الرُّموز والأحلام قراءة في الأسطورة والتَّحليل النَّفسي (2)

محتوى اللاّشعور هو في الوقت نفسه الأكثر إبهاماً والأكثر ألفة، الأكثر خفاءً والأكثر قسريّة وجبريّة وفردانيّة ومفاجأة، وهو الّذي يولد الحصر الأكثر وحشية كما يولد الأمل الأكبر. وهو غير محدد بزمان ومكان أو تتابع منطقي من الأحداث كما هو الحال في حياتنا الواعية. ودون أن ننتبه، يقودنا اللاّشعور إلى الأزمنة الأكثر قدماً في حياتنا، وهكذا يبدو التَّموضع الغريب أو البعيد جدّاً في الزّمان والمكان، والذي هو مع ذلك أليف جداً. إنّه موضع يُعاد تأليفه باستمرار وإن كان الأمر يتمّ بلغة لم نعد نألفها، إنّها الرموز التي تحملنا إليها الحكايات الشَّعبيّة والأساطير ومن خلفهما الأحلام. إنّها رحلة للنفس في مهاوي مملكة اللاَّشعور. ذلك أنّه، وفقاً لـ”لاكان”، من المستحيل أن “نقول كلّ شيء” لأنّ الكلمات تعجز في النّهاية.

هذه الرمزيّة إذا، ليست خاصية من خاصيات الأحلام، بل هي من خاصيات التفكير اللاّشعوري، وتفكير الشّعب بنوع خاصّ. وإنّا لنجدها في أغاني الشّعب وأساطيره ورواياته المتوارثة وفي التّعابير الدّارجة والحكم المأثورة والنّكات الجارية أكثر ممّا نجدها في الحلم. وبعض الباحثون المهتمون بالتحليل النفسي يلحون على المحاكاة التي لاحظوها بين الأحداث الخيالية للأساطير والحكايات الشعبية وأحلام اليقظة عند البالغ: إشباع الرّغبات، الانتصار على كلّ المنافسين، تدمير الأعداء، وخلصوا إلى أنّ إحدى متع هذا الأدب تنتج عن كونه التّعبير عن هذا الّذي يُمنع عادة من الوصول إلى الشّعور.
وقد أوضح فرويد، أنّ أهمّ عناصر المضمون الحقيقي لحلم من الأحلام، أو أسطورة من الأساطير، كثيراً ما يُظهر مظهر الجزء غير المهم تقريباً، أو الجزء التّافه من الصيغة الصَّريحة، على حين يظهر الشّيء الّذي يهم حقاً، أنّه ليس له في ذلك إلاّ دور ثانوي ليس غير. ومن هنا يسهل فهم الأساطير من خلال دراسة الحلم، وكما يقول رايك: ”في النّوم والحلم، نعاود القيام بعمل البشرية السّابق، يعيدنا الحلم إلى حالات قديمة جدّاً من الحضارة البشريّة، ويمنحنا وسيلة فهمها بشكل أفضل ” فالأساطير تتبع نفس قوانين الحلم، وهي تعبر عن نفس الرغبات التحريمية، أو نفس النزعات العدوانية (قتل الأب كما نجدها في الحلم وفي أغلب أساطير بابل واليونان والمصريين وغيرهم – زنا المحارم في الحلم كما في نفس الأساطير القديمة – القتل كما نجده في الحلم ونجده عند أرباب الانتقام والدّماء والحروب في الأساطير القديمة)، حيث انتقال الليبيدو إلى مواضيع ثانويّة، تكثيف الصُّور أو تقسيم الميول. الفارق الوحيد يكمن هنا، في أن الحلم يبرز الليبيدو الفردي، والأسطورة تبرز ليبيدو الجماعات، إذ أن الأساطير كما يرى كارل إبراهام: هي البقايا المشوهة لتخيلات ورغبات أمم برمتها. هي أحلام البشريّة الحديثة التي امتدت قروناً طويلة. كما يؤكّد يونغ أن الميثولوجيا الفلكية ليست سوى إسقاط السيكولوجيا اللاواعية في السّماء، فالأساطير لم ولن تُبتكر مطلقاً بشكل واع، و إذا ما كنا نريد التوغل في أعماق حضارة مّا، ومعرفة الدَّوافع الخفيّة الّتي تشكل بداية المؤسَّسات الاجتماعيّة، سيتوجب علينا تحليل أساطير هذه الحضارة.
وفي هذه اللّغة الرمزيَّة للحلم فإنّ الرَّابطة السببيَّة بين فكرتين يمكن أن تكون محذوفة، كما يمكن أن تكون مستبدلة بتجاوز مقطعين طويلين متنافرين، وكثيراً ما يكون هذان المقطعان مقلوبين، فيمثل الأول النَّتيجة والثَّاني الفرضية، واعتقادنا أن كل تحول مباشر من شيء إلى آخر يمثل في الحلم علاقة علة بمعلول. والحلم لا يقبل التَّخيير بين أمرين، وحين تبرز فرضيتان، يدخلهما كلتيهما في الحلقة نفسها من تداعي الأفكار، وبعبارة أخرى، فإنّ حرف العطف “أو” في مضمون الحلم الكامن، يستبدل في المضمون الظاهر بحرف العطف “و”. كما تعبر التّصورات المتناقضة عن نفسها في الحلم في صورة عنصر واحد بصورة دائمة تقريباً، ويبدو أنّ الـ ” لا ” فيه مجهولة . فالتعارض بين فكرتين، تناحرهما، يجد في الحلم تعبيره المميّز، إذ يتّحول فيه عنصر آخر، كما لو بعد فوات الأوان، إلى نقيضه.[ يقول فرويد أنّ: الطَّريقة الّتي يعبر بها الحلم عن مقولتي التّضاد والتّناقض لباعثة على الدَّهشة حقّاً، فهو لا يعبر عنهما، بل يبدو وكأنّه يجهل الـ “لا”، ولكم يجبر على الجمع بين الأضداد وتمثيلها في موضوع واحد، وكثيراً ما يمثل أيضاً عنصراً من العناصر بنقيضه، بحيث لا يسعنا أن نعرف إن كان عنصراً بعينه من الحلم، قابلاً لتأويل متناقض، يشي بمضمون إيجابي أو سلبي في فكرة الحلم”. ويبدو أنّ مفسري الأحلام في العصور القديمة قد استخدموا على أوسع نطاق، الفرضيّة الّتي مؤدّاها أنّ الشَّيء يمكن أن يدلّ في الحلم على نقيضه. لذلك يمكن الافتراض بلا تردّد أنّ أسلافنا وأجدادنا قبل آلاف الأعوام كانوا يحلمون بمثل الطريقة التي نحلم بها اليوم، وقد عزت جميع الشّعوب القديمة، قيمة كبرى إلى الأحلام، وعدتّها قابلة للاستعمال العملي، فقد وجدت فيها دلائل لاستطلاع المستقبل، والتمست فيها فالاً وطيرة. ويعتبر المصريون أوّل من أوجد نظريّة التّفسير بالضدّ، أو التّفسير المعاكس لما يرد في الحلم، فالبكاء في الحلم يعني الفرح، والضحك يعني الحزن، والحلم بالموت يعني الحياة. وكذلك لم يكتف الصينيون بالنّظر إلى الأحلام على أنّها رسائل من عالم آخر، بل اعتقدوا أنّ الرّوح في عالم الأحلام تغادر الجسد وتتخاطب مع يقيّة الأرواح من عالم آخر سواء أرواح الموتى أو الآلهة، الأمر الّذي ينجم عنه تهذيب للرّوح وتعليم الشّخص درساً ليس بمقدوره أن يتعلّمها في عالمنا الَّذي نعيش فيه.كما اعتمد اليونانيون في تعاملهم مع الأحلام على ما قدمه المصريون والبابليون والآشوريون، لكنّهم فسّروا الرُّموز الخاصّة بالأحلام بطريقة مختلفة رغم أنّهم، كالمصريين، اعتقدوا أن الأحلام عبارة عن رسائل تصدر عن الآلهة، وقد أنشأوا الكثير من المعابد الَّتي كان يقصدها الزوّار ليتعرفوا على ما تنطوي عليه أحلامهم من أسرار ومضامين. و ما كان الاغريق والشّعوب الشّرقيّة ليتصوّروا حملة عسكريّة بلا مفسري أحلام.
وما من شكّ في أنّ نظرة القدماء إلى الحلم كانت تتَّسق ومجمل نظرتهم إلى العالم بوجه عام أكمل اتّساق، وهي نظرة تسقط على العالم الخارجي – في صوة واقع – ما لا وقوع له إلا في باطن النّفس. ذلك أنّ مقارنة موضوعات الحلم النّموذجيّة بموضوعات الأساطير النّموذجيّة يوحي بفكرة مفادها أنّ التَّفكير الحلمي يجب أن يعدّ من ناحية النُّشوء النَّوعي، أقدم نمط فكري. ودلاً من تقديم الأمثلة المتعدّدة، يكفي أن نرجع إلى حلم نوعنا البشري، ويجب أن نتذكّر أنّ الحلم دخل في مشهد التُّفاحة بوصفه طريقة نموذجيّة في تمثيل الذَّنب الجنسي. والفكرة المستقاة منه مفاده أنّني “أرتكب خطأ بأكلي مثل هذه” ومن المعلوم أنّ الأحلام الّتي تعبّر عن ذاتها بهذه الطَّريقة الملغّزة، إنَّما تعبّر بلغة التّمثيل والتَّشبيه، وهذا معهود كذلك في اللّغات البدائيّة. وكما أنّ الجسم يحمل آثاراً من تطوّره النّوعي، فإنّ الذّهن البشري يحملها كذلك. ومن ثمّ ليس بالمدهش إمكانيّة أن تكون اللّغة المجازيّة للأحلام باقية من النَّمط الفكري الممعن في القدم. [إنَّ تحقيق الدَّوافع على عواهلها وبأكبر قدر ممكن من الحريّة كان ممكناً إلى حدّ مَّا، خلال طفولة الجماعة البشريَّة، حيث كان الأمر الأكثر طبيعية ، عندما كانت الأعراف لم تتخذ بعد شكلاً صلباً. ولكنّ بعد التَّطور الحضاري اللاَّحق، لم تلبث هذه الدوافع وأن كٌبتت بفعل سيرورة بوسعنا أن نقارنها بالكبت الفردي، لكن تلك الدوافع في الواقع لم تتلاشى كلياً، بل ظلت موجودة في ثنايا الأسطورة التي أصبحت حلم جماعي (كما أن الحلم هو أسطورة فرديّة)، أي عبارة عن مجموعة من الرموز الّتي تمرّ دون أن يفهم الشعب مغزاها الحقيقي أو الكامن المٌعبّر عن نوازع البشريّة المكبوتة بقوّة، فرغبات الهو الغريزيّة تعاود الظّهور والولادة مع كلّ طفل بشري، وثمَّة طبقة كاملة من الكائنات الإنسانيّة المصابة بالأمراض العصابيّة ترد على تلك الضروب من الحرمان، بالنّفور من الحياة الاجتماعية. ذلك أن الفترة الأولى من الطفولة لا تعرف الخجل، وهي نظرة تبدو كضرب من الفردوس، والفردوس نفسه ما هو إلا تخيل جماعي عن طفولة الفرد، لذلك كان الناس في الفردوس أيضاً عراة لا يخجلون حين يتواجهون، إلى أن جاء أوان فاستيقظ الخجل ودبّ الهلع وتبع ذلك الطرد من الفردوس، وأخذت الحياة الجنسيّة ومشاغل العمران في المسير. والحلم يستطيع أن يسرى بنا فيعيدنا إلى هذا الفردوس من جديد، إذ أن انطباعات الطفولة تسعى إلى التكرار من تلقاء ذاتها بغض النظر عن محتواها، وأن تكرارها هذا يحقق رغبة، بحيث تكون أحلام العري هي أحلام استعراض.
وبالتّالي علينا أن ندرك أن رموز الأحلام هي في معظمها تجليات للنّفس الّتي تقع فيها وراء سيطرة العقل الواعي. لكن المعنى والغائية ليسا امتيازين خاصين بالعقل، بل هما موجودان في كامل الطبيعة الحية. وليس ثمة فارق من حيث المبدأ، بين النّمو العضوي والنّمو النّفسي. وكما تنتج النبتة الأزهار، كذلك تبدع النفس رموزها. وما الحلم إلاّ دليل عن هذه العملية.
والمنطق بالنسبة لهذه اللغة الرمزيّة يختلف عن المنطق المعروف للكلام اليومي، إنّه منطق لا ينطلق من مقولتي المكان والزّمان، بل لاترابط والشّدة والشّحنة الانفعاليّة، إنّها لغة التجربة الذاتيّة الّتي تعتبر اللّغة الجامعة والوحيدة الّتي تجمع كلّ الحضارات والأفراد على مرّ التّاريخ. لذلك يقول يونغ: ” يمكن دون شكّ أن يُطرح سؤال: ما فائدة الحلم للحالم إذا كان لا يفهمه؟ علّي أن أعلّق على ذلك بأنّ الفهم ليس عمليّة عقليّة حصراً، لأنّ الإنسان كما تُظهر التجربة، قد يكون متأثّراً ومقتنعاً فعلياً وبأشدّ الطّرق نجاعة، بأمور لا تعد وليس لديه فهم عقلي لها. ولست أحتاج إلاّ إلى تذكير قرائي بفاعليّة الرّموز الدينيّة.


الكاتب : معاذ قنبر

  

بتاريخ : 29/06/2021