الحرث في الحقل الخاص قراءة في تجربة الشاعر عمار عبد الخالق

ترتكز الشعرية العراقية المعاصرة على إرث غزير وثقيل وعميق يمتدُ من جيل الرواد، مرورا بجيل ما بعد ثورة 1958 –الموجة الصاخبة– الذي ترك أثره في جلّ الثقافة العراقية، وأثّر في ما بعد بالأجيال اللاحقة وأخرى تربت وسط حروب طويلة، وصولا إلى الجيل التسعينيات المتحرر من تلك الحروب، والملتجئ إلى القراءات المكررة عن السابق، والمتآكل في مطحنة الحصار، الجيل العدمي، والمعدوم، الذي أخذ من اللغة وسيلة بوح لتدوين المأساة.
يمثل هذا الامتداد أشبه بترسيمة لخريطة الشعر العراقي الحديث، الذي سكب ثقله على التجارب الشعرية التي برزت بعد حرب العام 2003، وهو الجيل الذي وصفه الناقد بشير الحاجم بـ “الجوكر” أو “شعراء الرعيل بعد نيسان 2003″، الجيل المنتج للرؤى والحديث الحاجم وغير المكترث بمستهلك له. إذ ظهرت لنا تجارب شعرية جديدة تحاول تشييد مباني نصوصها بتحرر عن ثقل الإرث، إلا أن هذا لم يحدث إلا نادرا، إذ أن بقايا الإرث بقيت تتسرب إلى هذه التجارب، على هيئة موضوعات، وتراكيب، وأفكار، ورؤى، ومجازات، واستعارات… إلخ، إذ أن قصيدة النثر العراقية التسعينية بقت مهيمنة على التجارب المتخلصة توا من هيمنة الرقيب العام، الذي بدوره خلق رقيبا داخليا لدى الشاعر ويمارس دور الشرطي الداخلي الذي يحاول الحفاظ على حياة الشاعر من القتل السلطوي، رغم اختفائه بعد عام الحرب !.
عقد من الزمن بعد ذاك، كان كفيلا بولادة تجارب شعرية جديدة ومغايرة، عاشت وترعرت في ظل تقلبات سياسية مختلفة عن السابق، أنتجت ما أنتجت من خراب وحروب داخلية طائفية، وسط انفتاح كبير، يعيش سلوكيات جديدة فرضتها الثورة التكنولوجية مع ممكنات الطلاع الواسع، وسهولة النشر، وسرعة الانتشار، الذي شابه الكثير من السلبيات والايجابيات، التي تركت أثرها على الشعراء الجدد، الذين تمكنوا من تحديد ملامح تجاربهم الشعرية، مع لفت الانتباه لها، والقول بأن الشعر العراقي بعافية مستمرة، رغم الهذيان المنتشر والمسمى عبثا (قصيدة نثر). كل تلك الظروف أثرت بشكل كبير في تنشئة جيل مغامر، ومغاير، ومتمرد على كل شيء، حرث حقله الخاص، بمعزل عن حقول الآباء الأولين، إلا أنه يعيش اغترابا داخليا، فوطنه ليس كمثل الأوطان، وشعبه يعيش في حياة بائسة ويدور في دوامات الموت والقتل والتدمير.
من هنا لم يجد الشعراء الجدد بُدا من السير في الحقول الخاصة متسلحين باللغة المغلفة بالتشظي والمعاني الجديدة المركبة، والمرتبكة أحيانا، وهو ما يعكس ارتباك اللحظة العراقية الراهنة.
عمار عبد الخالق واحد من هؤلاء الشعراء، إذ اختار حقله الخاص ليحرث به بمفرده ناسجا نصوصه الكتابية الشعرية من خلطة كبرى اسمها فضاء الثقافة العامة، والثقافة المحلية، التي وجدت طريقها إلى نصوصه، مستفيدا من تعدد تجاربه في العمل الكتابي لاسيما الصحافة الثقافية التي مكنته من تكوين قاموسه الشخصي، ونصه الذي ينتمي إليه والمتسم بالقلق والتمرد الحذر، وكذلك التنافذ مع الأنواع الأدبية المجاورة للكتابة الشعرية، فالنص عنده يأخذ عادة الكتابة الأفقية النصية، ومن ثم يعود في مواضع إلى الكتابة الشطرية، فضلا الاقتراب من عوالم المسرح والتلفزيون وغيرها من أدوات الثقافة، التي وجدت طريقها إلى نصه الشعري، نقرأ له في نص ” قديس لا يقرأ ولا يكتب” يقول فيه :
“رأس من الاسمنت يعمل محللا نفسيا في الفناء الأول يدور تحت جبين الرمل يطعم الشخصيات المقدسة بقفازات والماء في حركة إيقاعية “.
يأخذ النص عنده هنا شكل الكتابة الأفقية السطرية، المتجاورة مع النثر العام، وهذا ما فرضته طبيعة النص، التي تريد محاكمة التاريخ، ولعنه، بوصفه المسبب الرئيس لاحتراب مجتمعه، والمؤثر الفاعل بمصائر الناس، ليأخذ التاريخ عنده صورا تغريبية متعددة، فمرة هو قديس لكنه أميّ، ومرة يحيله إلى كتلة من الإسمنت الصمّاء والمدفونة في أمكنة بفناء كبير، ليبث الروح في الكتلة المرمية تحت الرمل، وجعلها مانحة الماء لرجالٍ أخذوا قداسة مجتمعية زائفة منحها لهم التاريخ الزائف، والذي مكن الشخصيات بالعبث بمصائر الناس، إلى آخر النص الذي يتعدد بسرد أس المشكلات التي أساسها التاريخ، وبحسبه فهو المسبب الأول في أحداث الخلخلة في محيطه المرتبك، ليطالب بإدخاله المشفى :
” يقص شريط النمرود بالإشارات الخارجة عن مؤسسة البائدة البصرية،
في هذه اللحظة أبواب المستشفى العسكري تنتظر عبور المشاريع الثقافية”.
يؤكد النص هنا على تمرد الذات الشاعرة التي ترى بأن النمرود الطاغي مازال موجودا، إلا أن الأبصار لم تدركه أبدا، إلا بصيرة الشاعر فهو وحده فقط من يرى أن الطغيان له مشروعه الثقافي الخاص، إلا أن هذا المشروع يعاني من مرض العسكرة، لابد من إدخاله المستشفى العسكري، فالعسكرة لا تنتج إلا الطغيان القسري، وأن مشاريعه عبارة عن جثث ماتت في التاريخ لكنها تتحكم بالعقول، ولابد من محوها، لكن هذا المحو بقي داخل النص.
يصرُّ الشاعر على اللعب باللغة لينتج معناه الخاص عبر إعادة تشكيل الجمل المحكية والعامة ليخلق المعنى المغاير، وهذا ما نلمسه في عنوان نص آخر له :
” إعلانات مدفونة الثمن ”
في هذا العنوان يحاول إعادة توظيف المهمل واليومي في الحياة، وقلب العبارة المعهودة ” إعلانات مدفوعة الثمن” ويستعملها استعمالا مغايرا تماما بفصلها عن سياقها في إِشارة إلى العبث القصدي في الحياة، والذي سببه عبث السياسة في حياة الفرد والجماعات بأدوات الإعلان الذي حول الحياة وأحلامها وثقافتها إلى سلع صناعية بأثمان لها أهداف خافية مدفونة في النوايا السيئة. ويؤكد ذلك في النص وهو القصير نسبيا، في أن النوايا دائما غير صادقة لدى المتسلط، لأنه هو المتحكم برأس مال الدولة والذي عماده البترول، يقول :
” لماذا
لم تسأل
عن موت الشقراء في ساعة البترول اليومية “.
هذا السؤال الكبير المفتوح المقلق الموجه إلى الآخر، لا يسأل عن فرد، بل يسأل عن موت مجتمع متكامل وهو يرنو ويرتقب أيام حياته المهدورة عبثا في حروب متناسلة من دون هوادة بسبب البترول الذي أمات الشقراء والشعب، تحت يافطات أعدت مسبقا، لأن ثمنها مدفون في النوايا، كما صرح العنوان.
ثم يعود ليسأل هذا الآخر:
” لماذا
لا تجيب
الأموات رموش اصطناعية
في مقلاة الحياة “.
ومن دون إجابة عن التساؤل من الآخر ينتهي النص، بسؤال مفتوح أيضا، إلا أنه سؤال مثقل بتفاصيل الموت الرخيص، إذ تحول الأموات / الشعب / الناس إلى مادة كمالية يمكن تغييرها ورميها في سعير الحياة الناري المنقوع بزيت القتل وبشكل قصدي وعمدي .
قد تكون تجربة عمار عبد الخالق يشوبها بعض الغموض وعدم الوضوح، إلا أنه غموض ينتصر للوضوح كما يصف أدونيس أنماط الكتابة الشعرية المثقلة بالصور المركبة، فالنص عنده لا يمنح نفسه بسهولة، وهذا ما جعل تجربته الشعرية تحفر بحقل خاص به. ونجد هذه الملامح في نصوص أخرى له مثل “أحواض نسائية من الزئبق” و”ميلاد الخلايا العصبية في مقهى البرلمان” و”بيروقراطية يد السوط تتمايل مع الريح” وغيرها من النصوص.


الكاتب : عامر موسى الشيخ (العراق)

  

بتاريخ : 19/08/2021