التصوف المغربي ودوره في أسلمة دول افريقيا جنوب الصحراء 11 : مصادر البحث والإشكالات الكبرى في الطريقة التجانية بالجنوب المغربي

لعبت اللغة العربية دورا كبيرا في أسلمة جزء كبير من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتجلى ذلك في كون هذه البقاع انتشرت بها الكثير من الطرق الصوفية المبنية على الاعتدال الذي هو عماد المذهب المالكي المنتشر على نطاق أوسع في دول المغارب، والملاحظ أن اتصال العرب بإفريقيا جنوب الصحراء حدث منذ أقدم العهود، فاليمن القديمة وصل نفوذها السياسي إلى القرن الإفريقي والحبشة، كما كانت علاقة غرب إفريقيا بشمالها قديمة، ونظرا لأن إفريقيا تأسست بها دول و ممالك ذات جذور عربية إسلامية، فقد كان لذلك دور كبير في تطور اللغات الإفريقية كلغات هجينة عربية، وقد لعب في هذا أيضا دور التصاهر بين العرب و الأفارقة، أضف إلى ذلك الدور الحاسم للعلاقات التّجارية التي كانت وسيطا بين الدول العربية ونظيرتها الوثنية.
يعتبر ميلاد الإسلام، وتطوّر الحضارة المرتبطة به نقطة تحول حاسمة أعادت إلى الحساب ماضي التّأثير العربي لغة وثقافة؛ ليصل العمق الإفريقي وأقاصي الغرب منه.وعلى هذا الأساس فاللّغة العربية لم تكن مجهولة عند الأفارقة، وإن كان معظمهم لا يتقنونها، ولكنّها كانت فقط مجرد لغة للتّفاهم مثل اللغات الأخرى. غير أن ظهور الاسلام باللسان العربي انتقل بهذه اللغة من مجرد لغة للحديث إلى لغة مقدسة. ونتيجة لذلك ، تأثرت العديد من اللغات العالمية باللغة العربية ، وكان من بينها اللغات الإفريقية بصفة عامة. ويعتبر التصوف العنصر الأساسي الذي أشاع الثقافة العربية في هذه البقاع وبخاصة التصوف التجاني السني الذي وجد إقبالا لم يعهد له نظيرا مقارنة مع الطرق الصوفية الأخرى. تحاول هذه الدراسة البحثية الاجابة عن سؤال محوري؛ كيف ساهم التصوف التجاني في أسلمة إفريقيا جنوب الصحراء؟ وكيف ساهم في نشر اللغة العربية على نطاق واسع خاصة وأنه اعتمد في متونه على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية؟

 

إذا كان الشمال المغربي قد حضي بدراسات تاريخية تهم التاريخ الديني والثقافي لمجتمعه، في تفاعلاته مع البنى الأخرى (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، فذلك راجع الى غزارة المادة الوثائقية المخطوطة والمحفوظة في الأرشيفات المحليةو ما توفره كل من مدرية الوثائق والخزانة الحسنية بالرباط من وثائق مكنت الباحثين من إنجاز بحوث متكاملة حول الظاهرة او المسالة الدينية و الثقافية، وكل مايرتبط بهما من تمثلات ذهنية بإمكانها ان تساعدنا على إماطة اللثام حول بعض القضايا التي تتغيب في الوثيقة المكتوبة . ولابد من الاشارة الى الدور الكبير الذي قام به المرحوم العلامة محمد المنوني في فهرسته لمخطوطات المغرب، وهي خطة استنزفت منه جهدا مضنيا كان الهدف منها تمهيد الطريق لباحثين شباب، بإمكانهم إعادة قراءة تاريخه بعيون محلية . وبالفعل فقد ظهرت منذ الربع الأخير من القرن الماضي عدة مونغرافيات أسهمت في إعادة قراءة التاريخ الوطني بنظرة “عاطفية”، تحاول من خلالها مواجهة الطرح الكولونيالي ودحض نتائجه التي سعى أصحابها إلى تنميطها وتعميمها على مختلف الظواهر الدينية والثقافية بالمغرب، من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه. بقي اذن الجنوب المغربي البكر، بعيدا عن تأثير هذه الحمولة الفكرية والتاريخية التي انجزت في الشمال. واذا ما اسثتنينا تقرارير ودراسات الرحالة الأوربيين المخبرين، أو المغامرين الوافدين على جنوب المغرب منذ القرن التاسع عشر، وكذا تقارير ضباط الشؤون الأهلية الذين شكلوا “اداة رائعة من أجل الاحتلال والارادة (…)، كانت جهازا مرنا وصلبا في الوقت ذاته (…) كما شكلت مشتلا لضباط رائعين بأعمالهم ومعارفهم وشجاعتهم”. يصح لنا القول أن الجنوب المغربي مجالا لم يُستنفد فيه البحث بعد ، وبالتالي فهو يستحق الدراسة التاريخية والانتربولوجية .
لاق سوس وبلاد حاحا اهتمام العديد من الفاعلين الثقافيين، من فقهاء ومؤرخين ورحالة أجانب منذ القرن السابع عشر، إلا ان ما أنجزه هؤلاء يكاد بعيدا عن التدقيق في المعطيات الهامشية او المنسية ضمن التاريخ الشمولي، أو انها تشكل قضايا “مجهرية” لبحث مستقبلي، كما أن الأحداث التي رصدها هؤلاء لم تكن متسلسلة في الزمن، و أحيانا ليس بينها رابط تاريخي، إما لأن هؤلاء رأوا فيها أحداثا لاتستحق الدراسة، وهو ماحدث بالفعل بالنسبة لتاريخ الزوايا بالمنطقة، أو لأن المادة المصدرية لم تسعفهم للإحاطة الشمولية بمواضيعهم أو لكون الموضوع اكتنفه الغموض. ولعل أقدم دراسة حول المجال المدروس تلك التي انجزها المؤرخ ابو زيد عبد الرحمان التامانرتي(ت.1060هـ 1635م/1045هـ ) والتي تحمل عنوان “الفوائد الجمة في إسناد علوم الأمة”وهي الدراسة التي شكلت القاعدة الأساس لكل الدراسات السوسية التي ستأتي فيما بعد، كطبقات الحضيكي (توفي 1189 هـ/1775 م) الذي عمل على تحيين مضامين الفوائد الجمة للتامانارتي.
ظل سوس بعد هاتين الدراستين مجالا هامشيا و”مهملا” في الدراسات التاريخية، وفي نفس الوقت مجالا خصبا لدراسات- مختلف مشارب المعرفة الانسانية- ستنهل منه لاحقا. ففي سنة (1885 م) ستطأ اقدام شارل دو فوكو بلاد سوس وحاحا، وستكون دراسته استخباراتية مجهزة غير معلن عليها، وممهدة للمشروع الكولونيالي الفرنسي، الذي حاول ولوج المغرب بعيدا عن “ثقافة الحرب و السلاح “ وبخيار السلاح العلمي “ دراسة علمية أحسن من كثيبة عسكرية”، لكن شأنه في ذلك شأن الذين سبقوه الى المجال. لم يركز الرجل إلا على الجانب الاقتصادي، على اعتبار ان الحركة الامبريالية كان هدفها التحكم في الثروات الطبيعية لدعم الصناعة الرأسمالية الحديثة كما رسم معالمها “جول فيري” مهندس الفلسفة الامبريالية.إن توجه نظر “دوفوكو” نحو مسالك التجارة الصحراوية -السودانية كان له مايبرره، ومع ذلك فالدراسة لمحت دون قصد الى مظاهر الحياة الدينية ببعض أجزاء السوس الاقصى، في حين غفلت معطيات دينية سيركز عليها مخبرين أخرين وفدوا إلى المجال كما هو الحال مع بعثة دوسوكونزاك.

 

أستاذ باحث في التاريخ الديني


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 23/04/2022