الحياة، السلطة، المقاومة… 2‪/‬1

هوامش انطلاقا من فوكو

 

كثيرا ما تُمارَس السلطة على الحياة وفق أشكال عديدة من العنف في عالم تسوده عولمة نيو ليبرالية. يفصل العنف الممارس على الحياة هذه الأخيرة عن قدرتها على الفعل، وهي القدرة التي تجعل منا فعلا كائنات إنسانية. بالنسبة للذوات التي تحيا حيوات هشة مفصولة عن القدرة على الفعل، لا توجد هناك أي إمكانية لأنها لا تحيا كذوات فاعلة وتقديمها كذوات سياسية قادرة على تحرير الإنسانية حين تتحرر هي نفسها أولا. لا يتعلق الأمر هنا بملايين الرجال والنساء، الذين يفقدون باستمرار، في العالم الراهن، المزيد من حقوقهم الأساسية.أو لا يكفون عن الوقوع ضحية الظلم، ما وراء كل هذا يتعلق الأمر بملايين النساء والرجال الذين ليس بوسعهم حتى تصور إمكانية انخراطهم في فعل سياسي. تنجم الأزمة السياسية عن هذه الوضعية بالذات وترتبط بأشكال اجتماعية تسمح لأشكال العنف القصوى ولآثارها المدمرة بجعل الذوات تفقد ذاتيتها.

***
لنفكر مثلا في المقصيين والمنفيين ماديا ومعنويا، في المتخلى عنهم تماما خارج دائرة الوجود والإنتاج، في الذين فقدوا تماما العلاقة مع مسقط الرأس، مع الأرض التي فيها ولدوا وعاشوا وترعرعوا، كما هو الأمر بالنسبة للمنفيين والمهمشين سواء منهم المرميين عند هوامش المدن في الأحياء العشوائية بجوار مطارح النفايات أو في المهاجرين واللاجئين، وفي أولئك الذين ظلوا مقيمين في المكان الذي ولدوا فيه لكنهم صاروا الهدف الأول لأشكال العنف والكراهية والإهمال والهشاشة الاجتماعية والتمييز أيضا، ويعيشون داخل الحياة اليومية باعتبارهم أعداء الداخل. لنفكر أيضا على مستوى آخر في أولئك الذين لا يعثرون على مكان لهم في العالم بسبب البطالة أو الهشاشة الاجتماعية. ينبغي التمييز هنا بين» العنف الأقصى الموضوعي جدا» والمرتبط بالعنف البنيوي المفرط للرأسمالية المعولمة والذي يفرض بطريقة آلية قوانينه، منتجا تبعا لذلك الإسراف الموضوعي والذي لا معنى له لاستغلال يدمر الموارد البشرية الخاصة وكل المحيط البيئي في العالم. أما الثاني فهو «العنف الأقصى الذاتي جدا» المرتبط بالأشكال المفرطة للعنف الطائفي والعنصري، أي أن الإفراط في ارتكاب العنف هنا يعزى إلى الهلوسات الاستحواذية الناهضة على النقاء العرقي الهوياتي وعلى ما يسمى بضرورة الحفاظ على توابث الهوية والذي يدمر تماما تلك الغيرية الضرورية لتحديد الهوية نفسها . ينتمي شكلا العنف هذان إلى نفس التركيبة، أي أن تدمير إمكانيات المقاومة لدى الذات يمكن أن يبدأ في الخارج ويصل إلى الداخل، ينطلق من العنف المادي إلى العنف الرمزي دون أن تتغير النتيجة، إذ أيا كانت عوامل العنف فإن الذات ستفقد نفسها وتفقد العالم. سيتم فقدان الأنا والعالم في الوقت نفسه.
***
إن ممارسة العنف على الذات، إجبارها على فقدان نفسها والعالم معا، هو ممارسة العنف على الحياة أي العيش المشترك الممكن، من حيث هو جماع أفعال الذاتيات كلها، فصل الحياة عن قدراتها على الفعل والمقاومة، وإدخالها حيز الانهمامات الحزينةpassion tristes.ليس من قبيل الصدفة أن يبدأ العنف الأقصى على الصعيد الذاتي أو الموضوعي، لأنه في نهاية المطاف يصل الحد الذي لا رجعة منه، وهو تأزيم الذات وبالتالي تأزيم الحياة كلها، مراقبتها، تصنيفها، ممارسة السلطة عليها وجعلها تابعة للسياسة .يمكن أن نرصد تبعية الحياة للسياسة اليوم عبر الكثير من الأشياء والظواهر التي عبرها تقوم الأجهزة الأخطبوطية للسلطة بالتحكم في حيوات الناس، عبرالتأطير والمراقبة والتصنيف الاجتماعي والتمييز بين الشرائح والفئات وممارسة الاحتواء أحيانا للحركات الجماهيرية أو القمع الشرس أحيانا . لا نكون هنا إزاء سلطة الحياة أو القوة الخاصة والذاتية للحياة) ما يسميه سبينوزا (potentia بل نكون إزاء السلطة على الحياة أي فصلها عن قواها وقدرتها) وهو ما يسميه سبينوزا الفيلسوف الهولندي potestas (.تلج الحياة فضاء السلطة كرهان تراهن عليه هذه الأخيرة.
هكذا تضع السلطة حيوات الناس كرهان لاستراتيجياتها السياسية الخاصة، حيوات الناس كنوع بشري من جهة وكذوات من جهة أخرى. يبرز ذلك مثلا عبر ظواهر عديدة حين تتدخل الشركات المتعددة الجنسية في مجالات الصناعات الغذائية، وتقوم داخل مختبراتها بتغيير البذور والمكونات العضوية وراثيا، وحين يصير الحفاظ على البقاء والأمن والاستقرار بالنسبة للساكنة سببا مطروحا لتدخل جيوش الدول العظمى وقيامها بالغزو، وبعمليات بوليسية ضد دول أخرى أضعف وأقل قوة، أو حين يتم إخضاع حيوات الناس لحسابات مالية رأسمالية دقيقة خاضعة لمنطق الربح والخسارة. يبرز إخضاع الحياة لمنطق السلطة أيضا بمجرد ما يصير المرض في كل تجلياته، ظهوره، انتشاره، تطوره عند الفرد ونتائجه على المجتمع ، موضوعا للصراع لا يمكننا الاعتقاد بأنه يضع فقط الإنسان في مجابهة «الطبيعة» بل بالأحرى أمام مستويات إدارية، علمية تجارية.
لنر أيضا كيف أن السلطة تتدخل بشكل مباشر في حياة الناس سواء كأفراد أو كساكنة تنتمي لجماعة، عبر سن قوانين لإصلاح أنظمة التقاعد، عبر التوزيع اللامتكافئ لأنظمة الرعاية الصحية من خلال تشجيع خصوصيتها وتحويلها إلى مقاولات تجارية تتغيا الربح من جهة، وخلق صحارى صحية من جهة أخرى، وعبر تدخلها في التعليم من خلال عمليات القضاء المتواصلة على المدرسة العمومية واغتيالها وخوصصة التعليم بالشكل الذي يرمي بمئات من أبناء الطبقات الشعبية في الشارع، ليصيروا عرضة لإدمان المخدرات والجريمة والدعارة، ويحافظ لعشرة في المائة من أبناء الطبقات الكامبرادورية على تعليم متميز، وكيف تتدخل السلطة في مسائل التشغيل والبطالة وغيرها.
غالبا ما تكون للسلطة ممثلة في السياسات التي يتبعها الحاكمون، منطق للتدخل السياسي. تسن السلطة قوانين تشتغل دائما كمعايير لا مرد لها، وتعلن نفسها كذلك، وتعلن/تطرح هذه القوانين كما لو أنها مجموعة إجراءات لإصلاح هذه الممارسة أو تلك. ينبغي القول هنا بأن الإصلاح فكرة غبية، لأن الحديث عنها ليس أكثر من خطابات تمويهية تنطرح في اتجاه الغاية الوحيدة التي تحكمها، وهي صناديق الاقتراع، على اعتبار أن سياسة الحاكمين (أو السياسة الحكومية) هي مجرد سياسات حزبية أو مرتبطة بجماعات أو أحزاب صارت شبيهة بلوبيات أو جماعات ضغط.إن سياسات الحاكمين هي ممارسة لنوع من العنف الرمزي على الحياة يوازي / يساند العنف المادي الذي يمارس عليها، وهدفها إعاقة ذلك التمفصل بين «الأنا» و»العالم» الذي هو التمفصل المؤسس للذات السياسية، أي أن هدف هذا العنف الأقصى المزدوج هو القضاء تماما على الذات السياسية بل وعلى الإرهاصات الأولية لتكونها.
نحن ملزمون أساسا، انطلاقا من هذا المنظور بطرح سؤال مركب ومعقد وهو: كيف يمكننا ممارسة الفعل سياسيا داخل مجتمع عنيف بشكل مفرط، وتسوده بشكل متزايد نزعة مضادة تماما للسياسة؟. كيف نستطيع الدفاع عن حقوقنا، خلق صراعات سياسية وفي نفس الوقت محاولة إضفاء طابع سلمي ومدني عليها، كيف يمكن ذلك ونحن نرى انبثاق أشكال عديدة لعنف أقصى هدفها تحديدا هو القضاء على إمكانية تفكير وتقديم ذواتنا كذوات سياسية.
***
السلطة القمعية بمختلف أشكالها وعناوينها سلكت مسارا طويلا لتقوم بالتطبيق المنهجي للعنف الأقصى على الأفراد. يمر هذا المسار من القضاء كلية على الوضع الاعتباري للأفراد إلى تدمير شخصيتهم الأخلاقية، إلى إلغاء الحياة الفردية كسمة فعالة للوجود. يقود هذا المسار حتما إلى تدمير الشرطية الإنسانية التي ليست ماهية ميتافيزيقية، بل شرطية سياسية، شرطية من بإمكانه أن يصير «فاعلا»، مواطنا فعالا داخل عالم متعدد ومشترك، أو من قد يمكن القذف به داخل شرطية غير ملائمة وهشة [أي: من يتم حرمانه من حقوقه، أو من يصير لاجئا، أو شرطية من يسمون في الخليج العربي (الكويت تحديدا) «البدون» جنسية- دولة – هوية- الكائنات الإنسانية اللزجة المفرطة الهشاشة والتي تضيق بها الحدود والهويات والجنسيات والأناشيد والأعلام الوطنية فتلفظها/ تقذف بها بعيدا لتصير بدون حق في امتلاك حقوق].
***
إن سقوط الأنظمة المسنودة إلى سلطة سياسية قمعية قاتلة للمواطنة -[cito cide] على مقاس infanticide مثلا وهي صيغة مزجية تتكون من الأحرف الأولى لكلمة citoyen مضاف إليها في الأخير ملحق تال suffixe الذي هو cide]، ليس بالضرورة بداية مجتمع مفتوح يكون مصدرا للثقة والأمان. لقد برزت في النصف الثاني من القرن العشرين مثلا أشكال للعيش المشترك ذات طابع عدواني ومضاد كلية للحياة الاجتماعية. يكون هذا بمثابة ألغام تنزرع في تربة القدرة الإنسانية على بناء عالم مشترك وذاتية سياسية ممكنة.يتعلق الأمر بأشكال للحياة والتنظيم الاجتماعي تفرز، عبر اشتغالها اليومي العادي تحديدا، سيرورات اللاتذويت، أي تنتج أشكالا من «الاستيلاب» للعالم وللذات، وسيرورات البؤس والتدمير.
***
يمكن ملاحظة ذلك في السيرورة التي تختزل المجتمع في العلاقة (عمال- مستهلكين)، أي في اختزال الإنسان في شرطية «الحيوان العامل» أو «الذي يعمل «، حيوان يمارس عملا ليستهلك ويستهلك (بضم الياء) ليكون قادرا على العمل، حيوان فقد تجربة ممارسة النشاط المضمون للإنسان الصانع homo faber وحرية الإنسان الذي يحيا حياة سياسية أي التي يتحول فيها عمله إلى نوع من البراكسيس أي الممارسة الخلاقة، أي حيوان لم يعد يعرف القيمة التكوينية للعمل وللتفاعل الاجتماعي، والذي لا يعرف، كنتيجة لذلك كيف يعثر داخل (الحياة العملية) على فرصة ليصير ذاتا.
***
لقد تعرض المجتمع الحديث لعملية الخوصصة la privatisation ، التي احتل فيها العمل مركز الحياة الاجتماعية، لكن فقط كنشاط منفرد، لا يلفي داخله الإنسان نفسه موحدا لا مع العالم ولا مع الكائنات الإنسانية، بل يلفي نفسه وحيدا مع جسده، وأعطابه وانهماماته الحزينة، وكوابيسه وفجائعه الشخصية، وحيدا في مواجهة تلك الضرورة الشرسة أو القوة القاهرة، ضرورة البقاء على قيد الحياة.
إن الجماعة إذن، عكس ما ذهبنا إليه في السبعينات وتخيلناه، ليست سوى «إعادة بناء لنمط حياة جديدة»، وهو يظل في كل الحالات، برنامجا بروميثيوسيا يجمع داخله كما اتفق، الجماعات العاشقة للحياة والتي تحيا مضاءة بألق اختلافاتها، والتصورات الداعية إلى إعادة تأسيس المنظومة التعليمية، إعادة الانتشار الفعال للممارسات الإبداعية الفنية، تعميم المراقبة العمالية، العناية بالأطفال المتخلى عنهم وإعادة إدماجهم اجتماعيا، تحرر النساء وإعادة الاعتبار للاختلافات الجنسية وإعطاء الأولوية لمسألة النوع le genre… إلخ .نعلم أن الذي تخيلناه/ فكرناه وذلك منذ سبعينيات القرن الماضي،نعلم بأن الأمر يتعلق بتجربة نادرة جدا، غير مسبوقة في سياقنا السياسي والاجتماعي والثقافي، تجربة لا آباء لها عدا المفكر الفذ الأساس ماركس )الذي كان بالنسبة لنا لحسن الحظ رفيقا ولم يكن أبا(.
يمكن للعمل أن يصير الأرضية التي يمارس فيها العنف الاجتماعي الذي لا نظير له، والذي لا يرنو لشيء آخر عدا الاستغلال المفرط، العنف الذي يدفع الإنسان إلى اكتشاف اللاجدوى التي تسكنه باعتبارها شرطية استحالته الوجودية، الشرطية المؤسسة لعطالته وانفراغه من كل كثافة أنطولوجية لينحو هذه العنف منحى القضاء على كل إمكانية للمقاومة (على القدرة على المقاومة والتفكير والفعل والحلم.) لذا يضطلع الإنسان العامل بتجربة العزلة أي بما يهيئ الأفراد للخضوع تماما لهيمنة الاستبداد وللعبودية ولفقدان فاعلية الوجود في عالم معولم.
تمارس السلطة على الحياة كعنف رمزي ومادي، كتدمير للذاتية السياسية بشكل منهجي، يدفع الأفراد إلى استبطان العنف الممارس على حيواتهم كما لو أنه ضرورة شارطة لها، بحيث يبررون العنف، ويتبنون الخضوع ويدافعون عن عبوديتهم بشراسة كما لو أنهم يدافعون عن حريتهم. هكذا ينفصل الأفراد عن قدراتهم، وعن إمكانية ممارسة الحرية، التي هي حرية الفاعلين داخل عالم مشترك، أي دون انفصال عن هذا العالم، أي باعتبارها حرية الذات السياسية .إن معنى السياسة سيصير بالتالي هو الحرية.إن عنف السلطة، عنف لا جدوى منه ولا يرمي إلى بلوغ هدف ما نوعي، لكنه يتمكن، مع ذلك من إعاقة سيرورة التذويت. هنا، داخل سيرورة العنف المتعدد، يتحالف الصمت المرعب للنصوص القانونية التي تحول الحياة، في الكثير من جوانبها إلى حالات وسياقات قابلة لأن تصير قضايا جنائية أي موضوعات للمراقبة والعقاب، يتحالف صمت المتن القانوني مع صخب وضجيج إجراءات التطبيق والتنفيذ.
***
هنا بالذات، يغطي صخب التطبيق والتنفيذ، الرعب الصامت للنصوص القانونية وتصير الحياة موضوعا لا للمراقبة فقط، بل للإكراه والعقاب بذريعة أن القانون لا يحمي المغفلين، بينما يظل القانون متنا غامضا لا أحد يعرفه ويطلع عليه تماما، كما الحكاية الأليغورية الصغيرة بعنوان «القانون» التي كتبها كافكا حيث وجدت الشخصية الرئيسة نفسها وقد قضت سنوات أمام باب القانون حتى شاخت واشتغل رأسها شيبا، دون أن تستطيع عبور عتبته. فلا أحد يعرف القانون إلا حين يطبق عليه تماما أيضا كما في قصة كافكا القصيرة (معسكر العقاب)، حيث لن يعرف المحكوم منطوق الحكم ،إلا حين ستبدأ أنياب آلة الإعدام الحديدية في حفره على لحمه مباشرة.
هكذا تصير الأجساد الحية، أجساد محكومين، وتصير حيوات الكائنات الإنسانية حيوات مهملة منفية منسية منبوذة.إن الحركة الأساس التي عليها تنهض سيادة نظام ما وممارسته للهيمنة، هي حركة الإهمال والنفي والنبذ، علاقة التخلي عن المواطنين (أو من يفترض أنهم كذلك) وعن حيواتهم، حين تنبذ السلطة الناس وترمي بحيواتهم على قارعة الطريق، في المنافي والأحياء العشوائية على هامش المدن، فإنها تطبق المبدأ الأول الناظم لها كسيادة/سلطة نابذة، تمارس الإهمال والإقصاء والنفي في حق الحياة الإنسانية، وتحول الأجساد الحية إلى مجرد كائنات آلية (روبوتات) أو تختزل الحياة في مجرد جريان عضوي للدم في العروق والشرايين. ليس الحق في الحياة مجرد مطلب منصوص عليه في إحدى مواد دستور ما من الدساتير، لأنه أكثر شساعة من معاني الكلمات ومحدوديتها والتي يتم التنصيص عليها قانونيا. إن الحق في الحياة، كما يرى فوكو، انبجاس لمطالب يتعذر اختزالها في مجرد التأكيد على الحقوق القديمة. إن الإلزام، مثلا بالسماح للأفراد المنتمين لشرائح اجتماعية فقيرة ومحدودة الدخل، بولوج الخدمات الصحية والتعليمية يدخل في إطار الحق في الحياة، ويؤدي بالضرورة إلى القيام بتفكيك عميق للبديل المتمثل في الحقوق الشكلية والحقوق الفعلية، الحقوق- الحريات التي تطرح على الأفراد كديون عليهم تسديدها بأقساط غير مريحة قد تمتد على مسار حيواتهم. عبر طرح الحق في الحياة، يتم تفكيك تلك العلاقة التقليدية والمتوارثة بين الفرد والدولة بحيث لا يصير مسموحا لهذه الأخيرة ولا ممكنا لها الدوس على حقوق الفرد، أو أن تفرض عليه الخضوع وأداء الضرائب دون الأخذ بعين الاعتبار لمتطلباته الحيوية. إن الحق في الحياة إلزام، لا ينكتب فقط في فضاء المطالب، وهو ما يتعلق إلى حد الآن بصدفة الولادة والمرض أو الموت، بل بنوع من الاشتغال الواعي والعقلاني، أي بإعادة توزيع عقلانية وديموقراطية للفاعلين ولذوات الحقوق، فحق المرضى أو المساجين أو النساء أو المختلفين جنسيا…إلخ ، لا يمكن اختزاله في مجرد سلسلة إضافية من الحقوق، لأنه يشكل أساسا في حد ذاته حقا آخر قائما بذاته.
إنه الانتقال من السلطة على الحياة إلى سلطة الحياة، ويجب تحديد اصطلاحي سلطة وحياة بشكل متبادل، عبر إبراز العلاقة بينهما. طرح فوكو اصطلاح) السلطة الحيوية (le biopouvoir لإبراز نوع من العلاقة بين السلطة والحياة، عبرها يحدد كل طرف على حدة. تنكنب هذه العلاقة [سلطة/حياة] ضمن تاريخ ذي اتجاهات وأبعاد متعددة غير موحدة. إن بعد الحياة كرهان للتقنيات السياسية أو لفن الحكم قد يتقاطع أو لا يتقاطع مع التجذر الحيوي للسياسة. حين نتصدى لمساءلة مسألة (السلطة الحيوية) انطلاقا من فوكو، فإن الأمر يتعلق بفتح سلسلة مزدوجة من التساؤلات. يجب بدءا توضيح التحديد المتبادل للاصطلاحين: سلطة وحياة عبر وضعهما في إطار علاقة، وتوضيح طبيعة العلاقة التي يؤسسانها. يجب تحديد الحياة المتضمنة داخل السلطة، أي طبيعة الحياة التي تصير موضوعا للسلطة ومضمونا لها، هل يتعلق الأمر بالجسد الذي هو موضوع الانتظامات والمراقبات، أو بالوجود مثل حيوات السفلة أو أراذل الناس les hommes infâme، أي الحيوات الصغيرة المهملة التي تحدث عنها فوكو والتي تتعلق بالسلطة، ترتبط بها، وتخترق من طرفها، هل يتعلق الأمر بحياة عارية منذورة للموت دون أن يتلقى قاتلها أي عقاب باعتبارها حياة مقدسة، أي قابلة للتضحية، أو يتعلق الأمر بالبقاء قيد الحياة، حياة الإنسان الطاعن في الكوما أي تلك التي لم تعد حياة. أما السلطة من جهتها، فإنها في ارتباط مع ما يطال الحياة، تتغير حين تلج الحياة حقل اشتغالها وتصير موضوعا من ضمن موضوعاتها. يجب أن نفهم في الأوان ذاته التحول الذي طال طريقة اشتغال السلطة وطريقة انمناحها للرؤية، والتحول الذي طال طريقة تفكيرنا لها.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 20/08/2021