البلاغي المغربي محمد الولي: محاولات سجني داخل تراث واحد، ليست من اختياري، أنا اخترت الانتماء إلى العالم

نحاول تفكيك التراث وجعله عجينا رطباً قابلاً لتفويته إلى العقول الشابة

 

يعتبر الدكتور محمد الولي من البلاغيين الرواد ممن يرجع لهم الفضل في خلخلة صروح البلاغة التقليدية التي زكتها مؤسسات الدولة وفرضتها في المقررات المدرسية في التعليم الأصيل خاصة وغير الأصيل، وممن أخرجو البلاغة من الخرائب المخيفة حيث يُفرض نظامُ الحفظ والاستظهار، ويمنع الاجتهاد ووضع الأسئلة بصدد ما يعتبر من البديهيات التي لا يرقى إليها الشك، في محاولة منهم إعادة صياغة البلاغة العربية بلغة عصرية، لتقريبها ليس من الفكر الغربي وحسب، بل من الفكر العربي المع اصر، ومن القارئ العربي.

 

 

لقد فك البلاغيون العرب الجدد، وأنا في موكبهم، الحصار على البلاغة. إنها تعيش اليوم في سهول مترامية الأطراف، وأصبحت أغلبية العلوم تخطب ودها من نقاد الشعر والسرديات وعلماء الإشهار والخطاب السياسي

لقد أخرجنا البلاغة من الخرائب المخيفة حيث يُفرض نظامُ الحفظ والاستظهار، ويمنع الاجتهاد ووضع الأسئلة بصدد ما يعتبر من البديهيات التي لا يرقى إليها الشك

الأستاذ محمد الولي، يعتزم المركز الأكاديمي للدراسات الثقافية والأبحاث التربوية تنظيم مؤتمره الدولي الثاني حول أبحاثكم خلال مارس القادم، تعتبرون اليوم أنتم وبعض الأساتذة القلائل، رواداً في تجديد البلاغة العربية؛ فماهي أهم الإضافات التي قدمتموها والتي يمكن اعتبارها تجديداً في هذا المجال؟

أولا، أشكرك جزيل الشكر على الدعوة لإجراء هذا الحوار الذي أرجو أن يجده القارئ مشجعاً له على استئناف السير في الاتجاه الذي فتحناه منذ حوالي أربعين سنة.

ماذا قدمنا للبلاغة؟ نعم. أولا لقد تمكنا من نشر ثقافة مناخ بلاغي، بديل لمناخ شراح عصور الانحطاط. فلم تعد البلاغة اليوم سجينة المختصرات والمنظومات والشروح، وشروح الشروح. لقد خرجت البلاغة من تلك الخرائب؛ وها هي اليوم تستمتع بربيع عمرها، ترافق الشعر والسرد والإشهار والدعاية السياسية، بل لقد اقتحمت مجال خطاب العلوم الإنسانية. إن الاستعارات التي استعان بها فرويد جديرة ببحث مستقل. ويمكن قول نفس الشيء عن بقية علوم الإنسان، مثل التاريخ والأنتروبولوجيا بل وحتى خطاب النقد الأدبي نفسه. انتبه إلى استعارة «نقد» وإلى «استعارة» ، إنهما مفهومان بلاغيان إذا جاز القول. هما استعارتان: «نقد»/ «مال» و «استعارة» / «اقتراض».
لم نتمكن فقط من خلخلة صروح البلاغة التقليدية التي زكتها مؤسسات الدولة وفرضتها في المقررات المدرسية في التعليم الأصيل خاصة وغير الأصيل، ولم نتمكن من إعادة الاعتبار لها في مواد تحليل النصوص الشعرية فقط، ذلك التحليل الذي يفقد كل مبررات وجوده دون تحليل بلاغي، بل لقد أخرجنا البلاغة من الخرائب المخيفة حيث يُفرض نظامُ الحفظ والاستظهار، ويمنع الاجتهاد ووضع الأسئلة بصدد ما يعتبر من البديهيات التي لا يرقى إليها الشك. لقد بح صوتنا ونحن نردد: إن البلاغة المدرسية المتمثلة في الثالوث: معان وبيان وبديع، ليست مناسبة للدرس الأدبي لأسباب علمية واضحة، منها غياب الانسجام بين هذه العلوم الثلاثة. إن علم المعاني المتغَوِّل وهو في أغلب مفاصله أقرب إلى النحو والتركيب والتداوليات، بل هو من مكملات الدرس النحوي. إنه الردف التداولي لعلم النحو. أي دراسة العبارات السليمة نحوياً بغض النظر عن السياق المقامي. علم المعاني يعرض هذه الجمل السليمة نحوياً على المقام لاستيفاء شروط الصحة.
إلحاق علم البيان مثلاً بعلم المعاني الذي يراعي المناسبة المقامية الأحادية، يؤذي كثيراً الشعر، ذلك لأنه تصور يجعل الشعر تابعاً ذليلاً للنثر. والحقيقة هي أن الإنجاز المطلوب من البلاغيين هو إعادة صياغة علم المعاني بكيفية يتم خلالها تطبيع علاقاته مع الشعر، وبالتالي مع علم البيان. فعلى سبيل المثال يتحدث علماء المعاني عن التقديم والتأخير والحذف والاعتراض الخ، فيعللون ذلك على ضوء المقام الذي يفترضونه واضح المعالم. والحال أن الشعر، وهو جنس من الخطاب، يفوز في كل لحظة بتلق وبمقام فريد، الشيء الذي قد يحرج عالم المعاني الذي يؤول هذه المقومات البلاغية بعرضها على ذلك المقام الافتراضي الثابت. هذه العبارات المتعلقة بتركيب العبارة وغيرها من قبيل الجمل الإنشائية الطلبية، بل وغير الطلبية ينبغي أن تدرس وتؤول باعتبار النفاذ الشعري الجمالي، الذي يتمرد على المقام.
لقد فك البلاغيون العرب الجدد، وأنا في موكبهم، الحصار على البلاغة. إنها تعيش اليوم في سهول مترامية الأطراف. وأصبحت أغلبية العلوم تخطب ودها. من نقاد الشعر والسرديات وعلماء الإشهار والخطاب السياسي وشعارات الحركات الثورية في كل بقاع العالم والتحليل النفسي والعلوم الإنسانية. يكفي أن نستشهد هنا بكتاب ريتشَارد بْرَاوْنْ Clés pour une poétique de la sociologie.

 

لديكم رؤية مستلهمة من التراث القديم لها راهنيتها المعرفية؛ لكنها مستوحاة من جهود الغربيين. هل تعتبرون الحاجة للآخر ضرورة حتمية من أجل تطوير جهودنا البلاغية؟

أولا محاولات سجني داخل تراث واحد، ولو كان تراثاً عظيما مثل التراث العربي، ليس من اختياري، بل اختيار الآخرين. أنا اخترت الانتماء إلى العالم. أنا مواطن هذا العالم. صحيح أنني ابن هذا التراث وهذه الثقافة بل وهذه الجغرافية، ولكن في هذا القرن حيث أتحرك في العالم كله، ليس بنفس العملة فقط ونفس الرصيد الثقافي، على الأقل في أسسها العامة، بل وأتحرك وبصماتي معروضة في كل بقاع العالم ضمن المستودعات الإلكترونية الرقابية وغير الرقابية. بل هناك اليوم نفس الذوق الجمالي. نشاهد نفس الأفلام ونقرأ نفس الروايات ونفس الأشعار ونفس اللوحات بل ونفس الموسيقى الخ. بل وربما نفس الطبيخ ونفس المشروبات. عفوا ونفس القانون الدولي، ونفس حقوق الإنسان. بل يفترض أن أتحرك أيضاً بالعملة العالمية الدولار أو الأورو مرفقين باللغة الإنجليزية. أنا أخضع لكل هذا وأقبله كمبدأ وحلم شريطة لجم كل محاولة لتوحيد الإنسانية بطريقة إلزامية أو طغيانية لا تتحقق إلا بمحاصرة هذا اللون الثقافي أو ذلك في محميات مؤقتة في انتظار الانطفاء النهائي. الوحدة الإنسانية واقع صلب وأنا أسايره. في سياق مثل هذا يبدو التسيج داخل ثقافة واحدة عملاً محزنا حقاً. بل إن الثقافة الذاتية نفسها لا نتمكن من إجلاء مواطن قوتها إلا بالنظر إليها من زاوية نظر عالمية. أنا مواطن العالم تماماً كما أنني مواطن مغربي. لا أرى تناقضاً في ذلك. ثقافتي عربية غربية. لا أجد أي تناقض أو تعارض في ذلك. لا تنافي عندي. أنا أجد نفسي منسجماً مع عناصر هذا الكون الجميل. كل ما أتطلع إليه هو حسن الاستماع إلى كل عناصر هذه الفسيفساء، بل الأورْكِيسْتْرَا، الثقافية العالمية. واعتبار محاولات تغليب عنصر من هذه الفسيفساء أو الأورْكِيسْتْرَا على باقي العناصر، هو عمل استئصالي والعياذ بالله. وأنتم تعرفون الكوارث المرعبة التي تنشأ وستنشأ عن مثل هذا التفكير.
في سياق مثل هذا أجد إعادة قراءة البلاغة العربية، بانتزاعها من براثن من يستميتون في خوْصَصتِها، وجعلها أصلا تجارياً إيديولوجياً لا يرتزقون بها وحسب بل يثرون بها، عملاً علمياً راقياً وعملاً نضالياً رصيناً. لا خيار لنا الآن، ولا بديل. الضرورة تملي علينا أن نفتح الأبواب أمام هبوب رياح الثورات العلمية في الغرب، ومحاولة صياغة البلاغة العربية نفسها، بل إعادة صياغتها بلغة عصرية، لتقريبها ليس من الفكر الغربي وحسب، بل من الفكر العربي المعاصر، ومن القارئ العربي.
هذا في الخطوة الأولى، وتبعاً لذلك أو بالتزامن مع ذلك، ينبغي أن نعمل لفتح حوار أنداد بين البلاغتين. إننا بصدد بلاغتين مختلفين، من الممكن النظر إلى كل واحدة منهما من منظار أخرى، فقد تنشأ عن ذلك نتائج مدهشة. وقد نجد ذلك النسق البلاغي المقابل يعدل شبكته ويصححها ويغنيها. مثلا إرث البلاغة العربية في الاستعارة ينطوي على تحليلات مثيرة جداً. انظر مثلاً إلى مفهوم الادعاء والنقل والقرينة والإبدال اللفظي والإبدال المعنوي والمحاكاة والتخييل والنظم والصورة والمحاكيات المعنوية.. هي أفكار مثيرة جداً، من شأنها إغناء منظار البلاغة الغربية. وبالمقابل فإن صنافات البلاغة الغربية مثيرة أيضاً بالنسبة إلى البلاغة العربية. انظر مثلاً إلى مفاهيم الموضع المشترك والمقومات الإقناعية العقلية والعاطفية ونظريات الأساليب والمستويات المحسناتية الأربع. لا يمكن أن نصم آذاننا أمام إمكانات تلاقح الثقافات البلاغية والشعرية. بما أننا نبدع ونتلقى نفس الآثار الفنية فلا معنى للتعلق بالهياكل العلمية الموروثة حرفياً ومحاولات تطبيقها على الآثار الحديثة التي تم ابتكارها في مناخ عالمي مختلف.

هناك الآن حديث عن أنواع من البلاغة بلاغة الهامش؛ بلاغة الجمهور؛ هل يستقيم هذا مع الدراسات الاكاديمية والعلمية المعروفة؟

n من المشروع أن تتعدد زوايا النظر إلى إنتاجاتنا الخطابية، كأن تكون عندنا بلاغة الشعر، وبلاغة الإقناع وبلاغة الصورة وبلاغة الجمهور الخ . كل ما ينبغي الحرص عليه هو أن يكون هناك موضوع مقيد بحدود واضحة، متميزة عن حدود مجالات أخرى للبحث. وتبعاً لذلك أن تكون عندنا مفاهيم مناسبة لذلك الموضوع. من البديهي مثلاً أن تكون عندنا بلاغة محسناتية، وبلاغة حجاجية، بل وبلاغة أهوائية، وبلاغة جمهور. إنما المنزلقات تظهر حينما تحاول أية واحدة من هذه البلاغات الاستئثار بالموضوع وحدها ونزع الحق عن البلاغات الأخرى. هذا كل ما في الأمر. بل إن البلاغة الأدبية مثلا ليس من حقها أن تمنع عالم النحو عن أن يعالج النص من وجهة نظر نحوية، بل وليس من حقها أن تمنع المؤرخ من أن يستعين بالنص الأدبي أو الشعري، باعتباره وثيقة تاريخية. بل لقد كنا ولانزال نرى علماء النفس يتحدثون عن لاشعور النص الأدبي أو الشعري. كأن يتحدث أحدهم عن العقدة الأوديبية عند هذا الأديب أو ذاك، وعن الرغبة اللاشعورية في امتلاك الأم وقتل الأب، حسب التصورات الفرويدية، أو أن ينظروا إلى القصيدة أو الحكاية العجائبية أو الرواية باعتبارها تجلياً من تجليات اللاشعور الجمعي أو الأسطورة. لا ضير، بعد هذا، أن تكون عندنا بلاغة الجمهور. فهذا عمل مشروع. وشروط قيامها هو جدارتها برسم ملامح هذا الجمهور والاستعانة بشبكة مفهومية مناسبة. هذا كل ما في الأمر.

 

بعد الربيع العربي وما شهدته الساحة العربية من تطورات كبرى أدت الى سقوط أنظمة كبرى أبانت نوع من الخطابات عن مستوى جديد في الإقناع بعيدا عن المستويات والآليات الموروثة. هل هذا يعني بروز الرغبة في تجاوز الماضي والبحث عن استلزامات إقناعية جديدة؟

في الحقيقة، خلال الربيع العربي، أو ما دعي الربيع العربي. ظهرت خطابات إلى جانب الخطابة التقليدية النصية التي تتوفر على ذخيرة مهمة للتحليل، وهي التي ورثناها بالأساس عن أرسطو والخطابة العربية على امتداد كل العصور. إنها خطابة لفظية أو لغوية بالأساس. إن تقنيات تحليلها معروفة ومستقرة، وهي لا تخرج عن المقنعات المنطقية كالضمير والمثال والشاهد والتفخيم والمظهر الأخلاقي للخطيب والأحوال العاطفية للمتلقي والأدوات غير الخطابية كحجج السلطة والقوانين والمواثيق الخ.
بالنسبة لحركات الاحتجاج العربي وغير العربي، هيمن الحجاج في الشارع بالاستعانة بالشعارات السياسية، وهي عبارات مقتضبة. قد تكون أحيانا كلمة واحدة «إرحل!». أو كلمتين: «يتنحاو قاع» هذه الشعارات السياسية المقتضبة تتم صياغتها بشكل يسهِّل الحفظ والترديد، تعتمد على إيقاعات خاصة وأحيانا تتزود من مستودعات البلاغة البديعية، الجناسية والسجعية والمتوازية والقفوية مثل: «ياقذافي صبرك صبرك، في مصراطة نحفر قبرك». ومع هذا فقد طغت على شعارات الربيع العربي اللغة الحرفية «الشعب يريد إسقاط النظام» أو «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي» أو «كلّن يعني كلّن». إلا أن هذا لا ينفي عبارات راقية من الناحية الجمالية والفكرية، بل والسياسية، رغم أنها قليلة. مثال ذلك هذان الشعاران:
الأول من لبنان: أجمل فصول السنة: فصل الدين عن الدولة.
رائعة هي هذه الاستعارة أو التشبيه. إنها جديدة بالكامل، وهي أجدر بكبار الشعراء العالميين. فصل الدين عن الدولة، ربيع حياة الارتباط الزوجي. إنها وليدة مخاضات سياسية عميقة. وهي وسيلة احتجاجية قوية. ليست هذه هي المحسن الوحيد في هذه الصورة، بل هناك إلى جانبها هذا الاحتفاء الجميل للربيع الذي أسفر عن نفسه من خلال هذا التعريف: أجمل فصول السنة. هذا الشعار وهذه الاستعارة من أروع الشعارات الثورية على الصعيد العالمي. ومنها أيضاً هذا الشعار الذي جاءنا من الجزائر: «ربي المخ قبل اللحية».
شخصياً أرتب هذه الشعارات في مصاف الشعارات العالمية إلى جانب هذه التي رفعت في مدريد خلال ربيعها 15ماي 2011: «هذه الليلةَ تسطعُ شمسُ.»
هنا أيضا نجد استعارة مفارقة. في الليل تسطع سُولْ، اسم علم يدل على الساحة مكان الاعتصام. وسول بالإسبانية تعني أيضا شمس. فأن تسطع سول، أو شمس هذه الليلة فهذا يدل على الخرق الاستعاري الأوجي. انظروا أيضاً إلى تلك الأيقونة الصغيرة في كلمةSOL حيثO كتبت في شكل الشمس. قمة النباهة الفكرية والشعرية. شمس الحرية تسطع في ليل الرأسمالية.
هذه كلها مدونات جديدة مقترحة كمجال للبحث على البلاغة الجديدة. هي الموضوعات التي لم تكن تحلم بها البلاغة إلى عهد قريب. شخصيا خضت في هذا أكثر من مرة. فقد حللت في مقالة منشورة في علامات العدد 48 ، 2017. إشهارية إيقونية عرضتها شركة بينُوتُونْ للملابس. كشفت من خلالها عن الأبعاد البلاغية والتجارية والدعائية أو السياسية. بل وحللتها على ضوء الخطاطة الأرسطية: الإيطوس والباطوس واللوغوس. لا مجال لتفادي البلاغة هنا. ونحن من نسعى من خلال مثل هذه الأمثلة إلى إخراج البلاغة إلى الهواء الطلق، مجال حياة الناس.

(في الصورة . United colors of benetton )
هذه العبارة وحدها علامة على استعارية الصورة، فلا يمكن ألا نستحضر العبارة الذائعة United states of America .عالمان إذن يقترنان اقتراناً متوتراً في هذه اللوحة الاستعارية المكنية، حيث المشبه به لا يحضر إلا من خلال بعض أعراضه: التسمية والزنوجية والعلم الأمريكي وصورة الرئيس.
هذه أجناس خطابية جميلة. ومحاولات تحليلها بمفاهيم بلاغية يعني أننا بصدد الانتقال إلى عصر بلاغي جديد مختلف عن كل ما تقدم. وأخيراً، فلا بد من فتح أعين البلاغة ليس على الفنون التشكيلية فقط، بل على المشاكل الكبرى التي تتحمل عبئها الإنسانية. المثال الآتي رسم للفنان العبقري بانكسي Bancksy الذي تعمد أن يرسم وهو متوارٍ عن الأنظار. فنان يبشر من خلال لوحاته بأنبل القيم الإنسانية. إن رسومه في مجملها احتفال بقيم العدالة، وفضح لكل أشكل الميز والعنصرية، والدفاع عن المظلومين. الرسم الآتي على جدار العنصرية في الضفة الغربية. في جدار الفصل العنصري خطط بانْكْسِي Bancksy هذا الرسم الرائع. خرَق الجدار بل مزَّقه تخييلياً بفتحة نطل من خلالها على الشاطئ أو البحر. الجدار يقيم الحدود، والرسم يفتح فيه معبراً على البحر حيث انتفاء الجدران والحواجز، حرية كاملة. هي إذن استعارة. الفتحة تقول شيئاً آخر غير ما يرى. صورة تحمل معنى الانعتاق من كل الحواجز.

هذا الرسم الإيقوني يحيلني على أحد أشهر شعارات ثورة ماي 1968 الطلابية في باريس. إنه الشعار المدون على بضع جدران في باريس Sous les pavés, la plage
الشعاران معا يحيلان على البحر؛ وهو رمزيا الحرية الكاملة. هنا في الحالتين مقومات استعارية وكنائية ورمزية. وهي وحدها التي يمكن أن تدرك معنى هاتين العبارتين الإيقونية واللفظية. وهذه كلها لا يمكن إداركها إلا بتشغيل الآلة البلاغية. البلاغة بمعناها العام اللفظية والتشكيلية الإيقونية. أعتقد أن هذه الثروة من الشعارات المنبثقة من الثورة الطلابية ماي 1968والربيع الإسباني أو الإيسلَاندي، وهو أنجح ربيع، أو اليوناني، وحركة الفعل الشعري في أمريكا اللاتينية وإيقونيات بانكسي Bancksy التي رسمها في عديد من الدول، لا تمكن دراستها حقا إلا بهذه البلاغة الجديدة.
يمكن أن نجزم في نفس الآن أن المتعة الجمالية نفسها لهذه الشعارات وهي ذات مرام حجاجية سياسية وإنسانية متوقدة، لا يمكن الإمساك بها إلا إذا أدخلناها إلى المختبرات البلاغية الجديدة. من الأمثلة التي ينطبق عليها هذا الحكم هذا الشعار الباذخ الذي تم رسمه على جدران باريس خلال الثورة الطلابية ماي 1968
Cours vite, camarade ; le vieux monde est derrière toi
اجر بسرعة، أيها الرفيق، إن العالم القديم هو وراءك.
إن نفس هذه البلاغة رحلت إلى أمريكا اللاتينية في شخص المحاوَر في هذه الصفحة. وبنى مدونة شعرية مما ينشر، بتوقيع حركة acción poética أي الفعل الشعري، على الجدران في كل أمريكا اللاتينية. وحلل تلك الأمثلة في مقالة سترى النور قريباً. ولكن في انتظار ذلك النشر أعرض على القراء مثالا من تلك الاستعارات الباذخة التي حللتها في المقال المذكور. العبارة تقول: كنتِ الربيع في هذا الشتاءِ
نحن، البلاغيين العرب الجدد، من نباشر الدخول إلى هذا العالم العجائبي الجميل. بهذا نؤمِّن للبلاغة الجديدة عمراً جديداً. ملاحظة أخيرة تتمثل في كون العناية بالشعارات يمكن أن تستعين بالدراسات التي أنجزت عن الأمثال والحكم والعبارات المأثورة. إننا في الحالتين بصدد أجناس خطابية صغرى، لم تنل العناية التي تستحقها في تراثنا النقدي والبلاغي. فالأمثال هي جنس من الاستعارة. إنها إذن في قلب البلاغة.

 بعض النقاشات حول جهود المحدثين في تطوير البلاغة العربية أفرزت قلقا على مستوى الجهود العربية الموحدة : كيف تقيمون وضع الدراسات العربية الراهنة في مجال تجديد البلاغة ؟

أولا. أنا لا أتضايق من التعدد، بقدر ما أتضايق من محاولات طمس الجهود الفردية. ومحاولات الإحالة على المناطق المظلمة، كل من يخالفنا الرأي. هذا هو المشكل لا غير. أعتقد أن الساحة العربية البلاغية هي بخير. كل الجهود هي جهود عصامية. لا أحد يطالبك بالإبداع والدفع بالعربة إلى الأمام. من يجتهد يفعل ذلك لأنه يهوى عمله. وهو يعمل ذلك في عالم مليء بالمثبطات، وأحيانا من الزملاء.
صحيح أننا لا نبتكر في الغالب شيئاً جديداً . ففي الغالب نحن نحاول تفكيك التراث وجعله عجينا رطباً قابلاً لتفويته إلى العقول الشابة التي نراهن على ذكائها وعبقريتها مستقبلاً، ونعمل لأجل إصاخة السمع إلى التراث الإنساني اليوناني واللاتيني والغربي عامة. صحيح نشتغل بوسائل بسيطة، إذ تنقصنا اللغات. ينقصنا الوقت. تنقصنا الإمكانيات المادية. ينقصنا التعاون والتآزر. ينقصنا التنسيق وإقامة مجموعات بحث لرسم استراتيجيات. وقبل وبعد هذا، ينقصنا الابتكار على الطريقة الفرنسية أو الألمانية أو الأمريكية. ففي النهاية كل ما نسعى إليه هو فهم واستيعاب ما يبدعه هؤلاء. لم نصل بعد إلى مرحلة الابتكار كما هم فاعلون. هو هذا المشكل. كأننا معلمون نلقن التلاميذ ما نتلقاه من مبتكرات غيرنا. ولكن في بيئة متعودة على الترويج بالتقسيط لسلع تصلنا من الغرب ومن آسيا، فنحن ملزمون في أحسن الظروف بترويج أفكار غيرنا. إلا أن التطبيقات التي ننجزها هي جديدة بالكامل.

 

 


الكاتب : حاوره د : مصطفى شميعة

  

بتاريخ : 02/10/2020