التشكيل العربي في مواجهة الإرهاب سؤال تفتحه مجلة ذوات لهذا الشهر

لم يكن الفن بمنأى عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها الإنسانية، حيث قدم الفن عبر العالم منجزات مهمة، ما زال التاريخ يذكرها، وهي أعمال تنتقد التقتيل والترويع والحرب والدمار، وكل ما لا يمت للحسّ الإنساني بصلة، ونذكر هنا لوحة «الإعدام رمياً بالرصاص» للفنان الإسباني فرانشيشكوديغويا، التي شكلت مادة فاعلة لإدانة نابليون بونابرت، الذي كان يقتل كل من يقف ضده أثناء احتلاله لإسبانيا، ولوحة «الغرنيكا» للفنان الإسباني بابلوبيكاسو، والتي استوحاها من قصف مدينة»غرنيكا»من قبل الطائرات الألمانية والإيطالية عام 1937.وكذا الفنان الروسي فاسيلـيفيرتشـاغين صاحب لوحة «أنا طائرفي السّماء»، التي قدم فيها ثلة من الجماجم تحلق فوقها الغربان السود، وبسبب تلك اللوحة اتهم بانتقاده للحرب، وبأنه يخدم الأعداء. ومن الفنانين العرب نذكر الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط، والفنان والنحات الفلسطيني سليمان منصور، والتشكيلي الكويتي سامي محمد، والفنان السوري يوسف عبدلكي، وآخرين.
وبالنظر إلى ما عرفته الرقعة العربية الإسلامية في السنوات الأخيرة من حروب وإبادة وتهجير، بسبب الصراعات والتطاحنات السياسية والأيديولوجية، وبروز العديد من الجماعات الإسلامية المتشددة، التي أصبحت تحرم وتحلل ما تشاء باسم الدين، وصار الرسم والنحت والفن بشكل عام لديها منبوذا، معلنة عن نوع من الصراع بين الفن والدين الإسلامي، في حين أن هذا الأخير بريء من كل ذلك، لأنه يعود بالأساس إلى أشكال التدين وإلى التأويل الخاطئ للنص الديني، الذي أدى بأنصار تلك الجماعات إلى تحطيم كل معالم الحضارة العربية الإسلامية المتمثلة في المنحوتات والتماثيل، أو بترها عبر قطع رؤوسها(قطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في مدفنه بمعرَّة النعمان بسورية، وتمثال شاعرالفرات محمد الفُراتي- تحطيم تمثال الطاهر حداد بتونس-تم اختطاف تمثال طه حسين في المنيا- وتمت تغطية تمثال أم كلثوم بحجاب- محاولة تحطيم تمثال عين الفوارة بالجزائر…).
لقد قاوم التشكيل كل أنواع الحروب، وواجه الإرهاب بمختلف أشكاله، وظلت أعمال فنانيه شاهدة على العديد من المآسي الإنسانية، وكانت بمثابة وثائق بصرية خالدة، ترجع إليها كل الأجيال بين الفينة والأخرى، ولكن المشكل، كما أثاره العديد من الفناين العرب الذين تم استقاء آرائهم في هذا العدد، هو عدم الاهتمام واللامبالاة التي تواجه بها هذه الأعمال من طرف العديد من المؤسسات الرسمية في البلدان العربية، وعدم اقتناعها بجدوى الفن في مواجهة التطرف والإرهاب، هذا مع العلم أن له دورا رئيسا في مقاومة كل أشكال القبح والدمار، وقدرة على انتزاع الكراهية والحقد من المجتمع، وذلك عبر غرس الحس الجمالي والمساهمة في بناءإنسانسويومتعلم، قادرعلىتذوقالجمالوالحفاظ عليه.
لهذه الاعتبارات، وبعد تخصيص مجلة «ذوات» لملفات حول مختلف الأشكال التعبيرية من سينما ومسرح وإبداع روائي وغيرها، وطريقة مقاومتها ومواجهتها للإرهاب، جاء الدور على الفن التشكيلي العربي، الذي عرف في السنوات الأخيرة طفرة نوعية مهمة، وأصبح يستحضر سؤالي الإرهاب والتطرف الديني، خاصة أن مجموعة من الفنانين العرب كانوا هم أنفسهم ضحايا لهذا التشدد والتفكير الظلامي، الذي يحرم المجسمات ويدمر التماثيل، ويحطم أنامل الرسامين البارعين، تنكيلا بهم وبعملهم الفني، الذي يفضح كل تلك الهمجية المتلبسة بالدين، ولا أدل على هذه الهمجية من الإعدام البشع للباحث الأركيولوجي ومدير آثار تدمرالأسبق السوري خالد الأسعد في عام 2015، الذي فضل الموت على أن يدل عناصر داعش على مواقع الكنوز الأثرية التدمرية.
هكذا، يأتي ملف العدد (57) من مجلة «ذوات» الثقافية العربية الإلكترونية الشهرية، الصادرة عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث»، المخصص لموضوع «الفن التشكيلي العربي وسيميولوجيا الإرهاب»، من أجل تقويةالخطاب التخصصيالموصول بالفن التشكيلي أساسا، وتقديم رؤى ومقاربات متنوعة في التحليل السيميولوجي البصري لمجموعة من الموادالبصرية والتشكيلية، لكشف توسع الحقل الدلالي الذي يتم إنتاجه حول ظواهر الإرهاب والتطرف في العالم والدوافع الثقافية والسياسية والدينية التي تتحكم فيه، ودورالفن والتربية الجمالية في التصدي لظاهرة الإرهاب وأهميتها في تفعيل التنمية الثقافية في المجتمعات العربية، بالإضافة إلى تناول العلاقة الملتبسة بين الفن والدين، ودورالمثقف في بناء السياق التنويري المضاد للإرهاب.
يتضمن ملف هذا العدد من مجلة «ذوات»، الذي أعده التشكيلي والناقد الفني المغربي بنيونس عميروش، مقالا تقديميا له بعنوان: «معيارالعمل الفني في مواجهة التطرف»، وأربع مساهمات؛ الأولى للشاعروالباحث والفنان التشكيلي الفلسطيني- الأردني إياد كنعان، والثانية للفنان التشكيلي والناقد الأردني د. غازيانعــيم، والمساهمة الثالثة هي للأكاديمي والناقد المصري د. ياسر منجي، بعنوان «بين التصفية الجسدية والتخليد الرمزي؛ الفن التشكيلي العربي وتجليات العنف السياسي»؛ ثم المساهمة الرابعة، وهي للفنان التشكيلي السوري خالد الساعي، تحت عنوان «الفن التشكيلي العربي؛ الموقف والتعبير في مواجهة الأزمات». أما حوار الملف، فهو مع الباحث الجمالي المغربي موليم العروسي، الذي أشار إلى أن المقاومة بالإبداع هي أشدّ المقاومات على الفكرالظلامي، وأنه عندما تحط الحرب أوزارها يحتاج الناس إلى الحبّ والجمال لتضميد الجراح، ولهذامن الضروري مقاومةهذه الجماعات المتشددة بالفن والإبداع المعبرين عن الحياة والاحتفال، لأن كلما تقوم به يسعى إلى تمجيد الفقرالروحي والجمالي.
وبالإضافة إلى الملف، يتضمن العدد (57) من مجلة «ذوات» أبوابا أخرى، منها باب «رأي ذوات»، ويضم ثلاثة مقالات لكل من للكاتب والباحث التونسي رضا الأبيض، والكاتب السوري باسم سليمان، والباحث المغربي عبد الصمد زهور؛ ويشتمل باب «ثقافة وفنون» على مقالين: الأول للكاتب والشاعر المصري شريف الشافعي والثاني للباحث الأنثروبولوجي المغربي د. عياد أبلال ، فيما يقدم باب «حوار ذوات»، لقاء مع الروائية التونسيةعفيفة سعودي السميطي وأنجزه الكاتب والشاعر المغربي عبد الله المتقي.أما «بورتريه ذوات» لهذا العدد، فقد خصص للفنانة التشكيلية المغربية أحلام لمسفر، التي تقاوم بطريقتها الخاصة وتحارب كل أشكال البداءة والتخلف عبر إقامة فنية رائعة على «شاطئ البريش» بالقرب من مدينة أصيلة المغربية الشاطئية.
عن المجلة بتصرف


بتاريخ : 17/08/2019

أخبار مرتبطة

  يتناول هذا المقال ثنائية الحُبّ والجسد، وما تحيل إليه هذه الثنائية من حضور الجنس في قصيدة النثر الحديثة لبعض

د. محمد الفتحي يبحث في الإشكالية والتفريعات   عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع بالمملكة الأردنية، صدر للدكتور محمد الفتحي

شهدت رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء يوم 3 يونيو، مناقشة ملف لنيل التأهيل الجامعي تقدم به الأستاذ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *