الحياة الأخرى للشعر

الإمساك بجغرافيات شعرية أخرى

 

لا تتحيز «الحياة الأخرى للشعر» لأي ظل أو منزع ميتافيزيقي. إنها ليست على الإطلاق تمييزا «قطائعيا» بين حياة وحياة. كما أنها ليست مجرد شكل، كما قد يحيل إليه «الامتداد» أو «الحياة التي لا تنتهي». توصيفات من هذا القبيل تبقى مجرد تصورات جمالية مبنية على ملء التثغيرات بما نفكر به ونعتقده حسب مرجعياتنا ومعارفنا.
«الحياة الأخرى للشعر» تتأسس الآن على وضعية الشعر حين يغادر فضاءه التقليدي: الورق حين تداهمه التكنولوجيا، وحين يخترقه الافتراض، وحين يحاول أن ينزع عنه رداءه الفردي عبر ما يسمى «الترابط» أو «التفاعل»، بل حين يصبح في مواجهة واقعية وفعلية مع الذكاء الاصطناعي، وحين يحاول الإمساك بجغرافيات أخرى بوسعها أن تجرده من ذاكرته، وحين يكتشف أنه مجرد رقم وسط العدد.
لقد حاول شعراء كثيرون الخروج من «طعون المتنبي» و»قروح المعري» و»دوارق النواسي»، فاستشاطوا عللا وزحافات. كما حاول آخرون الانفتاح على أراض خالية من النسخ والتخريق والتمزيق والتطريس، فألبسوا قصائدهم ثيابا أرادوا لها أن تكون على مقاس «جهل القارئ بأساليب تفصيلها وخياطتها»، فاتجهوا، باسم التلاقح الثقافي وتجاوز الحدود، إلى الاقتراض الجمالي والاستنساخ التعبيري والادعاء الطامس للشكل الأصلي. بل منهم من سعى، عن عمد وسبق إصرار، إلى الارتماء الضرير في «الآخر الشعري» حتى دون أن يؤسس رؤيته على أن «الرماد ذاكرة النار»، وحتى دون أن يدركوا أن «شحذ السكاكين لا يعني أننا وجها لوجه مع جزارين».
الحياة الأخرى للشعر، بهذا المعنى، لا تقوم على إظهار «المسافات الطويلة» التي تقطعها هذه التجربة الشعرية أو تلك من أجل تحقيق الفارق؛ فلا يمكن، مثلا، أن نتحدث عن شعر ممكن بالارتكاز إلى الترجمة الحرفية لـ «حياة شعرية قائمة».
إن الممكن الشعري يقع دائما خارج الجاهز، وخارج الاقتفاء، وخارج الترجمة، وخارج النموذج. الممكن الشعري نموذج نفسه باستمرار، يعمل ضد الاستقرار، وضد الرسكلة، وضد الترسب. إنه ذلك النشاط الذي يتجول في «الغائب» و»المرفوع» و»اللامتوقع».
وبهذا المعنى، يمكن أن نتحدث عن الإمساك بالله (المتعالي واللامادي) شعريا.
يمكننا بشكل غير متوقع أن نمسك بالله في الكلمات، في ذلك الدوار اللذيذ الذي تصنعه صداقة حرف لحرف وكلمة لكلمة، في ذلك الاكتشاف الذي يجعل من الشعر رحيما ومخادعا. فالكلمات تلتحق بعضها ببعض لترى الله. إنها الكون الذي خلقه الله حين أحبَّ أن يُرى.
لا شيء يستوعب الله حقا إلا الشعر، لأنه زهو الكون وموسيقاه ونظامه. إنه النور الذي يحمي وجودنا بتكراره المخاتل، ويجعله يتصبَّبُ أسماءً.
إن الشعر هو الذي يقرع باب الله برفق، لا ليعبده، أو ينكره، أو يتهكم عليه (كما فعل محمد الماغوط وفاضل العزاوي وصلاح حسن)، بل ليعبئ قواريره بعرق الألوهة، وبذلك الارتجاف الذي يعكس «ولادات الوجود وأخطاءه المتكررة».
حين أكتب الشعر، لا أكتبه برباطة جأش، ولا بذلك اليقين الجائر الذي «تُدرك معرفته بالأوهام» (النفري)، بل أكتبه كأنني أصرخ في الغيوم لترعى على نحو أفضل في السماء. أكتبه «بالله باللعنة بالشيطان»، وبتلك الوجوه الكثيرة التي تشق طريقها صعودا إلى القصيدة». آه، القصيدة التي كلما تحققت تصيح بصوت عال: «أنا الوحي الذي انهمر قبل أن يغلق الله كتابه !».
إن العلاقة بين الله والشعر لا تتأسس على الاستعباد، بل على ذلك الانعكاس «الجمالي» (الإستطيقي) لله في مرآة مجلوة تخترقها الظلال والكلمات. إنها العلاقة بين الاسم والفعل، بين المزيد والناقص.
ما علاقة الشعر هنا بالميتافيزيقا؟ وهل «الحياة الأخرى للشعر» بحث فيها واستحضار لها؟
إن الأمر هنا ينطوي على التباس واضح. فإذا كان القصد هو البحث في «الإمكان النهائي للشعر»، فإن جغرافيته تضيق، أما إذا كنا نحشد المعنى في التحول الشعري، فإنها تتسع وتتمدد. فهل تتحقق، تبعا لذلك، «تحولات الشعر المغربي» بالالتفات في المنجز العام، أم بالتحيز إلى السياط الناقمة التي ترى في كل التفات «سلفية شعرية»؟
أعتقد أن رمي المنجز الشعري المغربي في موقد الحطب لا يحل الإشكال القائم، لأن من شأن ذلك أن يصنع حجابا أسود بين مختلف التجارب والأجيال والشعريات. الشعر لا ينزل من السماء، ولا يتحقق إلا بنوع من المكابدة التي تفضي، على مستوى الإيقاع (المعنى)، إلى «اليقظة». ولهذا، لا أستطيع أن أفهم من يعتبر الشعر «طَرْقَ مطر على الزجاج» أو «خفقة جناح خلف باب» أو «شجرة رابطة الجأش أمام فأس». الشعر ليس تجسسا على الشعر العالمي من خرم الباب. وبتعبير أدق، الشعر ليس نظرة من الخارج، ولا يمكنه أن يكون كذلك. إنه تلك التجربة التي تتلاطم داخلها النشوة بالإعياء، التمكين بالتلوين، اللغة بالكلام، الأنوار بالظلال، اليقين بالارتجاف.
تأسيسا على ذلك، لا يمكنني أن أفهم ذلك الجهل الذي يختلج تحت جلد بعض الشعراء بالمنجز السابق. بل لا أستطيع أن أفهم ارتفاع نسبة الفخر بهذا الجهل في دماء هؤلاء، وبما «يقترفونه» من نصوص يلحقونها، كيفما اتفق (ظلما وعدوانا)، بالتجربة الكونية. وحتى لا نسرح بعيدا، هناك من الشعراء الآن من يعلن انفصاله الشامل عن هؤلاء الآباء، ظنا منهم أن الشعر «النقي» على مرمى حجر من قصائدهم، وأنه يكفيهم أن يذكروا أسماء مثل وديع سعادة وسركون بولص وعباس بيضون، حتى تأتي الرقاب إليهم صاغرة. ومنهم من يعتقد أنه يملك المستودع الشعري العالمي بمجرد اطلاعه على ريتسوس أو أندري فيلتر أو إيف بونفوا.. إلخ.
إن التحول يعني، في المقام الأول، الانتقال من لحظة شعرية إلى أخرى، ويمكن أن يتحقق هذا التحول داخل التجربة الواحدة نفسها. والتحول، يعني حيازة قوة شعرية مرجعية لمواجهة «الفراغ»، ويعاكس النظر بغضب إلى الخلف كما يعبر «جون أوزبورن». إنه جهد شعري ينطلق من التحولات والإبدالات التي لا مناص منها لكتابة نص شعري متجدد.
ويعني التحول، أيضا، البقاء على مسافة من شعر المعاجم الجاهزة، وشعر الذكاء الاصطناعي «الكامل» و»المتين». الشعر لا يمكنه إلا أن يكون ارتجافا وخروجا عن التكرار؛ هو ذلك النقص الشاسع الذي يعانق الجمال بذراعيه؛ هو ذلك الانكباب المضني للبحث عن حوامل أخرى للشعر (حرث المياه/ نقش الهواء)، أو إذا شئنا هو ذلك المستحيل الممكن، بتعبير بورخيس.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 19/03/2021

أخبار مرتبطة

لا يسعنا في هذا المقام، سوى الوقوف، إجلالا، لكل من مر في الصحافة الاتحادية ومن ما زال يحمل المشعل ،

  استهل اليوم الثاني لمهرجان الدولي للسينما الإفريقية بخريبكة، أي صبيحة يوم الأحد 12 ماي 2024 بندوة محورية تحت عنوان

كشف الصحفي محمد الشنتوف ،عن تعرضه يوم السبت 11 ماي 2024، على الساعة الثانية عشرة زولا لاعتداء وتعنيف، و “ثني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *