التصوف المغربي ودوره في أسلمة دول افريقيا جنوب الصحراء -16- التشكيك في متن الجواهر معناه التشكيك في حقيقة الوحي

لعبت اللغة العربية دورا كبيرا في أسلمة جزء كبير من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتجلى ذلك في كون هذه البقاع انتشرت بها الكثير من الطرق الصوفية المبنية على الاعتدال الذي هو عماد المذهب المالكي المنتشر على نطاق أوسع في دول المغارب، والملاحظ أن اتصال العرب بإفريقيا جنوب الصحراء حدث منذ أقدم العهود، فاليمن القديمة وصل نفوذها السياسي إلى القرن الإفريقي والحبشة، كما كانت علاقة غرب إفريقيا بشمالها قديمة، ونظرا لأن إفريقيا تأسست بها دول و ممالك ذات جذور عربية إسلامية، فقد كان لذلك دور كبير في تطور اللغات الإفريقية كلغات هجينة عربية، وقد لعب في هذا أيضا دور التصاهر بين العرب و الأفارقة، أضف إلى ذلك الدور الحاسم للعلاقات التّجارية التي كانت وسيطا بين الدول العربية ونظيرتها الوثنية.
يعتبر ميلاد الإسلام، وتطوّر الحضارة المرتبطة به نقطة تحول حاسمة أعادت إلى الحساب ماضي التّأثير العربي لغة وثقافة؛ ليصل العمق الإفريقي وأقاصي الغرب منه.وعلى هذا الأساس فاللّغة العربية لم تكن مجهولة عند الأفارقة، وإن كان معظمهم لا يتقنونها، ولكنّها كانت فقط مجرد لغة للتّفاهم مثل اللغات الأخرى. غير أن ظهور الاسلام باللسان العربي انتقل بهذه اللغة من مجرد لغة للحديث إلى لغة مقدسة. ونتيجة لذلك ، تأثرت العديد من اللغات العالمية باللغة العربية ، وكان من بينها اللغات الإفريقية بصفة عامة. ويعتبر التصوف العنصر الأساسي الذي أشاع الثقافة العربية في هذه البقاع وبخاصة التصوف التجاني السني الذي وجد إقبالا لم يعهد له نظيرا مقارنة مع الطرق الصوفية الأخرى. تحاول هذه الدراسة البحثية الاجابة عن سؤال محوري؛ كيف ساهم التصوف التجاني في أسلمة إفريقيا جنوب الصحراء؟ وكيف ساهم في نشر اللغة العربية على نطاق واسع خاصة وأنه اعتمد في متونه على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية؟

المصادر والمراجع الرئيسية في البحث:
لم تكن الطريقة التجانية موضوعا بحد ذاته في المؤلفات السوسية فأخبارها جاءت متناثرة في مؤلفات المختار السوسي ، إما في سياق الحديث عن سيرة افراد الاسر العالمة بسوس كما هو الحال بالنسبة للاسرة الادوزية حيث وجد السوسي نفسه منساقا للحديث على الصراع والسجال الصوفي بين الطريقة الناصرية والتجانية والذي اشغل لهيبه محمد بن العربي الادوزي، كنا ان صاحب «وفيات الأعيان» هو الآخر وجد نفسه مضطرا لانتقاد الطريقة التجانية في معرض حديثه عن الاسرة التمكديشتية والإلغية فقد اقحم نفسه في الصراع الذي اثارته الاسرة السالفة الذكر ليدافع عنها الاكراري ليس كمؤرخ وإنما كحفيد لاسرة ناصرية ذاع سيطها في سوس.
أ – مصادر التاريخ التجاني العام :
المقصود بها الكتابات التجانية التي ألفت في فترة الطبقة التجانية الاولى ، وتلعب دورا مهما في فهم ادبيات الطريقة ووضع مسلماتها ومقولات احمد التحاني في سياقها التاريخي العامن الذي انتجت فيه. ففهم ما كتبه الافارني او ابو علي بن الحسن الطبفور وا الحسن الباعقلي ومحاولة استنباط قضايا تاريخية-سياسية من الذي كتبوه لايتاتى للباحث إلا باستيعاب «الكتابة التجانية الاصلية» كتلك التي حررها غلي حرازم برادة او ابن المشري او الطيب السفياني فبهضها ظل مسلما بمقولات التاجني والبعض الاخر اشار إلى السجال التجاني بين سيدي احمد ومريديه النجباء. وما هم هذه الكتب تلك التي اشرنا إليها في معرض حديثنا عن رسائل أبي عبد الله محمد اكنسوس خاصة الحلل الزنجفورية والجواب المسكت وسوف نعود لتفصيل الحديث فيهما.
لايمكن للباحث في الطريقة التجانية وتاريخها او الذي ينتقل منها كمتن صوفي لاستنباط زعالجة قضايا تاريخية عالقة إلا بالعودة لمؤلفات الطبقة الاولى من التجانيين والتي هي في الاصل كتابات دفاعية عن مقولات سيدي احمد التحاني التي لم يسبق لطريقة صةفية ان اتت بها وهذه المؤلفات قد سبقنا باحثون متخصصون في الاشارة اليها وهي على الشكل الاتي :
جواهر المعاني وبلوغ الاماني في فيض سيدي ابي العباس التجاني : هو مجموع اقوال سيدي احمد التجاني، ومقولاته المثيرة للجدل كالختمية والازلية… ويجد الباحث في الطريقة التجانية نفسه إما مسلما بمقولات التجاني، فلايخرج بذلك عن متن النص كما حدث بالنسبة لاحمد الازمي الذي انجز اطروحته حول الطريقة وقدمها للمناقشة العلنية بتاريخ 20 ابريل 2000 او مشككا في هذه المقولات كما هو الحال بالنسبة للمؤرخ والنتربولوجي المغربي العدناني الجيلالي الذي ناقش بحته في رحاب جامعة إيكس بروفانس معتمدا نصوص معاصرة لاحمد التجاني، كتلك التي خطتها انامل ابن المشري والموسومة بروض المحب الفاني و الجامع لما افترق. نعود الآن الى جواهر المعاني الذي نشر لأول مرة بفاس سنة1927 فاثار حفيظة السلفية المغربية الممثلة انذاك في شخصين لعبا دورا مهما في الحركة الوطنية ومهاجمة الطرق ووسمها بالبدع، ويتعلق الامر بالعربي العلوي وعبد الحي الكتاني. في البداية يظهر ان منتقدي هذا الكتاب سيجدون صعوبة في ابداء رأي مخالف لأراء المدافعين عن التجاني، لكن سيصطادون هفوة او منزلق وقع فيه علي حرازم برادة لما اعتمد “سيرة ابن معن” دون ان يحيل عليها فاصبح جواهر المعاني نسخة معدلة لسيرة “ابن معن” بل ان زمن الشيخ التجاني في الجواهر هو نفسه في سيرة ابن معن، إذ لافارق زمني بينهما وكأن الأحداث التاريخية التي عاصرها الاول هي نفسها التي عاصرها الثاني. تصور الكتابات الدفاعية عن الطريقة الجواهر كأنه “دستور التجانيين” المنظم للعالاقات بينهم وبين الشيخ، وبينهم وبين رسولهم وربهم. فلا احد يمكن ان يجادل في مقولاته التي صدرت عن الشيخ في فترته، او التي برأة ذمته من الإنتحال وورطت علي برادة في فترة الحماية بالسرقة العلمية لسيرة ابن معن وضمها في الجواهر. إن تفسير نسخ الجواهر لما هو مدون بين دفتي الجامع لما افترق على أساس ان “ الفقيهين لم يفعلا اكثر من تدوين وجمع وتصميف ماكان يسمعانه من شيخهما بخصوص تعاليم الطريقة وفقهها” تفسير يفتقد للدقة والموضوعية التاريخية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ان إبن المشري ومحمد الغالي بوطيب وحتى برادة شكلوا معارضة داخلية في زمن الشيخ المؤسس، رغم ان التجاني صرح بكون الرسول صلى الله عليه وسلم اخبره بان جواهر المعاني “ كتابه وضعه بنفسه”. إن التشكيك في متن الجواهر معناه التشكيك في حقيقة الوحي وشرعية النبي محمد صلى الله عليه وسلم. دراسة الطريقة التجانية بشكل موضوعي حسب اجود ماقدم الى حد الان حول هذه الطريقة يجب ان ينطلق من مصدرين اساسيين هما : روض المحب الفاني والجامع لما افترق، فالتاني في المتخيل الشعبي التحاني، مبسط ومختصر لما في الجواهر الذي جمعه برادة بتعاون مع إبن المشري سنة( 1800) وكان إذ ذاك يسمى بالكناش المكتوم. إن اهمية روض المحب الفاني تكمن في تضمنه لاقوال قد تجانب الصواب بالنسبة للكتابات الدفاعية، فمثلا الشيخ المؤسس لم يكن ينظر له إلا من باب « الصحبة»وأن حب المريدين له راجع بالاساس الى الاموال التي كان يغدقها عليهم والتصدي للمخاطر التي يمكن ان تحدق بالشيخ لضمان الانعامات المادية. إذن لا أحد تجرأ للتشكيك في مقولات التجاني او أشار باللمز إلى الانتنقاد الذي وجه للجواهر ابتداء من سنة ،1927 فالازمي الذي وجد نفسه محرجا ترك المجال لآخرين وفضل الحياد بإشارته الى كون الكتاب طبع بالقاهرة سنة1927 وتكرر طبعه بمصر من جديد مع اشارته الى ان الطبعة المروجة في المغرب هي من منشورات دار الجيل ببيروت سنة .1988 وبالتالي فالرجل كان له هاجس التوثيق اكثر من التحري والنقد والمساءلة التاريخية لاكبر طريقةبالمغرب، بل ان المثير للدهشة هو كيف يتغيب كتاب من حجم روض المحب الفاني- الذي لايطلع عليه إلا من وضعت فيهم ثقة الاسر التجانية، مع العلم ان الاستاذ الازمي حضي بهذه الخصوصية في الاوساط التجانية بفاس والرباط .نعود الآن الى دراسة الاستاذ العدناني الجيلالي الذي راودته هاجس مقولات التجاني وحقيقتها، ينطلق الباحث من كون الطريقة التي سلمت بختميتها للطرق والشيوخ على اعتبار انها مكتوبة في الازل وان التجاني الذي يرمى بان الشيطان شيخه لانه لا شيخ له يبرر ذلك بقطيعته مع الشيوخ الخلوتيين وبكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم شيخه في الازل وفي زمن الشيخ التجاني، لكن جمع الجواهر الذي كان بامر نبوي سيعرض مقولاته للمساءلة والنقد، فكيف بالرسول الذي لايخطئ وأنه {ماينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى}ياتي جواهر المعاني بعكس ذلك مادام الجواهر اخذ عن «المقصد» الذي هو سيرة ابن معن . إذا كانت مساهمة ابن المشري في جمع الجواهر شكلية فإن علي برادة يتحمل على عاتقه صفة الانتحال من سيرة ابن معن، فمولاي العربي العلوي وعبد الحي الكتاني صاحب كتاب» تبليغ الامانة في مضار الإسراف والتبرج والكهانة» سنة 1926 اي قبل طبع الجواهر بسنة. وربما يكون صاحب رفع النقاب بعد كشف الحجاب اول من وضع قضية الانتحال فيالجواهر على المحك وقد برأ ساحة علي برادة طبقا للقاعدة «كل كاتب لايكتب من فراغ» فبرادة الذي لم يكن اديبا ماهرا، التمس من تجانيين كثر ان يساعدوه في اخراج الجواهر في حلته التي تليق بمقام الشيخ المؤسس. لم يلبووأْ رغبتهم فلم يجد امامه سوى «المقصد» ليسقط سيرة ابن معن على سيرة التجاني، وأرجح ان يكون برادة قد اطلع على لقاء التجاني بأحد الذين اخذوا عن ابن معن، وبالتالي فتاثير اسرة هذا الاخير ممتد في المنظومة التجانية والدرقاوية.
الجامع لما افترق من درر العلوم الفائضة من بحر القطب المكتوم: هناك إجماع على أن الغاية من هذا التأليف هو حفظ اسارا الشيخ المؤسس من الضياع، وبالتالي فهي تماثل في غايتها ومقصدها عملية تدوين الحديث النبوي ، ومن جهة اخرى فالمريدون خشوواْ من الزيادة في كلام التجاني، ومع ذلك ظهرت نسخ تختلف في متونها. الراجح ان كتاب “الجامع” انجز لأسباب موضوعية خاصة وأن البعض لم يستجب لما دونه علي برادة في جواهره . لهذا العنوان إيحاءات جوهيرية اكثر مما يدل عليه عنوان جواهر المعاني، “فالدرر” تحيل الى زبدة المعرفة الصوفية وأصالتها، اما “البحر” فهو اشارة الى الشيخ الذي لاسحال له في المعارف الدينية الظاهرة والباطنة. فيحين المكتوم اشارة الى عدم إعلان الشيخ عن قطبانبته كما فعل عبد القادر الجيلالي مثلا. وقد اشار الاستاذ العدناني ان هذا المؤلف الضخم موجود بعدة عناوين تختلف عن النسخة الموجودة بربائد خزانة جامعة ايكس بروفانس.
جزأ محمد ابن المشري كتابه الى جزئين؛ الاول خاص بتسهيل عملية إستيعاب المتون الصوفية الموجودة في الجواهر بلغة عالمة ، اما الجزء الثاني فهو مخصص لتعاليق الشيخ المؤسس حول بعض الايات القرآنية. يجزم الازمي بكون الجامع لما افترق ليس إضافة نوعية لجواهر المعاني، وربما هذا راجع الى اعتماده النسخة الرائجة في الاوساط التجانية، والتي تحاول ان تحيط الجواهر بهالة من القدسية، في حين يعود بنا الاستاذ العدناني بنسخة “ايكس بروفانس” التي حررها مقدم زاوية الغسول بالجزائر، والتي اعتمدت في مهمة استخباراتية من طرف الحاكم العام Gery Ville بتاريخ( 15 ماي1880/5 جمادى الثانية1297هـ) أصالة هذه النسخةكونها فريدة و الوحيدة التي تتضمن السند الكامل والسلسلة الكاملة لنسب احمد التحاني. اهمية هذا الكتاب هي تفسير صاحبه للعلاقة الاولى بين الشيخ المؤسس، ومريديه الذين ظلوا حبيسي مقولات شيوخهم الأوائل؛ معتبرين التجاني مجرد صاحبهم، وهذا ما لايعلن عليه صراحة في متون الجواهر. اهميته كذلك تتجلى في تدوينه “لجوهرة الكمال” وكتاب التجاني الموسوم ب”ياقوتة الحقائق في التعريف بسيد الخلائق”وبه اختتم ابن المشري جامعه. نخلص الى ان الجامع لما افترق ليس نسخة كما اكد على ذلك الاستاذ الأزمي في اطروحته، ورغم مجهوده المضني، ودراسته المقارنة بين الجواهر والجامع والتي اوصلته الى وجود قضايا قليلة ميزت عمل ابن المشري عن زميله برادة، والتي يرجح ان يكون الاول تلقاها بعيد وفاة الثاني في الحجاز سنة( 1218هـ). فالجامع هو رصد لسجال داخلي، بين مجموعة من المريدين، في علاقتهم مع الشيخ، حيث لم يسلمواْ بمقولات هذا الاخير بسهولة كما ظن البعض.
الافادة الاحمدية لمريد السعادة الابدية: تتجلى أهمية الكتاب في معاصرة المؤلف للشيخ المؤسس، وكونه كان مقدما للطريقة. فقد كانت للرجل مساهمات مادية في بناء الزاوية، وهناك إجماع كلي على استحالة مقارعة نص “الإفادة” بنص ابن المشري، او نص برادة؛ لكون الأولان توفيا قبل وفاة الشيخ، في حين الثالث عاش ثلاثين سنة بعد وفاة الشيخ المؤسس. إن التبخيس من قيمة “الإفادة” راجع بالاساس الى كون الذين اعتمدوه لم يركزواْ على قصائده الشعرية، والتي يستنبط منها عدة قضايا مهمة بالنسبة للمؤرخ، واهمها الشهادة الهامة حول خلافة الحاج علي التاماسيني، وما تلا ذلك من مناوشات وخلافات انتهت الى مناصرة صاحب “الإفادة “ للتماسيني ضد خصومه ومنافسيه. كما يقحم السفياني ابن المشري في الصراع بين الشيخ المؤسس ومريديه، دون ان يشير الى اسمه،وهي نقطة اساسية ينفرد بها صاحب “الافادة”.

*أستاذ باحث في التاريخ الديني


الكاتب : ربيع رشيدي *

  

بتاريخ : 29/04/2022