السندريلا : موت بطعم الخلود

« سعاد حسني هي الموسيقى التي تتجسد لنا في ملامح بشرية،إنها موسيقى مرئية، تمثل موسيقى، تتحرك موسيقى، تتنفس موسيقى، لذلك فإنها تمثل الموسيقى الخالصة لا يمكن أن تمسك بها، لكن تخلق معها»
طارق الشناوي

النجم السينمائي: النهايات اللغز

لم تكن صناعة النجم السينمائي في الصناعات السينمائية الكبرى سوى رغبة منها لصناعة ما وصفه برنارد شو يوما بأنصاف الآلهة، قادرة على التأثير في المخيلات ليس فقط من أجل ضمان أكبر قدر من المداخيل، بل من أجل الترويج السياسي لفكر ما أو الاقتصادي لمنتوج ما أيضا، لعبة سحرية خالصة كانت تتقن فن التشكل مع كل فترة تاريخية معينة لخلق الأسطورة الآدمية بمواصفات معينة قادرة على التأثير و الاستجابة للرغبات السيكولوجية للجمهور الذي يصبح زاهدا لمعبوده، مطيعا لصكوك نواميسه في التماهي حد الذوبان، حتى حينما يفقد هذا النجم بريقه أو تقتضي شروط التغيرات الاجتماعية و التاريخية تكسير هذا المعبود ّ- الصنم وتعويضه – لأنه لم يعد يستجيب لحاجيات منظومة للصناعة التي ينتمي إليها – يدرك ذلك النجم أنه كان مجرد آداة لنظام متوحش، لينهي أسطورته بشكل درامي مثير نجد تفسيره في رسالة مارلين مونرو التي تركتها قبل الوفاة قائلة ( لدي إحساس عميق بأنني لست حقيقية تماما ، بل إنني زيف مفتعل و مصنوع بمهارة)، والواقع أن تاريخ الإنسانية يعج بهذه النهاية المأساوية لحالات الإنتحار لمبدعين و نجوم في مختلف المجالات، لكن الحالات في السينما كانت الأكثر جدبا للاهتمام و التساؤل، من ضمنها السينما العربية – المصرية التي استيقظت يوم الواحد وعشرين من شهرين يونيو على خبر وفاة ممثلة طبعت دهنيات المتفرج العربي لمدة طويلة وعشقها بجنون، الممثلة سعاد حسني بعد أن هوت من شرفة شقتها بعمارة بلندن، و هي الوفاة التي صاحبتها فرضيات متناقضة و متضاربة مابين القتل المتعمد و عملية الإنتحار بسبب دخولها في حلة اكتئاب لفقدان جمالها و لمعانها، وهو ما أومأ له الناقد «يحي الشحات حينما كتب قائلا ( كان همها الوحيد الا يتحطم الشكل المرسوم في أذهاننا عنها ، وتخشى أن يراها أحد في حالتها المرضية، كأن الناس دهبت عنهم أدميتهم ، و نسوا أن الذي قدمته طوال خمسة و ثلاثين عاما لم يؤثر فيهم، و يجعلهم يدافعون عنها، و يشعرونها بأنه مهما حدث ومهما كانت قوة المرض إلا أنها ستظل سعاد حسني ا لإنسانة ، الجميلة والرائعة التي لم تعرف الزيف و البهتان ).

سعاد حسني النجمة التي صنعها الشعب

حينما و قفت سعاد حسني في نهاية الخمسينات و هي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها أمام كاميرا هنري بركات في شريط « حسن ونعيمة « كان عليها أن تتسلح أولا بكل مقومات التحدي لشروطها الاجتماعية التي لم تسعفها في التعليم، لأنها نشأت في أسرة متعددة الإخوة و الأخوات ومتواضعة الموارد ( ليس من أهدافها ربما أن يتابع الولد الدراسة العليا و بالتالي البنت) كما صرحت يوما،لكن كان عليها فنيا تجاوز ما كان يبدو مستحيلا حتى تجد مكانا في لائحات نجمات السينما المصرية السابقات منهن من قبيل ماري كويني، نعيمة عاكف ، عزيزة امير,,,,,, او المجايلات من عصرها من مثل فاتن حمامة ، مديحة يسري ، هند رستم ، زهرة العلى ….. في فترة كانت فيه السينما المصرية تعيش عصرها الدهبي،، لأنها كانت أكثر ثراءا من حيث الإنتاج حد اعتبارها السينما العربية بامتياز،إلا أن ما كان يبدو مستحيلا أصبح قابل للتحقق في ظل ما كانت تعيشه السينما المصرية في نهاية الخمسينيات من تحولات عميقة في بنيتها الفكرية نثيجة المد القومي و التغيرات العميقة بمصر التي كان على السينما أن تتفاعل معها بالبحث عن كينونة جديدة ووجوه انثوية بديلة و جديدة ، لا تحمل معالم الاستقراطية، ولا مقاسات الجمال الغربي، كانت السينما المصرية في هذه الفترة كما أكد بعض المتتبعين تبحث عن نجمة لها سمات» بنت» الشعب ونظرات الشعب لتستجيب لوعي السينما المصرية الجديد، وهو ما وجده هنري بركات في وجه وفطرية سعاد حسني ليقدمها كنموذج للبنت المكافحة التي تبحث بنفسها عن الحب في شريط « حسن و نعيمة»، لقد اتفق العديد من الدارسين لمسارها بان دورها في هذا الشريط وعفويتها في هذه القصة الشعبية عاملا مؤسسا لبزوغ تحول جديد في معيار النجومية وذلك بتقديم « نجمة من الشعب، ناطقة بلسانه و مكتسبة ملامحه»، وهو ما فتح لها شرايين قلوب الجماهير منذ الوهلة الأولى لتنهال عليها العروض بشكل مدهش بدليل أنها حطمت رقما قياسيا في الأدوار في سنتها الثانية فنيا بتمثيلها لخمسة أفلام ، لتبدأ في بناء صرحها كنجمة بدون منازع، وهو ما أكده «جسن صيفي» الذي تعامل معها في بعض الأشرطة من مثل « حكاية جواز» بالقول « تفوقت سعاد حسني على كل بنات جيلها، و أصبح لها لون متفرد فرضته موهبتها الفطرية التي لم تكن نابعة من دراسة أو ثقافة ، وإنما من إحساس متدفق»، وهو ما سيؤكده الناقد « شريف غريب» حينما كتب قائلا : ( لم تكن نجومية سعاد حسني من النوع التقليدي أو ما يمكن تسميته بالنجومية الهادئة، إنها من الأسماء القليلة في تاريخ السينما العربية التي صنع الجمهور نجوميتها الطاغية منذ اللحظة الأولى،…. ووصل بها هذا الجمهور إلى أعلى درجات العشق و التفضيل)
تتميز فيلموغرافيا سعاد حسني بالغنى و التنوع من حيث الأدوار من خلال ما يناهز 74 شريطا سينمائيا تعاملت من خلالها مع معظم المخرجين الكبار كعلي بدر خان ، عاطف سالم، حسن الإمام ، صلاح أبو سيف …. ووقفت أمام عمالقة التمثيل أنذاك من مثل عمر الشريف، حسن يوسف، شكري سرحان ، نور الشريف … و غيرهم من أهرامات الغناء كعبد الحليم حافظ في شريط « البنات و الصيف».
لم يكن الفضل في نجومية سعاد حسني للأسماء الكبيرة من الممثلين و المخرجين الذين تعاملت معهم فقط، بل أيضا لحرصها الشديد على الاختيار و قراءة السيناريو لتعرف حدود إمكانياتها في الاندماج مع الدور و هو ما أكده السيناريست « رأفة الميهي» الذي كتب لها خمسة أفلام بقوله ( كان لسعاد حسني رأي أساسي في السيناريو، لأنها من النوع الذي يقرأ السيناريو، و هذا يخلق حالة شد و جدب ، ومن هذا الشد و الجدب تعلمت من أستاذتي سعاد حسني رغم أنها لم تكن متعلمة و مثقفة بالمعنى الاصطلاحي، كيف تكتب الجملة و تكون مريحة للمثل).
لقد استطاعت سعاد حسني أن تصبح الشخصية نفسها وهي تتقمص عدة أدوار مختلفة ومعقدة بل ومختلفة من حيث الأبعاد الداخلية للشخصيات التي تقمصتها بنفس الدرجة من الإقناع ، من ممثلة شابة في شريط ( الضوء الخافت) لفطين عبد الوهاب،إلى خادمة صغيرة ، مريضة نفسية في شريط ( بئر الحرمان)، إلى الزوجة الغانية في شريط ( القاهرة30)،إلى قروية غامضة في شريط ( حب في الزنزانة)،إلى أرملة في شريط ( الراعي و النساء)، معتمدة بدرجة أساسية على فطريتها، و قدرتها على التعبير بملامح الوجه بدليل شهادة رأفت الميهي الذي أكد على أن ( أدواتها المميزة في الأداء تكمن في قدرتها على استعمال عينيها ، فالتعبير بالعينين هو أقوى ما في الإنسان، كذلك سعاد حسني ليس لها تفاوت بين قدرتها على تجسيد شخصية شعبية أو أرستقراطية فهي تتقمص كل الألوان ….)، و يرجح البعض أن نجاحها هذا يرجع إلى طموحها أولا ، وهو ما عبر عنه ( محمد الصاوي) بالقول ( كانت تحلم بأن المستحيل ممكن، وأن الصبر تاج للوصول إلى الأمل ، وأن السعادة حق أصيل من حقوق البشر….)،لكن ثانيا لقدرتها على التحدي ، فهي و في نظر الباحثين في سيرتها ومسارها، لم تكن تتحدى فقط زميلاتها من نجمات المرحلة من مثل نجمة راسخة وذات جمال صارخ من مثل» هند رستم» التي وقفت أمامها في شريط (إشاعة حب) لفطين عبد الوهاب، بل كانت تتحدى نفسها أيضا حينما تقدم شخصية مزدوجة في نفس الشريط على نفس الدرجة من الإجادة و القوة كما في شريط ( شادية) من خلال أداء دور الشقيقتين التوأم، المتشابهتين في الشكل المختلفتين في الصفات الشخصية، كل هذا جعل علاقتها بالجمهور علاقة خاصة ووجودية حدد لها الناقد» إبراهيم العريس « عدة ركائز متداخلة وهو يبحث عن سر نجوميتها بالقول ،(أولا أنها كانت قريبة المنال، فبسمتها المحلية، و لهجتها العربية كانت تبدو و كأنها في انتظار كل واحد من الجمهور، وثانيا هي أنها تشبه بنت الجيران أو الأخت المحترمة، و ثالثا هو أنه نادرا ما كانت نهايات أفلامها سعيدة)، و إدا كان بعض النقاد يحاججون بملكاتها الفنية في النجاح، فإن بعضهم الآخر كان يرى أن الشرطين السياسي و الاجتماعي كانا لهما دورهما المؤثر في تلك النجومية، لأن سعاد حسني كانت من خلال بعض أفلامها بمثابة الإجابة السياسية و الاجتماعية للمرحلة التي عايشتها ، خصوصا بعد هزيمة 67 من خلال بعض الأشرطة التي حضر فيها الوعي السياسي من مثل شريطي ( أهل القمة) و ( الكرنك)، أو من خلال أشرطة اجتماعية التى عبرت عن الازدواجية التي عاشتها المرأة العربية بصفة عامة ذلك الوقت من مثل شريط (بئر الحرمان) الذي أنهى على حد تعبير الناقد « أسامة عبد الفتاح « عصر الحريم في السينما بقوله ( كانت سعاد حسني نقطة تحول رئيسية من عصر الحريم في السينما المصرية ،إلى عصر المرأة الفاعلة المؤثرة، المرأة البطلة لا بمساحة الدور ، ولكن بحجم قيادتها). ربما هذه الطينة من الأفلام ذات النفحة التراجيدية خصوصا بعض أقلام السبعينيات هو ما يؤرخ به اليعض لمرحلة نضجها الفني، خصوصا من خلال بطولتها لبعض الأفلام المقتبسة عن أعمال أدبية لعمالقة الأدباء الذين كانت لهم وجهة نظر في قضاياهم الاجتماعية و السياسية من مثل يوسف السباعي ،طه حسين، نجيب محفوظ و غيرهم، إلى جانب كل هذا تميزت السندريلا بقدرتها على الآداء الاستعراضي رقصا و غناءا، إلا أن لمعان هذه النجمة بدأ يخفت تدريجيا بداية من منتصف السبيعينيات، نظرا لتراجع عدد الأشرطة السنوية التي تمثل فيها، لتتعدد تأويلات ذلك بين من يرى أنها وصلت ألى فترة نضجها المتكامل الذي جعلها أكثر حرصا على اختيار الأدوار، و بين من يعتبران ذلك حتميا في حياة كل نجم سينمائي حينما يصل إلى مرحلة الإشباع من طرف الجمهور، وبين من يحيل ذلك إلى أن سعاد حسني أدركت و إن بتأخر بأن التعامل معها سينمائيا لم يكن من أجل موهبتها، لكن من أجل استغلالها تجاريا ، وهو ما قد يكون ولد لها صراعا داخليا ، لتقرر بداية من 1991 عزلتها عن الأنظار و انزوائها حتى لحظة رحيلها الغريبة في صمت بكل ما واكبها من فرضيات.
حياة سعاد حسني هي النموذج الشاخص للعديد من نجوم السينما العالمية الذين قرروا الرحيل بطريقة احتجاجية مريرة على توحش الرأسمال الصناعي السينمائي الذي بصنع معبودا من لحم ودم ، حتى حينما تشيخ ملامحه، أو تنتهي و ظائفه في الاستجابة إلى مرحلته، كسره بالإهمال و النسيان .

هامش

للإطلاع أكثر على مسار سعاد حسني و فيلموغرافيتها بالتفصيل يمكن العودة ألى:
1 – موسوعة عالم السينما و النجوم لمحمد الصاوي حيث أفرد لها دراسة فيما يناهز 242 صفحة.
2 – قرص مذمج : مجلة الفن السابع العدد 45.

 


الكاتب : عبد الجليل لبويري

  

بتاريخ : 09/10/2021