الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق 18 سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

V – دبلوماسيتنا البرلمانية :
الكونية، المأسسة والتأطير القانوني

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

 

دشنت بلادنا الولايةَ التشريعية العاشرة في سياق وطني من سماته مواصلة ترسيخ الاستقرار السياسي والمؤسساتي والصعود الاقتصادي، والتميز بتنظيم انتخابات منتظمة تفرز مؤسسات تمثيلية وأخرى تنفيذية. وقد كرس هذا الوضع، بالفعل تميز نموذجها الديموقراطي، المرتكز إلى أكثر من ستين سنة من التعددية السياسية التي لم تُلْغِها حتى السنوات الصعبة من تاريخ المغرب السياسي، وإلى أكثر من أربعين عامًا من الممارسة الديموقراطية التمثيلية أيا كانت جودتها والموقف الذي يمكن أن يكون حولها. وفيما نجحت بلادنا في ذلك بفضل مراكمة الاصلاحات الدستورية والمؤسساتية والسياسية والحقوقية، بقي جزء في جوارها ومحيطها في شمال إفريقيا والشرق الأوسط مضطربا في أكثر من بلد بسبب عدة عوامل ليس هنا مجال تعدادها. وهكذا تحول ما سُمِّي في الإعلام العالمي بالربيع العربي إلى دمار معمم جارف، أحيانًا وحروب أهلية وطائفية وقبلية أحيانا، مع ما لذلك من نتائج إنسانية كارثية تمثلت في عمليات التهجير والنزوح واللجوء الجماعي والتشريد.
وتتفاقم هذه المآسي بفضل الأعمال الإِرهابية والتطرف مما جعل حياة عدة مجتمعات معطلة عمليا، ومما هو بصدد إنتاج أجيال ضائعة نشأت وسط الدمار والصراعات العبثية.
ودشنا الولاية التشريعية العاشرة في محيط دولي من سماته ازدهار الخطابات الانطوائية والقوميات الضيقة والشعبوية في أكثر من بلد بما فيها بلدان ذات تقاليد ديموقراطية عريقة، على خلفية تزايد النزوح والهجرات واللجوء إليها وتداعيات العولمة.
لقد تعرض نظام العولمة كما انبثق مع نهاية الحرب الباردة والثنائية القطبية، لعدة هزات، وبرزت قوى جديدة مؤثرة في العلاقات الدولية والتوازنات العالمية، وفرضت قضايا جديدة ذاتَها في هذه العلاقات من قبيل قضايا المناخ وتحدي الإرهاب واللجوء والهجرات والفضاء الرقمي ….
ووسط كل ذلك ظلت، المؤسسات التشريعية، ولاتزال، بحكم التعددية التي هي من سماتها الأساس، قلاعًا لتجسيد التنوع والحفاظ على التوازنات السياسية والفكرية وإطارات للتناوب السياسي.
دوليًّا كان الرهانُ دائما على المنظمات البرلمانية متعددة الأطراف كإطارات للنقاش المفتوح، والمتحرر من قيود السلطات التنفيذية، وللتداول في مختلف القضايا  والمواضيع التي تهم راهن ومستقبل البشرية، وفي مقدمتها ضرورة تعزيز الديموقراطية التمثيلية والبناء المؤسساتي وقيم التعددية وحقوق الإنسان.
وقد كان من واجبنا في مجلس النواب أن نواصل ترسيخ حضورنا الفاعل في الدبلوماسية البرلمانية الثنائية ومتعددة الأطراف، الاقليمية والقارية والدولية، وأن نقدم مساهمات مجَدِّدة ومتميزة في مستوى تموقع بلادنا الإقليمي والقاري والدولي، وانسجامًا مع عقيدة الدبلوماسية الوطنية ومرتكزاتها المتمثلة في الدفاع عن السلم والعدل الدوليين وعن علاقات دولية متوازنة وعادلة. وأكثر من ذلك، ومواكبةً، وسيرًا على نهج هذه الدبلوماسية التي يقودها جلالة الملك محمد السادس، كانت لمجلسنا عدة مبادرات دبلوماسية برلمانية تمثلت في احتضان مؤتمرات وندوات دولية وقارية حول مواضيع جديدة في العلاقات الدولية. وبكل موضوعية، فإنه يرجع إلى مجلسنا الفضل في جعل عدد من القضايا العالمية التي كانت موضوع اشتغال دبلوماسية السلطات التنفيذية، محور اهتمام في الدبلوماسية البرلمانية من قبيل قضايا المناخ والهجرات والنزوح وتحرير المبادلات الاقتصادية خصوصًا في افريقيا.
ومن الطبيعي أن تظل قضية وحدتنا الترابية القضية الأسمى والمركزية في دبلوماسية مجلس النواب، بالخصوص أمام استمرار وجود جوار ملغومٍ مُدْعِنٍ في معاكسة منطق التاريخ والجغرافيا والشرعية الدولية ومعاداة وحدتنا الترابية. واحتلت هذه القضية المقدسة مكانة الصدارة في علاقاتنا واتصالاتنا الثنائية وفي أغلب مهامنا الرسمية.
وعندما حظيتُ بثقة زميلاتي وزملائي بانتخابي رئيسًا لمجلس النواب، بقدر ما أحسست بثقل المهام الجسيمة الملقاة على عاتقي، مع أخواني وأخواتي في أجهزة المجلس: أعضاء المكتب ورؤساء الفرق واللجن، في مجالات التشريع والرقابة على العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية، وتحسين صورة المجلس لدى الرأي العام ومواصلة بناء الإدارة البرلمانية، بقدر ما كنت أستحضر ثقل المسؤولية في مجال العلاقات الخارجية والدبلوماسية البرلمانية. فقد كانت الملفاتُ المطروحة على مجلس النواب في واجهة الاشتغال هذه، بقدر ما تنطوي على تحديات مصيرية بالنسبة لبلادنا، بقدر ما كان التعاطي معها يبدو مُيَسَّرًا لعدة اعتبارات :
يتمثل الاعتبار الأول في أنه، في مجموع الملفات الدبلوماسية والجيوستراتيجية المطروحة على بلادنا، ثمة طرق ومسالك مُعبدة فتحتها رؤية جلالة الملك محمد السادس، والاستراتيجية التي يقود بها الدبلوماسية الوطنية. وقد تأكدنا من ذلك في المهام التي كان على المجلس القيام بها، سواء في الدفاع عن الوحدة الترابية ومشروعية استرجاع أقاليمنا الجنوبية، وسياق استمرار بعض الأطراف، مع كامل الأسف، في معاداة المغرب، أو في مكانة بلادنا والتقدير الذي تحظى به، وهو ما لمسناه من خلال مقابلاتنا مع نظرائنا في البرلمانات الوطنية ومسؤولين حكوميين في عدة دول، الذين يقدرون عاليا رؤية جلالة الملك للعلاقات الدولية والتضامن العالمي.
أما الاعتبار الثاني فيتمثل في تموقع بلادنا الإقليمي والقاري والدولي، تموقع مقتدرٌ يَسَّرَه تراكمُ الإصلاحات السياسية والمؤسساسية التي تنفذها بلادنا منذ عقود والتي تعززت وسُرِّعت منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش المملكة.
أما الاعتبار الثالث فيتمثل في الرصيد الهام الإيجابي الذي راكمته الدبلوماسية البرلمانية المغربية على مدى الولايات التشريعية المتعاقبة، إذ سبق لمجلس النواب، كما أشرت إلى ذلك، أن ترأس أهم المنظمات البرلمانية متعددة الأطراف الدولية والقارية والإقليمية: الاتحاد البرلماني الدولي، والاتحاد البرلماني الإفريقي والاتحاد البرلماني العربي واتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي والجمعية البرلمانية للاتحاد من أجل المتوسط والجمعية البرلمانية للبحر الأبيض المتوسط، وهي منظمات كان المجلس من المؤسسين الرئيسيين لأغلبيتها. على أساس هذا التراكم الذي أنجزه زملاؤنا رؤساء المجلس السابقون، والمكونات السياسية للمجالس المتعاقبة، بَنَيْنا خطة العمل التي نفذناه خلال الولاية التشريعية العاشرة.
أما رابع الاعتبارات، الذي أقول تجاوزا إنه اعتبار ذاتي، فيتمثل في ما راكمته شخصيًا من تجربة متواضعة ومن علاقات دولية، سواء في الإطار الحزبي والمنظمات الدولية الحزبية، وفي إطار مسؤولياتي السياسية.
لقد ارتكزنا على هذه الاعتبارات، وهذه النجاحات الوطنية، وبحثنا عما يمكن أن نزيدَه كقيمة مضافة إلى دبلوماسيتنا البرلمانية التي أَعتبرُها من أنشط الدبلوماسيات البرلمانية وأكثرها فعالية عبر العالم، حضورًا متواترًا واجتهادًا وعقيدةً واقتراحات. وقد كانت مؤسستنا على صواب في هذا الاختيار اعتبارًا لِمَا للمؤسسات البرلمانية والديموقراطية من مكانة في العلاقات الدولية وفي التموقع، وفي تقدير قوة الأمم.
وعلى أساس الصدقِ، والثقة المتبادلة، والقيم المشتركة، التي أُسِّسَتْ عليها دبلوماسية مجلس النواب، سعينا إلى ترسيخ وتوسيع علاقات المؤسسة التشريعية مع نظيراتها في هذه المناطق الجيوسياسية المختلفة، وفي الإطارات الثنائية ومتعددة الأطراف وفق منهجية المأسسة (مجموعات الصداقة والمنتديات البرلمانية واللجن المختلطة من مستوى عال). والتأطير القانوني (الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والتي بلغ عددها 25 وثيقة) والاشتغال على قضايا تكتسي راهنية كبرى في السياقات الدولية والقارية والإقليمية.
وقد هيكل مجلس النواب خلال الولاية العاشرة 136 مجموعة صداقة مع مختلف البرلمانات الوطنية: 40 مع بلدان أوروبية، و30 مع بلدان القارة الإفريقية، و27 مع بلدان أمريكية و22 مع بلدان آسيوية و15 مع بلدان عربية ومجموعتان مع بلدين من أوقيانوسيا، أي ما يغطي 70 % من البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة. وواصلنا العمل بما دشنه، باقتدار، زملاؤنا السابقون في رئاسة المجلس في ما يخص المنتديات البرلمانية واللجن المختلطة مع مجالس من بلدان صديقة، والتي تبحث مواضيع ذات راهنية بالنسبة لبلادنا وشركائنا، فضلا عن هيكلة تسعة عشر شعبة برلمانية في المنظمات متعددة الأطراف والثنائية.
وفي اتساق تام مع فلسفة الدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك ورؤيتها وأهدافها، المستحضرة للقضايا الإنسانية، والمتشبعة بقيم التضامن والتعاون، واصلنا الاشتغال في إطار الدبلوماسية البرلمانية على قضايا تكتسي راهنية كبرى وتشكل مشتركا بين مكونات المجموعة
الدولية ؛ مع الحرص التام واليقظ على الدفاع عن قضايانا الوطنية وفي مقدمتها قضية وحدتنا الترابية التي شكلت محورًا التقائيا في كل اتصالاتنا.
في هذا الأفق، كان مجلس النواب إما مبادرًا إلى تنظيم واحتضان مؤتمرات وملتقيات دراسية برلمانية حول هذه الإشكاليات، مع الحرص على تتويج المناقشات التي تجرى في إطارها بتوصيات ووثائق مرجعية تفيد في الاشتغال على المدى القصير والمتوسط، وفي الترافع الدولي من أجلها، أو مشاركًا على نحو نوعي في إغناء المؤتمرات والملتقيات التي تنظمها المنظمات متعددة الأطراف، ومقترحًا تَصورات من موقع المقتنع بقضايا بلدان الجنوب.
وتتوخى هذه المنهجية ضمان استدامة علاقات الصداقة والتعاون والتنسيق في الإطارات متعددة الأطراف وخدمة القضايا الحيوية للشعوب، وفي العمل على رفع التحديات المشتركة التي تواجهها المجموعة الدولية، وفي مقدمتها مكافحة الإرهاب والتطرف والعنف، والهجرات واللجوء والنزوح، وانعكاسات الاختلالات المناخية على حياة البشر وعلى مستقبل العالم، والتعاون من أجل التنمية، وتَمَلُّك التكنولوجيات الجديدة والحد من الفوارق في امتلاكها واستعمالاتها، وقضايا النوع الاجتماعي.
وتُعَدُّ هذه المواضيع في قلب العمل المشترك الذي تنجزه دبلوماسية مجلس النواب من خلال المنتديات التي تتوج باقتراحات وتوصيات، هي اليوم رصيد هام في الترافع الدولي من أجل العدالة لشعوب قارات بلدان الجنوب :  إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
ووفق رؤية ناجعة، اشتغلنا مع برلمانات وطنية ومنظمات متعددة الأطراف في مختلف الفضاءات الجيوسياسية، رهاننا في ذلك ترسيخ حضور بلادنا على الساحة الدولية وإسناد الدبلوماسية الرسمية وإنضاج التفاهم مع باقي أعضاء المجموعة الدولية.
وإذا كانت افريقيا قد شكلت مجال عمل مشترك مع باقي البرلمانات الوطنية الإفريقية والمنظمات متعددة الأطراف، فإن تموقع بلادنا والتزاماتها الاستراتيجية والشراكات التي تقيمها مع التكتلات والقوى الإقليمية يَسَّرَ اشتغالنا بأفق متعدد المجالات الجيوسياسية. فقد حرصنا على مواصلة الحوار والتعاون ومد جسور التفاهم مع أصدقائنا الأوروبيين وفق ما تقتضيه مصالحنا الوطنية، وما يتطلبه الدفاعُ عليها وصونُها، من يقظة. وبالموازاة مع ذلك تواصَلَ حضورنا المتميز، والريادي في غالب الأحيان، في المجموعتين البرلمانيتين العربية والإسلامية، وسعينا إلى المساهمة في ترسيخ الحضور البرلماني المغربي في أمريكا اللاتينية، وأنجزنا مبادرات نحسبُها تأسيسية في علاقاتنا البرلمانية مع بلدان شرق آسيا، وانفتحنا أكثر على برلمانات أوروبا الوسطى والشرقية.


بتاريخ : 26/08/2021