السوسيولوجي محمد ألويز في حوار مع «الاتحاد الاشتراكي» حول تمثلات «الشيخة في المجتمع المغربي»

تمثلات الشيخة في المجتمع المغربي

 

أن أعاد المسلسل المغربي “لمكتوب” النقاش الدائر حول المهن المرفوضة والمنبوذة داخل المجتمع المغربي، وذلك لتطرقه لمهنة “الشيخة”، وهي تلك الفنانة الشعبية التي تحترف الغناء والرقص في المواسم والأفراح والمناسبات.
ولا يختلف اثنان أن العمل الفني “لمكتوب” استطاع أن يحصد نسب مشاهدات عالية رغم كل ما رافقه من جدل محتدم بين من يرفض عرض دور الشيخة في عمل فني تلفزيوني يقدم للجمهور بداعي أنها أسوة سيئة ونموذج سلبي يُرفض عرضه على المتلقي، وبين من يرى أن الفن محاكاة للواقع ينقله ويصوره كما هو دون زيف أو حيف.
وبين هذا وذاك، وحتى نتمكن أكثر من الإحاطة بحيثيات هذا النقاش الراهن، حاورنا في جريدة الاتحاد الاشتراكي الدكتور والسوسيولوجي محمد ألويز، الأستاذ الجامعي المتخصص في علم الاجتماع بجامعة القاضي عياض كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش، حتى يقارب لنا نظرة المجتمع إلى هذه المهنة وفق وجهة نظر سوسيولوجية صرفة.

p كيف ترصد تمثلات الشيخة داخل المجتمع المغربي؟

n المجتمع المغربي مجتمع متعدد الأطياف والتعبيرات الفكرية ومتعدد المتناقضات وحسب تناقضاته تتحدد وتتعدد تمثلاته حول الواقع بشكل عام وحول الشيخة بشكل خاص، وأغلب التمثلات الشعبية بمجتمعنا مبنية على الثقافة الشائعة أي الثقافة غير العالمة والتي تكتفي بإصدار الأحكام الجاهزة والمسبقة، تلك الأحكام التي تحمل حمولات لا عقلانية وغير واقعية، ومن ثمة نجد التمثلات حول الشيخة تتأرجح بين الفاحشة والمدنس والميوعة، وقليل منها من ينظر إليها كفن وكتراث وكغناء منتج للثقافة الشعبية ومصور للواقع الاجتماعي.
ولابد أن أشير إلى أن الجواب، كسوسيولوجي، على هذا السؤال، يحتاج إلى المنهج العلمي الذي ينطلق من إشكالية واضحة وصياغة مجموعة من الفرضيات حول الموضوع وتحديد مجتمع الدراسة واستخراج العينة التمثيلية وتحديد التقنيات الملائمة للدراسة، من أجل القيام بتحقيق ميداني يمكن من جمع المعطيات التي تمكننا من رصد تمثلات المجتمع حول موضوع الشيخة أو أي موضوع اجتماعي آخر؛ لأنه وكما نقول لكي نتدخل ينبغي أن نفهم، ولكي نفهم ينبغي أن تتوفر لدينا مجموعة من المعطيات حول ما نريد أن نتدخل حوله، أما ما غير ذلك فهو مجرد يوتوبيات ذاتية صادرة من المرجعيات الفكرية والأيديولوجية للذات المتكلمة.

p كيف يمكن أن تفسر ظاهرة الهجوم الأخير والعنف المبالغ فيه الممارس ضد الشيخة بعد ضجة مسلسل لمكتوب وخرجة الشيخ المعلوم؟

n أنا في الحقيقة لم أتابع لا المسلسل الذي تقدمه التلفزة المغربية حول موضوع الشيخة، ولا رد فعل الشيخ المعني، ولكن بعد السجال الذي أثير حول الموضوع اطلعت على بعض المقاطع من المسلسل واستمعت لكلام الشيخ وتبين لي أن أي عمل فني يمكن أن يعالج أي موضوع اجتماعي أو ثقافي او تاريخي أو سياسي أو ديني إما بغرض إبراز المميزات الفنية والإبداعية، أو إثارة قضية معينة بمعنى أن أي عمل فني له مقصدية مهنية وهدف أساسي يرمي إلى ايصاله إلى الجمهور مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة هذا الجمهور المتنوع اجتماعيا وثقافيا وفنيا.
وأن أي تعامل مع الأعمال الفنية ينبغي أن يتم انطلاقا من معايير وقوالب فنية وعلمية موضوعية، التي تمكن من الخروج باستنتاجات منطقية على مستوى الشكل والمضمون وعلى مستوى القوالب الفنية والأساليب التعبيرية… إلخ.
أما رد فعل الشيخ على المسلسل فهو رد ذاتي لا علاقة له لا بالعلم ولا بالدين ولا بالفن، فهو أقرب إلى المحاكمة لعمل فني معين، بغض النظر هل نتفق معه أو لا، منه إلى تحليل عقلاني ينبني على الأسس الأخلاقية وطرق التواصل التي ينص عليها الدين الإسلامي المتمثلة في: الأسوة الحسنة، تغليب العقل على العاطفة، تحري الحقيقة إلى غير ذلك من المبادئ الدينية التي ينبغي أن يتحلى بها “الداعية” وبالتالي يكون رد فعل الشيخ المعني في تقديري هو مجرد خطاب شعبوي فرجوي يدغدغ عواطف فئة معينة من المجتمع ونابع من ذاتيته، أعطته وسائل التواصل الاجتماعي فرصة التعبير عن خوالجه ومشاعره دون القيام بأدنى مجهود لا فكري ولا عملي من أجل إنتاج أفكار مبنية على البحث وعلى التنقيب الميداني، ومبنية أيضا على التمكن والإلمام من الحد الأدنى من المعرفة العلمية، أما أن يتوفر أحدهم على ميكرو وكرسي وآلة تصوير وبعض المتفرجين ويبدأ في إصدار الفتاوى والأحكام الجاهزة فذلك لا علاقة له لا بالدين ولا بالعلم ولا بأي شيء آخر.

p هل تعتبر الشيخة منبوذة داخل المجتمع المغربي؟ ولماذا؟

n الجواب عن هذا السؤال يحتاج أولا إلى توضيح المفهوم، مفهوم الشيخ أو الشيخة الذي يحمل دلالات وحمولات متعددة، إذا عدنا إلى التاريخ المغربي وخصوصا التاريخ القبلي منه، فإن اسم الشيخ كان يطلق على كبير القبيلة أو ما يسمى بالأمازيغية بالأمغار، وهو لقب رمزي وتشريفي لشخصيات قبلية كانت تتميز بالكاريزمية داخل القبيلة، وتتميز بصفات لا يتميز بها غيرها، فقط أشير إلى أن هذا اللقب كان لقبا ذكوريا حيث لم تكن هنالك شيخات إناث كأمغارات للقبائل، لكن التغيرات والتحولات التي عرفها المجتمع المغربي بدأت كلمة الشيخ تتأنث عبر أشكال ودلالات مختلفة، وبدأت كلمة شيخة تطلق أحيانا على العاملات الجنسيات وبائعات الهوى، وأحيانا أخرى تطلق على فنانات وفنانين في مجال العيطة باعتبارها فنا راقيا يمتع الناس ويجلب البهجة في المناسبات المفرحة، ويغني قصائد مختلفة المواضيع، دينيةـ اجتماعيةـ ثقافية وسياسية… إلخ.
فالمشكلة داخل المجتمع المغربي وخصوصا بالنسبة للعوام بين الشيخة الفنانة التي تقوم بدور اجتماعي ثقافي مقبول من طرف المحيط الاجتماعي، وبين الشيخة كلقب شائع أطلق على العاملات الجنسيات والممارسات للدعارة. ونتيجة لهذا الخلط ولسوء الفهم الناتج عن الثقافة الشائعة أصبحت الشيخات موضع تحفظ واعتبرن خارجات عن المألوف واللائق في المجتمع المحافظ، ومن ثمة كان لعدم الفصل بين الشيخات الفنانات والشيخات البغايا أثر على التحفظ الذي ينتجه المجتمع إزاء الشيخة والنظر اليها كمدنس اجتماعي.

p .لماذا يتغنى المغاربة بالعيوط؟ والبعض منهم يرفض الشيخة التي تؤدي هذه العيوط؟

n سؤال صميمي يمكن أن نشخص من خلاله طبيعة المجتمع المغربي أو على الأقل العقلية العربية بشكل عام؛ فهي عقلية مركبة تتحمل الشيء ونقيضه، إذ تجد الفرد الواحد يجيب بنعم مكان لا وبلا مكان نعم ويقول نعم لا ولا نعم ويقول نعم بلسانه ويشير لا برأسه أو يشير نعم برأسه ولا بلسانه وهكذا.
وإذا أردنا اختبار وقياس الشخصية العربية فإننا سنجدها تتقمص وضعيات وشخصيات متعددة وتلبس أقنعة وماسكات مختلفة الألوان، فنفس الشخص هنا، أقصد الأنثى والذكر حتى لا أثير حفيظة هذا الطرف أو ذاك، الحامل لسبحته ولاسيما لجلباب الوقار والمحتل للصف الأمامي داخل المسجد قد تجده في حانة من الحانات يحتسي كؤوسا من الخمر، ونفسه قد تجده يقضي الليل وهو يتفرج في فيديوهات البورنوغرافي، ونفسه قد يكون ممارسا للعلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، والأمثلة في مجتمعنا عديدة ولست في حاجة للإشارة إلى بعضها، فالأحداث والوقائع التي تتبعها المجتمع المغربي، خلال السنوات القليلة الماضية، تغنينا عن كل بيان.
إذن، يتعلق الأمر بشخصيات مركبة على غرار المجتمع المركب، كما يعتبر بول باسكون حيث تتعايش المتناقضات، تتعايش الفاحشة مع الطهارة والمقدس مع المدنس والوقار مع السفاهة والتعبير والتعبير المضاد والرفض والقبول.

p كيف يمكن تحسين صورة الشيخة كمكون من مكونات التراث الشعبي؟ وكيف يمكن إسقاط كل الأحكام الجاهزة في حق الشيخات؟

n الشيخة كفنانة مبدعة ليست في حاجة إلى تحسين صورتها، إذ هي محسنة أصلا من خلال الأدوار والوظائف الفنية والتعبيرية التي تؤديها داخل المجتمع ومن خلال الدور الاحيائي والاستمراري لنوع من الغناء كتراث شعبي لامادي أنتجه المجتمع ومعبر عن ثقافة عريقة، أما الأحكام الجاهزة والمسبقة التي يحملها عدد من أفراد المجتمع على الشيخة بالمعنى الذي ذكرته فيصعب مواجهته بعويل مضاد، ولكن يحتاج الأمر إلى تفعيل أدوار مؤسسات التربية والتنشئة الإجتماعية: الأسرة، المدرسة، الجامعة، دور الشباب.. لتشكيل عقلية الشباب وبنائها بناءً علميا عقلانيا، وبدون ذلك سيبقى الفراغ متحكما في مصادر وروافد تلقي الشباب للثقافة الشائعة، سواء عبر بعض القنوات الخارجية أو وسائل التواصل الاجتماعي غير الموجهة… إلخ.

p هل يمكن لعمل فني درامي يحاكي عمل الشيخة أن يخرج العديد من جحورهم ويجعلنا أمام هجوم ممنهج ضد النساء اللواتي يحترفن “تشياخت” في المجتمع المغربي؟

n بالطبع في جميع المجالات، الإنسان عندما لا يبدع “يتبأسس” (من البؤس) بمعنى الفراغ الذي يعيشه يجعله يتصيد الفرص من أجل إبراز ما لا يستطيع إبرازه بشكل مستقل وفاعل، ويبقى أمامه الحل الأسهل هو الركوب على الجاهز والمتوفر من أجل اظهار الذات.
وفي تقديري أن التعامل مع شرط المرأة داخل الثقافة العربية لا زال يطغى عليه المنطق الذكوري والذي تزكيه الثقافة السائدة، كما أن حضور النساء إلى الفضاء العام مازال يخلق انزعاجا لدى الذكور الذين ما زالوا ينظرون إلى المرأة كجسد، وكمورد تقليدي مهمته ووظيفته الإنجاب وإكثار النسل، وخصوصا لما تحولت وظيفة المرأة إلى جانب الإنجاب وأمور البيت إلى دور الفنانة، الطبيبة، الأستاذة، الفاعلة الاجتماعية والمنتجة للثروة داخل الفضاء العام، إلى غير ذلك من المهن….الشيء الذي يثير حفيظة العقل الذكوري التقليدي الذي أضحى يشعر بأن المرأة انفلتت من سلطته وهيمنته، خصوصا أن العقل الذكوري لا يزال، في جانب منه، يعتبر أن الأنثى خلقت للوطء وإنتاج الخلفة أو إنتاج النسل فقط.


الكاتب : حاورته: إيمان الرازي

  

بتاريخ : 28/04/2022