الرُّموز والأحلام قراءة في الأسطورة والتَّحليل النّفسي (4)

محتوى اللاّشعور هو في الوقت نفسه الأكثر إبهاماً والأكثر ألفة، الأكثر خفاءً والأكثر قسريّة وجبريّة وفردانيّة ومفاجأة، وهو الّذي يولد الحصر الأكثر وحشية كما يولد الأمل الأكبر. وهو غير محدد بزمان ومكان أو تتابع منطقي من الأحداث كما هو الحال في حياتنا الواعية. ودون أن ننتبه، يقودنا اللاّشعور إلى الأزمنة الأكثر قدماً في حياتنا، وهكذا يبدو التَّموضع الغريب أو البعيد جدّاً في الزّمان والمكان، والذي هو مع ذلك أليف جداً. إنّه موضع يُعاد تأليفه باستمرار وإن كان الأمر يتمّ بلغة لم نعد نألفها، إنّها الرموز التي تحملنا إليها الحكايات الشَّعبيّة والأساطير ومن خلفهما الأحلام. إنّها رحلة للنفس في مهاوي مملكة اللاَّشعور. ذلك أنّه، وفقاً لـ”لاكان”، من المستحيل أن “نقول كلّ شيء” لأنّ الكلمات تعجز في النّهاية.

 

من الرموز الحيوانية نذكر البقرة التي ترمز في أغلب الحضارات للأم وما تمثله من غرائز و صفات للأمومة. وترمز لدى الهندوس للأم بصفاتها العظيمة العليا باعتبارها حيوان مقدس، كما ترمز أيضاً للخصوبة والعطاء. وعموماً فظهورها في الحلم يرمز للأم بشكل أو بآخر كما تشير أغلب الأساطير. وظهور العجل في حلم المرأة يرمز للأمومة أيضاً أو أنها في طريقها للولادة، أما ظهور البقرة الحلوب، فقد تكون إشارة للحنان الإنساني وغريزة الأمومة أيضاً . أما الحرباء، فقد وصفتها بعض الأساطير بالشيطان لقدرتها على التنكر والتلون والخداع، وقد يعني ذلك وجود تلك الصفة في اللاشعور. والسلاحف من الحيوانات المقدسة عند الصينيين، وبسبب قشرتها القوية الصلبة ترمز في المسيحية للمرأة العفيفة المحتشمة، وترمز لدى الهنود إلى الأنوثة. أما الكبش فيرمز للقوة والتجدد والانبعاث، والربيع، وتشير أغلب الأساطير إلى القدرة الجنسية للكبش.
وإذا تغاضينا عن الرموز الاصطلاحية التي تربط بين الكلمة ودلالاتها، نجد أن هناك بعض الرموز الجامعة التي تتصف بوجود صفة جوّانية بين الرمز وما يمثله، لنأخذ كمثال رمز النار، فنحن تستهوينا بعض خصائص النار التي تشتعل في المدفأة، فنؤخذ قبل كل شيء بحيوية حركتها، فهي لا تنفك تتحرك وتتغير، إنها توحي لنا بالمقدرة والحيوية والطمأنينة والخفة، وتبدو لنا متراقصة وكأنها تنطوي على طاقة لا نفاذ لها. فنحن عندما نستخدم رمز النار، إنما نصف تجربة حميمة ذاتية تمتاز بالمواصفات نفسها التي نلاحظها عند اختبارنا البصري أو اللمسي للنار، إذ يتولد لدينا انطباع بالحيوية والخفة والحركة والطمأنينة. والحرارة والإثارة وهي رمز جنسي لا يخفى في الحلم، وتستخدم في الكثير من الحضارات للرمز على الحياة والتغير والموت والرغبة والغضب والشهوات، كذلك ترمز في الأساطير إلى المعرفة، والطهارة والنقاء.
وقل مثل ذلك في الماء مع فارق أنه رمز يرتبط بالهدوء والبطء والسكينة، والترقب والتوقع الهادئ أكثر من العاطفة المتقدة، وقد يكون رمز أمومي في الحلم . وتعتبر الماء من أكثر الرموز أهمية من حيث تناولته جميع الثقافات والحضارات، يعتبر مصدر للحياة، وله أهمية في تصور مصير الإنسان كما يشير إلى الأم (الرحم و الولادة والتجديد)، والغوص فيه يرمز للعودة للبدء واللاشعور والبحث عن معنى الحياة، كما يشير إلى العبور والتجاوز. ففي حين أن النار تأخذ صفات الفاعلية، الجنس، الصعود، والانفعالات المتوقدة، والغضب. فإن رموز الماء تأخذ صفات السلب، الأنثى، الرحم، الأرض. أما الجسر كما ورد في الأساطير فهو واسطة بين الجنة والنار، أو الجسر الذي يربط هذا العالم بالعالم الآخر. وقد يعبر عن خيارات ذات طابع جنسي في الحلم، كما يرمز بالتالي إلى عالمين اثنين قد تمثلهما حالة الطموح عند الإنسان للعبور إلى عالم آخر، وبالتالي الانتقال من حالة لأخرى. وهو أمر نراه كثيراً في أساطير التحول أو الانتقال أو الرغبة بالانتقال. جلجامش. الصراط، أساطير العبور.
كذلك نجد الشجرة ترمز للحياة سواء أكانت مادية أم روحية، كما ترمز للخلود، والاتجاه للسماء، والصعود إلى الجنة من خلالها تناولتها جميع الحضارات السومرية والصينية والهندية واليابانية والمسيحية. وتعبر عن مضمون جنسي ذكري يعبر عن زرع البذور أي الولادة والانتصاب. كما يجب ملاحظة أن صورة الحبل والعريشة والسلّم (كذلك الشجرة والطيران) هي صورة كثيراً ما تستعمل للتعبير عن الانتقال من نمط الكينونة والوجود، إلى نمط آخر. أي من العالم الدنيوي الفاني، إلى العالم المقدس الخالد.
وكثيراً ما يمثل جسم الإنسان رمز البيت (في الحلم قد يعبّر عن الرحم)، وتندرج في إطار هذا الرمز النوافذ والأبواب التي ترمز إلى منافذ التجاويف في الجسم البشري. هذه الرمزية نجدها في لغتنا الدارجة، فنحيي مثلاً صديقاً قديما بوصفنا إياه كـ “البيت العتيق”، ونقول عن شخص آخر أن “طابقه العلوي ليس على ما يرام” كتعبر عمن فقد عقله.
ولا يدهشنا أن نعرف أن الوالدان في الأحلام كثيراً ما يمثلان صورة الملك والملكة، كما كثيراً ما يداعب الأولاد بوصفهم كأمراء ويلقب كبيرهم بولي العهد، ثم أن الملك نفسه يسمى بالأب، كما يسمى الأطفال على سبيل المزاح بأسماء صغار الحيوانات كالديدان الصغير، وهو ما يميز رمزيتهم في الأحلام. ويشير الحلم بالأب إلى شعورك نحوه ونظرتك لبعض القضايا بينكما، وربما لا يعني الحلم بالأب شخص الأب نفسه، وإنما النموذج باعتباره يمثل السلطة والنظام والقوة. بينما تمثل الأم المشاعر والعواطف. الخروج على طاعة الوالدين في الحلم تعني محاولة التمرد والعصيان ضد المجتمع بأسره، أو حتى التمرد على الآلهة أو الدولة أو الأب كأب. ومن رموز الأب الشمس، وقد تمثل المعرفة باعتبارها عكس الظلام الذي يمثل الجهل، وترتبط بالقوة والطاقة ومصدر الحياة، رمز أبوي مثالي، وتعبير عن إله كلي القدرة في أغلب الأساطير. كذلك يرتبط بالأسد الذي يعرف بملك الغابة لشجاعته وقدرته الجنسية، وقد كان و لا يزال من الرموز المهمة لدى الإنسان فهو يرمز في المسيحية للخير والشر معاً، وكذلك القوة، كما يرمز لليقظة والانتباه والحذر حيث ينام وعينيه مفتوحتين. ويرمز عند الصينيين للشجاعة ويعتبر لدى المصريين بمثابة الحارس العظيم، ويعتبره العبرانيون رمزاً للقسوة، ويشار له عند الرومان والايرانيين بالملك. ويرمز كل من الأسد والحمل للسعادة والسلام، أي العصر الذهبي، وقد يشير هذا الحلم إلى محاولة الإنسان فرض إرادته وسيطرته على الآخرين. وقد يشير إلى وذع الشخص الحالي أو كما يقال، يلعق جراحه.
وتعتبر الأم رمز للنموذج الأصلي وتشير إلى مكان الأصل، إلى الطبيعة وإلى ما يخلق سلبياً، ومن ثم إلى الجوهر والمادة، وإلى المادية والرحم والوظائف الإنمائية. وهي تعني كذلك اللاشعور، والحياة الطبيعية والغريزية، والمجال الفيزيولوجي، والجسد الذي نسكنه أو يحتوينا، لذلك تمثل من الناحية السيكولوجية أسس الوعي، والوجود أو الاحتواء من الداخل يشير كذلك إلى العتمة، إلى شيء ليلي ومخيف يُطبق على المرء (الساحرة الشريرة – زوجة الأب القاسية)، هذه الإلماعات تقدم فكرة الأم في الكثير من صورها الأخرى الأسطورية والاشتقاقية. وهي تمثل كذلك جانباً مهماً في الين، في الفلسفة الصينية، أو المبدأ الأنثوي المظلم والسلبي، هذا تصور عام مأخوذ من إرث جماعي حي ومدون في اللغة، موجود في الأزمنة كلها وعند الشعوب جميعاً ويعبر عنه من خلال الحلم الفردي على هيئة رموز عامة نجدها في أحلام جميع الناس. فكلمة الأم التي تبدو مألوفة جداً، تشير بوضوح إلى الأم المعروفة، الأم الفردية “أمي”، إلا أن رمز الأم يشير إلى خلفية أشد ظلمة تستعصي على الصياغة ولا يمكن أن تفهم إلا فهماً غامضاً على أنها حياة الجسد الخفية المرتبطة بالطبيعة، ولكن حتى هذا الفهم شديد الضيق، ويستبعد الكثير من المعاني الحيوية الرافدة. والواقع النفسي الأولي الأصلي شبكة لا يمكن تصورها و لا تُفهم إلا في أبعد مدى يصل إليه الحدس، وبعدئذ، ولكن بغموض شديد. ومن رموز الأم الكهف، الذي يرمز في الأسطورة إلى عالم الأسرار والخفايا والولادة، والموت أيضاً، كما قد يرمز للأنوثة والأم وما تمثله من الرحم الآمن النكوصي. والنفق، وقد يرمز إلى الأنوثة، وقد يشير إلى الحاجة بالأمن، العودة إلى الرحم.
كذلك ترمز السفينة لدى المسيحيين إلى الحماية والنجاة (نوح)، وكذلك إلى الروح الجماعية، بل إلى النفس الفردية في أحيان أخرى تأخذ رمز عن الجسد الذاتي للإنسان. وترمز إلى العبور والتطهر المرتبطة بالماء، كرحلة يونس في البحر التي تنتهي في أحشاء سمكة كبيرة. يونس الذي يتعرض لخطر كبير يكتشف مرحلة عليا من وجدانه ومن أناه، فيولد كما لو ولد بشكل سحري، مستعداً للخضوع إلى أوامر الأنا الأعلى. ولكن هذه الولادة لا تكفي وحدها لتؤمن له إنسانية كاملة. ليس بكونه حبيساً في الهو ومبدأ اللذة (من خلال تجنب المهمات الصعبة التي ألقاها الله عليه) ولا سجيناً في صرامة الأنا الأعلى (عبر التمني بخراب المدينة الضالة)، يمكنه الوصول إلى الحرية الحقيقية وإلى أنا متفوقة. يونس لا يصل إلى إنسانيته الكاملة إلا انطلاقاً من اللحظة التي لم يعد فيها تابعاً بشكل أعمى للهو والأنا الأعلى، لكي يرى شعب نينوى حسب الحكمة الإلهية: ليس حسب البنى القاسية للأنا الأعلى، ولكن عبر الأخذ بعين الاعتبار الضعف البشري.
والأجنحة ترمز إلى في الديانة المسيحية للألوهية، فالملائكة لها أجنحة، بينما ترمز للحكمة عند البوذيين (لاحظ الأطفال المتوفين هم طيور الجنة، بالارتقاء دائماً نعبر عن الطيران) الحلم بوجود أجنحة يشير للمعرفة والحكمة وقوة الروح، إنه يدل على السيطرة والقوة والقدرة على الرؤية الموسعة، وهذا ما عبرت عنه أساطير الطيران. وأن ترى الآخرين بأجنحة فهذا دليل إعجابك بهم. وبذلك ترتبط الطيور، فقدرتها على الطيران الحر تعبر غالباً عن الطموح والمعرفة والقدرة. وقد كانت الطيور تقوم في الأساطير بدور الرسول بين الآلهة والإنسان، كما أنها تمثل في التراث المسيحي والاسلامي الأرواح في الجنة. ويعتقد المصريون القدامى أن الطيور ترمز للروح المتحررة من الجسد بعد الموت. في حين أن الغراب تصفه أغلب الحضارات بالكائن القادر على التكهن بالأحداث المستقبلية المرتبطة بالشر، وأنه على اتصال دائم بآلهة العالم السفلي والموت، كما يرسم على غصن الشجرة التي قطفت منها حواء التفاحة قبل خروجها وآدم من الجنة، لذلك يرتبط ظهوره الحلمي بالجانب المظلم من الدوافع.

خاتمة

إنّ حريتنا – حسب يونغ – لا تكمن خارجنا، بل داخلنا. يمكن أن يقيد المرء في الخارج، لكنه سيشعر أنه حر، لأنه فجّر قيوده الداخلية. يمكن للمرء بالتأكيد أن يحصل على الحرية الخارجية من خلال تصرفات مفعمة بالقوة، لكن المرء لا يخلق الحرية الداخلية إلا من خلال الرمز، الذي يفتح الباب على مصراعيه للولوج في عالمنا الذاتي. يقول يونغ: ”نحن أيضاً نعيش في أحلامنا، لا نعيش فقط في النهار، أحياناً ننجز أعظم أعمالنا في الأحلام”.


الكاتب : معاذ قنبر

  

بتاريخ : 01/07/2021