الحياة، السلطة، المقاومة … 2/2

هوامش انطلاقا من فوكو

 

يعتبر فوكو بأن أطروحة السلطة الحيوية هي بالفعل إعادة تحديد للسلطة، ولكن خصوصا نمط لتملك السلطة، للتعامل معها هناك حيث تنمنح وتوجد. إن السلطة الحيوية آلية حديثة خصوصا وتظل مختلفة عن «السلطة الحاكمة القديمة» بالرغم من استمرار التعالق معها والارتباط بها وفق نماذج وصيغ متنوعة. تشتغل السلطة الحيوية عبر تكنولوجيات السلطة، ويجب تحليلها من جهة داخل اللعبة الملموسة لتلك الإجراءات والمعطيات الشديدة المحلية، ومن جهة أخرى عبر الطريقة التي ترتبط من خلالها بالسيرورات الواسعة للسيادة والحق. إن السلطة الحيوية هي التي تقرر في شأن/ شؤون الحياة، وهي التي تصير مصدر القرار الراديكالي الذي يمس الحياة العارية وتقود بالتالي كمفهوم إلى تغيير معنى السياسة. سبق لفوكو في ) إرادة المعرفة /1976(1 أن اعتبر بأن الحياة رهان متميز بالنسبة للسلطة وأن [الإنسان الحديث حيوان وضعت حياته ككائن حي موضع تساؤل داخل السياسة].
الملاحظ أن أطروحة السلطة الحيوية متضامنة مع إعادة تحديد لمفهوم السلطة، لم يتم الذهاب به في هذا المسار إلى نقطة نهايته، بل قاد إلى طرح مسألة الذات. أعاد فوكو تأويل أبحاثه وكتب في مقال «الذات والسلطة» بأن الثيمة العامة لأبحاثه ودراساته ليست السلطة، بل الذات. بدا هذا التحول في المسار الفكري لفوكو في دراسته للسلطة الرعوية le pouvoir pastoral والحكماتية la gouvernementalité ، وإعادة صياغة مفهوم السلطة الحيوية، مما أدى لاحقا إلى تأكيد صاحب «تاريخ الجنون» على مسألة «تكنولوجيات الذات».لم تكن أطروحة السلطة الحيوية le biopouvoir غير لحظة أساس لكنها موجزة وعابرة في فكر فوكو، بالرغم من أن بعض مؤوليه اشتغلوا عليها كما لو أنها لحظة نظرية تحتل مكانا هاما لديه.
صحيح أن فوكو اعتبر أنه ليس منظرا للسلطة، ولكنه صاغ هذه الأطروحة ) السلطة الحيوية( التي اقترحت إعادة تحديد للسلطة يقود بعد ذلك، إلى طرح مسألة الذات. يمكن تبين ذلك في دروسه سنة 1976 بالكوليج دو فرانس وكتابه )إرادة المعرفة( الذي هو الجزء الأول من ) تاريخ الحياة الجنسية( وليس «الجنسانية» كما ذهب إلى ذلك بعض المترجمين المغاربة. حيث ركز خصوصا على مظهرين متعالقين يحددان رهان السلطة الحيوية: تشير الأطروحة من جهة إلى التحول الذي طال نمط ممارسة السلطة، وتدعو من جهة أخرى، إلى طريقة جديدة في مساءلة السلطة لتملك تكنولوجيات السلطة الجديدة. يتم التحليل إذن حسب صعيدين مختلفين، لأن ما يمنعنا من استدعاء السلطة داخل اللعبة المركبة لإجراءاتها هو تحديدا كونها تنمنح داخل مدونة القانون والسيادة. إن استيعاب تحول نمط ممارسة السلطة هو قراءتها انطلاقا من مقاربة جديدة، وهذا ربما هو ما يشير إليه فوكو في ) إرادة المعرفة( حين يقول بأنه داخل النظرية القانونية jurisprudence لم يتم )قطع رأس الملك أي القطع نهائيا مع نظرية السيادة(.
عصر السلطة الحيوية هو ذاك الذي أخذت فيه السلطة الحياة بعين الاعتبار، ويأتي تاليا لعصر السيادة ومرتبطا به ومحولا له. يتحدث فوكو عن ) تغيير عميق جدا في ميكانيزمات السلطة(2 حيث سيتم إضفاء طابع النسبية )تنسيب( الحق في الحياة والموت الذي يملكه الملك )الحاكم(. مورس هذا الحق في الموت )في الإماتة أو القتل( faire mourir باعتباره حق السيد، ولم يعد الشكل الأساس للسلطة بل مجرد آلية من ضمن آليات أخرى. لقد انتظم )أي الحق في الإماتة والإحياء الذي يمتلكه الملك( ضمن سلطة تقوم بتدبير الحياة، التي لم تعد فقط قوة للعمل،أي قاعدة رئيسة وضرورية للرأسمالية، بل عنصرا من تاريخ حيوي يمكن داخله اكتساب إمكانية تغيير الحياة، من حيث شروطها المادية والصحية. يربط فوكو هذه الأطروحة بأعماله السابقة حول ميكروفيزياء السلطة إذ بين في ) المراقبة والعقاب/1975( بأن السلطة التأديبية disciplinaire تعمل على استغلال كل القوى النافعة للأجساد والأفراد. بين فوكو أيضا نوعا من التكنولوجيا اللاتأديبية non disciplinaire للسلطة لا تقصي السلطة التأديبية ولكن تنطرح بجانبها، وتدمجها و»تستعملها عبر الانزراع داخلها»3 .
تشتعل هاتان التكنولوجيتان على مستويين مختلفين: فالسلطة التأديبية مفردنة والسياسة الحيوية تتصدى للأفراد ككتلة.تتعامل السياسة الحيوية مع الإنسان ككائن حي، لا مع الجسد بل مع ) «تعددية الناس ككتلة تخترقها سيرورة جامعة خاصة بالحياة»(4 بدءا من الولادة وصولا إلى الموت، وما بينهما من أمراض وتدهور للإمكانيات والقوى الجسدية والشيخوخة، والحوادث، وكل ما يتطلب ميكانيزمات الحماية والتأمين، وأيضا العلاقة بين النوع والوسط كالمشكلات التي يطرحها العيش في المدن. إن موضوع السياسة الحيوية عموما هو الساكنة، المنظور إليها كمشكلة عملية وسياسية، لأن السياسة الحيوية تدرس إذن ظواهر جماعية ذات آثار سياسية على الأمد البعيد وتعمل على تنظيم هذه الظواهر. يتعلق الأمر هنا ) «بوضع لإصدار الأوامر بصدد هذا العابر المرتبط عميقا بساكنة مكونة من كائنات حية»(5.
يرصد فوكو في الكتاب6 ) يجب الدفاع عن المجتمع( ذاته التحولات الكبيرة في القانون السياسي إبان القرن التاسع عشر، والتي لم تعوض حبسه، بل أكملت الحق القديم المعبر عن السيادة ) الحق في الموت والحياة( بحق جديد، لن يمحو الأول بل سيندغم فيه، سيخترقه ويغيره وسيصير حقا أو بالأحرى سلطة معاكسة تحديدا، سلطة الحياة)أو الإحياء( faire vivre والموت )أي الإماتة( laisser mourir. هكذا ينمنح البعدان لا في تتابعهما بل في تقاطع سيروراتهما، فالسلطة من أجل الاضطلاع بالحياة كموضوع ومحتوى لها، تحتاج إلى طرق ووسائل جديدة للاشتغال. تتموقع تكنولوجيات السلطة الجديدة فعلا ما وراء السلطة كسيادة souveraineté . لقد صارت السلطة بشكل أقل سلطة للموت )الإماتة(، وتحولت أكثر فأكثر إلى حق في التدخل من أجل الحياة ) ضمان استمرار الحياة(. يلح فوكو على الطابع غير الإجرائي للسلطة التي تنظمها خطاطة موجهة تتمثل في السيادة، وذلك لتدبير الجسد الاقتصادي والسياسي لمجتمع ينمو ديموغرافيا ويعرف ثورة صناعية.
طرح هذا التحول ضرورة تآلف السلطة مع سيرورات فالتة من أسرها: [الكثير من الأشياء كانت فالتة من آلية السلطة الناهضة على السيادة قديما، من الأسفل ومن الأعلى في الأوان ذاته. على مستوى التفاصيل وعلى مستوى الكتلة: تحقق التآلف الأول للإمساك بأحد التفاصيل: تآلف وانسجام آليات السلطة مع الجسد الفردي، عبر المراقبة والترويض، هذه هو السيرورة التأديبية)…(ثم كانت بعها عند نهاية القرن الثامن عشر، تآلف وانسجام ثان مع الظواهر الشاملة، أي الظواهر المرتبطة بالساكنة، ومع السيرورات البيولوجية أو البيو-سوسيولوجية للكتل الإنسانية. وهو تآلف أكثر صعوبة، لأنه، طبعا، يتضمن أعضاء مركبة من التنسيق والتمركز (7.
تم تعويض حياة الفرد المراد مراقبة جسده وسلوكه وممارسته وترويضها، بحيوات الساكنة ككل، وانطرحت الآليات الجديدة كأنماط لممارسة شكل جديد لم تكن السلطة الحاكمة) السلطة الناهضة على سيادة الملك(، قادرة على ممارستها بشكل تام.
ما طرحه فوكو هو أن السلطة يجب البحث عنها خارج الآليات ) الميكانيزمات( التي تم تمثلها داخلها دائما. السؤال الذي طرحه فوكو بصدد السلطة والذي هو «كيف تمارس»؟ يقود لا إلى الاهتمام ببؤرة مركزية ناظمة، بل بتكنولوجيات السلطة لفهم علاقات القوة وألعاب السلطة المتعددة، عبر الإحالة على نموذج استراتيجي لها، بدل نموذج الحق والقانون.[إذا كان صحيحا أن ما هو قانوني أمكن استعماله لتمثل سلطة متمركزة جوهريا حول الاقتطاع والموت، فسيكون متنافرا )أي ما هو قانوني ( مع الإجراءات الجديدة للسلطة التي تشتغل لا وفق الحق بل وفق التقنية، لا بالقانون بل عبر الإخضاع لمعايير ناظمة، لا عبر العقاب بل من خلال المراقبة والتي تمارس)أي الإجراءات( على مستويات وداخل أشكال تتجاوز الدولة وأجهزتها.لقد دخلنا منذ قرنين الآن في نمط من المجتمع يمكن لما هو قانوني فيه بشكل أقل فرض سننه )شفرته( على السلطة أو فرض استعماله كنظام لتمثلها]8.

***
تصير الحياة ذاتا للسلطة وموضوعا لها، أي للنظام السياسي الذي يستحوذ عليها ويخضعها لمنطقه، وتصير العلامة الفارقة التي عليها ينهض قرار «حالة الاستثناء» ، الذي يعتبره عالم السياسة والفيلسوف القانوني الألماني كارل شميث المحدد الرئيس لممارسة السيادة وللتعريف السياسي.
تمارس السلطة عبر الصورة الفارقة لحالة الاستثناء المرتبطة بقرار الحاكم ، والذي عبره يتم تأسيس علاقة النبذ، أعداد كبيرة من الأفراد، عبر إلغاء كيانهم القانوني والإنساني والوجودي والحقوقي، خلق شرائح وفئات عديدة من المنبوذين ، وهي حركة النبذ التي تنكتب في ذوات الأفراد، يستبطنونها ويعيدون إنتاجها، كما لو أنها حركة الحياة بالذات. إن منطق السلطة ينهض على منطق الإقصاء والإدماج، عبر وضع عتبات تعيد باستمرار تحديد الحياة وقيمتها وتحديد الإنساني تبعا لذلك ) : ما هو إنساني داخل الوجود(. إنه اشتغال ماكنة أنثروبولوجية ترتبط بالماكنة المتعددة البؤر والعلاقات والتواشجات للسلطة. ليست الماكنة الأنثروبولوجية التي تشتغل الوجود واحدة تماما، كما أن ماكنة السلطة متعددة.فالسلطة ليست براديغم، إنها رهانات، عقدة تناقضات، وهي الاسم الذي نطلقه على وضعية محددة من العلاقات المترابطة والتعالقات والتواشجات والرهانات المتقاطعة. ليس هناك براديغم واحد ناظم لاشتغال السلطة على الحياة، بل تشتغل انطلاقا من قطائع وانفصالات وتحولات تاريخية لأنماط ممارستها.

***
لكن ما يقع هو أن الحياة تنقلب على السلطة وتقاومها. هكذا يصير المبدأ الناظم لمقاومة السلطة، هو أن المقاومة يجب أن تتجذر داخل ما كان موجودا بالفعل وشكل رهان السلطة الأساس داخل الحياة. كتب فوكو: [لقد تم أخذ الحياة على محمل الجد وانقلبت ضد النظام الذي عمل على مراقبتها]9. لا تتجذر الصراعات السياسية إلا في تربة الحياة، لا في الأحزاب والتنظيمات والهيئات الهرمية الستالينية واللاديموقراطية. هكذا ينعلن [الحق في الحياة، في السعادة، والصحة وإشباع الحاجيات…] والذي هو [الرد السياسي على كل الإجراءات الجديدة للسلطة التي لا تتعلق بالحق التقليدي وبالسيادة]10.

***
يتعلق الأمر بمقاومة سيرورات الخضوع التي تخلقها تكنولوجيات السلطة وتفرضها على أجساد وحيوات المحكومين . بعد الجزء الأول من) «تاريخ الحياة الجنسية»( ستأخذ أبحاث فوكو منحى آخر باتجاه الذات، مع دراسة ممارسات الأنا وانشغالاتها. لم تعد أبحاث فوكو تطرح إذن مسألة الذات السياسية ، بل مسألة تكون الذات انطلاقا من علاقات السلطة ، كما تشير إلى ذلك تحليلاته حول الحكماتية la gouvernementalité، التي هي إدارة وتسيير السلوكات الفردية، والتأثير في الأفعال التي تمارسها. الحياة بالنسبة لفوكو هي ما يجب أن يتعارض مع عملية السلطة، أي مع الانشقاقات والاقتطاعات. يتعلق الأمر هنا بمنح دور أساس لاشتغال الحياة كقوة أي potentia بالمعنى السبينوزي والانتقال من potestas إلى potentia.يتعلق الأمر هنا، بالتوجه نحو قوة الحياة )سلطة الحياة( لا بحياة القوة )السلطة على الحياة( .
يجب أن نجعل من حياتنا شكل حياة، أي ممارسة الذات التي تمنح الحياة شكلها. إنها ضرورة أن تجعل من الحياة العارية التي هي إنتاج السلطة، شكلا للحياة.

***
إن المشكلة التي تطرحها «المقاومة»، أي الغموض الأساس الكائن في ) إرادة المعرفة/ الجزء الأول من تاريخ الحياة الجنسية/1976(، وهو غموض جوهري لأنه يقرر ويحدد داخل هذا النص، في/ حركة الفكر نفسه، يكمن هذا الغموض في الطريقة التي تقدم بها السلطة نفسها تارة كحقل تتحدد داخله المجابهات والمقاومات، وتارة أخرى كنظام) «نسق»( تستند إليه المقاومات. تعزى الإحالة على الحياة )التي هي ماهية ملموسة للإنسان، اكتمال فرضياته، وامتلاء الممكن(، تارة إلى أوهام وأطروحة قمعية تخطئ الطبيعة الحقيقة للسلطة حين تعتبرها فقط سلبية ومتعالية، وتارة أخرى يتم دعمها )أي الإحالة( كمؤشر على سيرورة للصراع واقعية جدا، وباعتبارها متموقعة كبرانية إزاء السلطة. لا يهم، يقول فوكو، إذا تعلق الأمر بطوبى utopie أم لا. إنها التماعات عبرها تظهر في نوع من البرق الخلب حياة اختلافية عميقة، حياة تتمرد على الحياة الخاضعة للسلطة، تماما كما تمرد اللاعقل la déraison على الجنون كظاهرة حددها وفسرها الأطباء النفسيون.

***
يتعلق الأمر هنا بنوع من المقاومة السفلية التي تضطلع بها الحياة، مقاومة )مقاومات( تقوم بمديح السفالة أو النذالة infâmie. إن مسألة أو قضية المقاومة هذه هي ما ينطرح دون شك بشكل أكثر حدة وشراسة على المناضلين من أجل تفعيل قوة/ قوى الحياة في مختلف مظاهرها وتجلياتها الملموسة، والذين يشعرون بالقلق إزاء الآثار السلبية الناجمة عن احتكار/واستعمال السلطة للحياة، واتساع دائرة هذه السلطة الإدارية والسياسية التي تتحكم في الحياة. لكن السؤال الذي يظل مطروحا باستمرار هو أولا: ما الذي نعنيه بالضبط بمفهوم «حياة»؟ وثانيا: كيف يمكن إعادة بناء السياسة انطلاقا من الحياة؟، وثالثا وأخيرا: كيف يمكن تصور الحياة باعتبارها حقيقة السياسة؟

هوامش :

1- Foucault , la volonté de savoir, Gallimard, 1976.p.188.
2-Ibid .p.179.
3- Foucault, il faut défendre la société, hautes etudes /Gallimard/ seuil, 1997.p.216
4-Ibid.p.214
5-Ibid.p.219
6- Ibid.p.214
7-ibid.p.118
8-Foucault, surveiller et punir, Gallimard, 1975.p.118.
9-ibid.p.199.
10-ibid.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 27/08/2021