارها عنصرا محرضا ومستفزا في الآن ذاته، و بذلك أصبحت مكونا أساسا في تجربته الشعرية، حيث يندمج النفسي بالاجتماعي ويندغم الفني الجمالي بالإنساني، يقول الشاعر:
«في كلِّ خطوةٍ طائشة،
أخترق طقوسَ المدينة
بلا خرائط لِتُخوم مَداي،
أمشيها دروباً مسروجة
تنقادُ بمطايا الريح لخطاي..
أذرَعُها ضَلالاتٍ مَمشوقةً بالظلال
ظلي فيها
أكبر من عثرةِ الأرض
بين مسالك الغمام» ص: (58-59)

هكذا تشكل المدينة جزءا لا يتجزأ من رؤية الشاعر ضرار للعالم والحياة، لأنها في نظره نسق ثقافي يعبر عن خيبات الأمل في الواقع، ويكشف عن عذابات الإنسان الذي فقد إنسانيته وسقط في فِخاخ الضياع والانكسار والفراغ الروحي. يقول:
«لا شيء.. لا شيء..
لا شيء على ما يرام .. لا شيء على الإطلاق،
ثنايا ظلالٍ مُجردُ مَحاجرَ عالقةٍ
بسحنة إسفلتها.. بحدقات الغمام..
زوايا مَتاهٍ مجرد فداحاتٍ طاعنةٍ
بفسحة أرصفتها.. في شهوة الغفران،
مرايا أبراج ووجوهٍ طافحةٍ
بأفلاك أرصدتها .. بطلاء الملائكة..»
بقايا أشجار (ص:52-53)
بقامة طوارها،
وبعض من عصافير جافلة….

ومن يقرأ «كوسمو-فرينيا» لا بد أن يستنتج أن الشاعر يحاول نبذ المدينة، لأنه يشعر في كنفها بالاغتراب، وإن كان لا ينظر إليها من زاوية فردية أحادية، بل يتعامل معها باعتبارها وضعية جمعية تحت طائلة الذل والظلم والاضطهاد. وبذلك يتحول الشعر بدوره إلى فعالية اجتماعية وسياسية وفكرية وجمالية، تستهدف التغلب على كل الأنساق الفاسدة التي تهدد بتفكيك العلاقات الإنسانية داخل المدينة. ومع ذلك يمكن القول إن ضرار يعتبر المدينة، رغم قلقه النفسي والوجودي، مدينة الحلم والأمل. يقول:
«أنا المَطرُ الهادرُ
مِن دَفقَةِ الغَيمِ
لعطش المدينة..
أنا الزّخَمُ العابرُ
من خَفقةِ الحُلمِ
لوهج القصيدة..» (ص:30)

ومن السمات التي تستوقف القارئ لشعر ضرار في هذا الديوان، كما في مجموع أعماله، هو الإيقاع الذي يتميز لديه بعمق فني خاص، بحكم ثقافته الموسيقية العالية، ذلك أن يتجاوز به تواتر القوافي وجرس الحروف والصيغ المتوحدة في النص الشعري إلى هذا الوقع العميق في نفس القارئ ووجدانه.. إنه ليس مجرد إيقاع شكلي يرتبط بطبيعة التفعيلة، ولكنه إيقاع نفسي بأبعاد تعبيرية وجمالية مرتبطة بقيم فكرية وإنسانية سامية، يقول الشاعر:
كل السبل الغبراء كل الطرق العشواء
المتوغلة في أنحائي المتناسلة من شتاتي
كلما راودتها مطايا أسفاري كلما ساحلتها تخوم جهاتي
امتدت متوثبة ارتدت متعبة
من خيزوم حذائي … بمد الأنواء ورائي..» (ص:24)
وبناء عليه، يمكن القول إن شعر ضرار يشكل فضاء لغويا يحتدم فيه الجدل بين الثبات
والحركية وبين الخفاء والتجلي، وتتحقق فيه فاعلية العناصر والمكونات الشعرية الكاملة التي تتولد بموجب ما تعبر عنه من رؤى، وما تحتضنه من قدرات على الكشف والبوح. إنه نموذج للشعر الذي يؤمن بأن وظيفته الأساسية هي التعبير عن إنسانية الإنسان، وعن علاقة هذا الإنسان بنفسه أولا وبواقعه الاجتماعي ثانيا، كما تتمثل هذه الوظيفة في رصد طبيعة العلاقات الإنسانية وما شابها من تصدع نفسي ودمار أخلاقي، ولعل ذلك هو ما يفسر تفجر هذا الشعر بالألم الذي يعكس معاناة الذات الشاعرة ونشدانها للطمأنينة الروحية والاستقرار النفسي.


الكاتب : الدكتور محمد فراح

  

بتاريخ : 22/01/2021