التاريخ والذاكرة..

 

أسئلة الحكي والاسترجاع في كتاب “نبش في الذاكرة”

 

لعل من معالم نبوغ مدينة تطوان العامرة، هذا النزوع المتزايد لأبنائها ولنخبها من أجل الكتابة عنها، ومن أجل الإسهام الجماعي في تجميع عناصر ذاكرتها المشتركة. أصبحت الكتابة عن تطوان، كفضاء وكوجوه وكرموز وكمحكيات، صفات أصيلة لدى مبدعي المدينة، الأمر الذي وجدت تعبيرات عميقة عنه لدى أعلام المدينة من جيل التأسيس من أمثال محمد داود والتهامي الوزاني، ووجدت امتدادها لدى أجيال الزمن الراهن ممن عشقت المدينة، بعد أن سكنها سحرها، وبعد أن ارتوت بعبق تاريخها الأصيل، وبعد أن نجحت في ضمان شعلة توهج المدينة الحضاري داخل محيطها الإقليمي بالشمال، وداخل امتداداته الوطنية الواسعة. ونتيجة لذلك، أضحت ساحة النشر وصناعة الكتاب تغتني بأعمال تقاطعت في عشقها لفضاءات المدينة ولتراثها الحضاري المشرق، وإن اختلفت في طرق الاحتفاء بهذا العشق القاتل، أو الحب المجنون، الذي جعل أسوار تطوان وساحاتها وزواياها ومساجدها تتحول إلى قطع آدمية تصنع للمدينة بهاءها الفريد الذي أثمر هوية تطوان الثقافية، الواحدة/ المتعددة بأصولها وبأصواتها وبألوانها وبمواقفها وبانتظاراتها. وبذلك، تظل مدينة تطوان “حالة حضارية” اكتست الكثير من عناصر التميز الموريسكي والعربي الإسلامي والأمازيغي المحلي والإيبيري المتجدد، مما لا نجد مثيلا له في أي مجال جغرافي آخر عبر ربوع بلاد المغرب.

في سياق تطور هذا المسار العام في الاحتفاء بالذاكرة الجماعية للمدينة، يندرج صدور كتاب “نبش في الذاكرة”، للأستاذ مصطفى حجاج، مطلع السنة الجارية (2023)، ضمن منشورات جمعية تطاون أسمير، وذلك في ما مجموعه 352 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والعمل، في الأصل، سلسلة “دردشات” سبق للمؤلف أن نشرها على صفحات جريدة “الشمال” الأسبوعية، وقرر تجميعها في عمل تصنيفي حفاظا لها من الاندثار ومن التواري، وتعميما لقيمها الإبداعية الاسترجاعية النبيلة التي جعلت منها علامات على الحاضر الذي عاشه المؤلف، في علاقته بذاته أولا، ثم بمحيطه ثانيا، وبرفاقه ثالثا، وبمواقفه واهتماماته تجاه القضايا الكبرى للوطن وللمجتمع رابعا. لا يتعلق الأمر بكتابة تاريخية تخصصية بمفهومها الأكاديمي المتعارف عليه، ولا بمذكرات شخصية تحترم الكتابة الخطية الكرونولوجية لتعاقب السنوات والأحداث، بقدر ما أنها “بقايا صور” تمتح أسسها من تجارب معيشية اختص بها المؤلف، وأعاد قراءتها بعد أن خضعت تفاصيلها لاختمار هادئ بفعل عوادي الزمن وتقلباته. ولعل في هذا النوع من التدوين، مادة خام هائلة لاشتغال مؤرخي تاريخ الذهنيات وتاريخ التراث الرمزي مما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابات التاريخية التخصصية بمعناها الحصري الضيق. فالذاكرة الجماعية خزان لتجميع عناصر التراث الرمزي المنفلت من بين متون الإسطوغرافيات التاريخية المتوارثة، سواء منها الكلاسيكية أم المجددة. وبطبيعة الحال، فإن استثمار هذا العطاء في إطار الكتابة التاريخية النسقية يستلزم استحضار عناصر العدة الإجرائية الخاصة بصنعة الكتابة التاريخية النقدية، على مستوى تجميع المظان والوثائق وتصنيفها وتقييمها واستثمارها…

ينهض كتاب “نبش في الذاكرة” على أساس رؤى استرجاعية متواترة، تثيرها مشاهدات المؤلف ومواقفه من قضايا الراهن. صاغها بحبكة لغوية متينة، لعل مردها إلى تكوينه المعرفي الذي صنع تجربته مع عوالم الخلق والكتابة، من موقعه كأحد رواد حقل التربية والتعليم بعموم منطقة الشمال. يقول الأستاذ البشير المسري في كلمة تصديرية مختزلة لأهم محطات حياة مصطفى حجاج: “كانت ولادته في حي المطامر بتطوان، يوم 28 يناير من سنة 1946. تربى في محيط ديني، حفظ القرآن ومجموعة من المتون بمسيد الفقيه الصروخ. درس في المعهد الديني، وفي مستهل السنة الدراسية 1966- 1967، التحق بالمدرسة العليا للأساتذة بفاس، ليضطلع -بعد تخرجه- بمهنة التدريس في الثانوية المحمدية بالقصر الكبير، ثم بثانوية القاضي عياض بتطوان. أسهم في تطوير حقل العمل الاجتماعي، فهو من المؤسسين الأوائل لجمعية تطاون أسمير (1995)، ويتولى حاليا مهمة الكاتب العام لهذه الجمعية، كما يتولى مهمة ناظر للزاوية الكتانية. في حقل التعليم، تولى العديد من المهام، منها مهمة الإرشاد التربوي، ومنسق مادة اللغة العربية، وإلقاء الدروس التجريبية،… معروف عن مصطفى حجاج حرصه الدائم على قراءة المصنفات التي تعالج تاريخ مدينة تطوان، قديما وحديثا. من القلائل الذين يتوفرون على معرفة غزيرة بأصالة الثقافة التطوانية، ومن المحافظين عليها، في سلوكه وحياته اليومية…”.

تعكس مضامين كتاب “نبش في الذاكرة” الكثير من معالم هذا العشق الصوفي لربوع مدينة تطوان، ولوجوه أناسها البسطاء، ولسكينة أرواح فضاءاتها وأمكنتها ومعالمها. يلتقط الأستاذ حجاج تفاصيل المدينة، ويعيد أنسنة معالمها برؤية إبداعية عميقة تحسن الاحتفاء بالنوسطالجيات، وتنتقد الانزلاقات بنفس منسوب الحب والعشق الذي يحمله تجاه المدينة.  ولا يقف الأمر عند معالم تطوان، بل يتجاوز ذلك إلى مجموع أصقاع منطقة الشمال العميقة ومراكزها الحضارية الأصيلة، سواء بالمدن أم بالبوادي. يعيش الأستاذ حجاج بالتحام مع فضاءات تطوان، ويتنفس أوكسجينه من هوائها الذي صنعه تاريخها العريق. ويعزز كل ذلك، بلغته الراقية في القبض بالتفاصيل وبالجزئيات التي لا تلتفت إليها عين المتلقي العابر. فحين عاد لذكريات الطفولة والصبا، اختار فضاء المسيد ليكون المنطلق، إذ يقول: “حين فتحت عيني على الدنيا، وجدتني في كُتاب الفقيه الصروخ، المواجه لزاوية سيدي علي بن ريسون. تصميم والدي الطيب بن عبد المالك حجاج على حفظي لكتاب الله، جعله يستعجل دخولي إلى المسيد الذي لا يبعد عن منزلنا إلا خطوات معدودات، خوفا من نوايا والدتي التي كانت ترى في المدرسة خير مكان للتعليم. الفقيه الذي علمني الحروف الأبجدية وحفظني كتاب الله، هو السيد عبد السلام بن حمزة، وقد كان يستعين في سيره بعكاز مزدوج، يضعه تحت إبطه لإعاقة في إحدى رجليه…” (ص.15)، وتنساب محكيات على محكيات، وشهادات على شهادات، مما أحسن مصطفى حجاج توظيف مغازيه ودلالاته وأبعاده.

وفي سياق استنفار ذاكرة تكوينه وتعليمه، يقول في مادة “كلية المدافع”: “ما أن استقر التعليم الديني الثانوي، بالثكنة العسكرية بباب النوادر، حتى سماها المنتسبون للتعليم العصري، كلية المدافع تيمنا بالمدفعين الكبيرين اللذين كانا جاثمين على يمين ويسار بابها. وظل المعهد الديني بتطوان، يحمل هذا الإسم، إلى أن قررت وزارة التربية الوطنية، نقله إلى المدرسة المجاورة لمسجد الحسن الثاني. ليستقر بها تحت لافتة ثانوية القاضي ابن العربي. كان ذلك في بداية الثمانينات من القرن الماضي، ولأول مرة، توضع لافتة على مدخل المعهد. أما في التحركات التي تحركها المعهد الديني من دار إلى دار، طيلة أربعين سنة، فلم يُكتب اسمه على واجهة من الواجهات، وكأن المسؤولين كان يستفزهم كل ما ينتسب إلى الدين، ويحاولون طمسه بكل الوسائل، وحين استجدوا بالقاضي ابن العربي، استراحوا وأراحوا…” (ص.29). وعلى هذا الأساس، يقدم المؤلف الكثير من التفاصيل بخصوص مختلف أوجه حقل التربية والعليم داخل المعهد الديني، بالجمع بين منطلقات الأمس، وبين تحولات الواقع.

وعندما يستحضر مصطفى حجاج رفاق الأمس، يستنفر كل جهده الفكري للارتقاء بلغته إلى مستويات عليا من الحميمية التي تعيد الفضل لأصحابه والوفاء لرواده. ففي معرض حديثه عن رفيقه الأستاذ عبد القادر الزكاري، يقول: “رغم أن هذا الرجل غني عن التعريف، لما له من تاريخ حافل بجلائل الأعمال في ميادين شتى، على رأسها ميدان التربية والتعليم، إلا أن المقام يدعونا إلى سرد مساره…” (ص.111)، وتنساب التفاصيل… وفي مادة “أصيلة في أيد أمينة”، يقول المؤلف مسجلا انطباعاته عن زياراته للمدينة، قائلا: “حين يطلب مني قريبي مرافقته إلى أصيلة، لقضاء مأرب من مآربه، أجدني وكأنني خرجت من دنيا، ودخلت إلى دنيا. أجدني وكأنني عدت إلى عهودي الأولى، يوم كان الدرب وحدة سكنية، متماسكة البنيان، تحس فيها بالدفء والمودة. فأصيلة تدخل “البيات الشتوي” لمدة تقارب ثمانية أشهر، تخلد فيها للراحة، وتسلم نفسها لنوم عميق، يلتزم فيها السكان الصمت، ويمتنعون عن الحركة، فإذا تحركوا، تحركوا بمقدار، وإذا ساروا، ساروا سيرا هنيا. الجالسون منهم في المقاهي يتهامسون، أو ينشغلون بتصفح الجرائد، أو فك طلاسم الكلمات المتقاطعة. والمترددون على الأسواق يسيرون في خشوع، وكأنهم يؤدون واجبا دينيا مقدسا. حتى المحكمة التي يقصدها قريبي للاطمئنان على قضية من قضاياه، أشعر بأنها تسير في هذا النسق. فلا تدافع بالمناكب، ولا لغطا ولا صخبا، حتى يُخيل لك أن الأصيليين يحلون مشاكلهم بالتي هي أحسن، ولا يقصدون المحكمة إلا من أجل صلة الرحم بطاقمها الإداري…” (ص.258).

واستلهاما من المؤلف لشذرات الطفولة التي ولت، يستحضر مصطفى حجاج بعضا من الكليشيهات العالقة بخصوص عادات المجتمع التطواني العريق. ففي معرض حديثه عن “رمضان بين الأمس واليوم”، يقول في مادة استرجاعية بليغة: “ارتبط رمضان في ذاكرتي بعادات، تركت أثرها الجميل في نفسي ونفوس أهلي وخلاني. ومن هذه العادات، تبييض وتجيير الدروب والأزقة. فكل سكان أحياء المدينة العتيقة، كانوا يستحضرون عظمة القادم ومكانته وهيبته، فيفرشون له الأرض زهورا وورودا، ويُبيضون واجهات دُورهم ومساكنهم تبييضا… وما أن، يهل هلاله، حتى تنطلق الزغاريد معلنة عن حلول هذا الشهر الكريم، فتتجاوب معها طلقات المدافع مرحبة بالضيف الكبير…” (ص.179).

وعلى هذا المنوال، تنساب الحكايا، وتتوالف الذكريات، لتقدم غزارة هائلة في التفاصيل، وهي الغزارة التي تعكس قدرة الكاتب على تطويع ذاكرته مع ضرورات السرد ومع مستلزمات التشويق ومع جاذبية جمال اللغة ومُحسناتها. وفي ذلك، تعبير عن رقي المقصد الكامن خلف الهدف الأسمى من وضع هذا النبش في هذه الذاكرة الماضية/ الحاضرة، ذاكرة مصطفى حجاج الثرية والملهمة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 19/08/2023