الجزء المليء من الكأس

 

يشبه الحديث عن الكتاب الأول، الحديث عن العشق الأول، وفي بعض الحالات قد يشبه الحديث عن الطفل الأول.
في أحد الأفلام الفرنسية القديمة، سمعت أحدهم يقول:إن «الطفولة هي مجموعة من المرات الأولى». أحببت على الفور هذا التعريف وتبنيته منذ ذلك الحين.
يندرج الكتاب الأول إذن، ضمن تلك التجارب الخارقة التي نعيشها للمرة الأولى، تلك التجارب المفعمة بدهشة البدايات.
لمجموعتي القصصية الأولى «ما الذي نفعله؟» حكاية طريفة جدا. فهي لم تكن أبدا عبارة عن مخطوط أولي يضم أوراقا كثيرة مبعثرة مشدودة بحبل، كما في أفلام الأبيض والأسود، أو محفوظة داخل ظرف كبير كما يصف ذلك بعض الكتاب الكبار في حديثهم عن إصدارهم الأول( كان غارسيا ماركيز مثلا يبهرني وهو يتحدث عن المسار العجيب الذي قطعه مخطوط «مائة عام من العزلة»). كتابي لم أرقنه أبدا. كان عبارة عن نصوص كتبتها بخط يدي الذي لا يفك طلاسيمه أحد غيري، وأرسلتها متفرقة لبعض الجرائد الوطنية. كنت في تلك الأثناء( سنة 1991) أجري تدريبا صحفيا بجريدة «أنوال» في القسم الثقافي عندما أخبرني الأستاذ سعيد يقطين عن جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب التي كانت تتهيأ لدورتها الثانية. شروط المسابقة كانت تتوفر فيّ باستثناء شرط واحد «أن يكون النص مرقونا».
كان عدد من النصوص قد نشر على صفحات الجرائد، وبعضها لم ينشر بعد، لم أكن أتوفر على حاسوب في ذلك الزمن، ولا على آلة كاتبة ( وكم كنت أحلم في ذلك الوقت بامتلاك آلة كاتبة أحملها معي أينما ذهبت، مثل روائيي النصف الأول من القرن 20).
بعد تفكير «عميق» ستؤخذ يعين الاعتبار كل الإكراهات المرتبطة بضيق الوقت وضيق ذات اليد. سوف أكتفي بقص نصوصي من الجرائد والعمل على تكبيرها بواسطة النسخ. أما بالنسبة للنصوص غير المنشورة، والتي كانت لا تزال حبيسة خط يدي، فقد لمعت في ذهني فكرة اللجوء إلى سكرتيرة «النادي النسوي» التابع لحزب الاستقلال بحينا. سترقن لي تلك السيدة الطيبة النصوص مقابل درهمين للورقة الواحدة. وبعد الانتهاء سأحمل المجموعة الى إحدى القريبات بمقر عملها لتستنسخ لي منها خمس نسخ مع تجميعها وتغليفها.
كتابي الأول اقترن بالجائزة، أو ربما كانت الجائزة هي التي ستجعله يرى النور أساسا، كما سيمنحني أيضا عضوية اتحاد كتاب المغرب.
كان الاحتفاء بالكتاب في ما يبدو، سابقا على صدوره. ومن بين الأمور التي أسجلها للتاريخ أن الكاتب عبد القادرالشاوي هو الذي أشرف عليه (بالإضافة إلى الكتب الأخرى الفائزة بباقي الجوائز). بل لا زلت أتذكر أنه اتصل بي هاتفيا ذات مساء ليقترح علي تغيير عنوان الكتاب، واقترح علي العديد من العناوين التي في ما يبدو، أو كما قال لي حينها «تجذب» القارئ. أخبرته في الهاتف أنني أفضل «السؤال» ( أقصد سؤال: «ما الذي نفعله؟») لأنني فعلا لا أدري ما الذي نفعله. كان سؤالا ضروريا وحديا ولم يكن الكتاب ليستقيم في رأسي بدونه (كما طلبت منه إضافة إهداء باسم زهور العلوي). أتذكر كيف تفهم عبد القادر الشاوي موقفي ، وتم الاحتفاظ بالعنوان.
سوف تظل لحظة لمس «ما الذي نفعله؟» لأول مرة، لحظة راسخة في الذاكرة. مازلت أتذكر مكالمة الشاعر محمد الأشعري الذي اتصل بي من مكتبه بجريدة «الاتحاد الاشتراكي « ليطلب مني المجيء لتسلم النسخ. في تلك اللحظة الفارقة التي كان يناولني فيها كتابي، شعرت أنه يسلمني طفلي الأول (يبدو أن مشاعر الأمومة متضخمة لدي منذ البداية). وفي غمرة ذلك الفرح الفريد من نوعه والكاسح، احتضنت النسخ الثلاثين ونزلت أكاد أطير فوق أدراج العمارة حيث مكتب الجريدة بالرباط.
المسافة التي تفصلني عن محطة الأتوبيس الحافلة بالواقع والضجيج، كانت قد تلاشت تماما…
يحلو لي اليوم أن أتذكر مشهدا جميلا لن يتكرر أبدا في حياتي. في مقعد خلفي في الحافلة «العادية» رقم 16، المتجهة من باب الحد بمدينة الرباط إلى حي تابريكت بسلا، كانت تجلس فتاة مغربية سمراء من الطبقة المتوسطة، تضم إلى صدرها نسخا من كتابها الأول.. وتبتسم بسعادة.
هذا هو الجزء المليء من الكأس. هناك جزء فارغ بالتأكيد: انعدام التوزيع، الاستقبال النقدي البارد، غموض المسار الذي سيقطعه الكتاب، ضرورة اقتنائه بمالي الخاص من حين لآخر من المكتبة الوحيدة التي تتوفر على نسخ منه لأمنحها للأصدقاء الظرفاء الذين يفضلون الكتب المهداة، الموقعة والمجانية.. التي لا يقرؤونها طبعا.
هناك بالتأكيد ما يفسد علينا لذة الكتاب الأول.


الكاتب : لطيفة باقا

  

بتاريخ : 18/12/2020