السياسة و مواقع التواصل الاجتماعي

 

من شبه المؤكد أن الشعار الذي ترفعه مواقع التواصل الاجتماعي اليوم بكل نجاعة وفاعلية هو القُرب والفورية والسبق في الإخبار، واستهداف أكبر قاعدة جماهيرية. لذلك، يلاحظ تنامي أعداد رجالات السياسة، وزعماء الهياكل الحزبية، ورواد التأثير الاجتماعي المنخرطون جزئيا أو كليا في إنشاء صفحات خاصة على الشبكة، والسعي إلى تأسيس قاعدة بشرية متواصلة ومتفاعلة وعلى ثقة متبادلة في هذا المعطى التواصلي الاجتماعي العريض البالغ الفعالية، بل الأكثر نجاعة في المشاركة والتواصل زمن الاستحقاقات الانتخابية وتحقيق التأثير المطلوب على الإطلاق.
حينما تسأل أحد النشطاء التواصليين المهووسين بعوالم الشبكة، عن عدد المواقع التي يرتادها، يجيبك على الفور الفايسبوك والتويتر والانستغرام وقد يضيف اليوتوب، لكن الحقيقة أكثر من ذلك فمن أصل المئات، بل الآلاف من مواقع التواصل الاجتماعي التي تجري في سماوات لله المفتوحة، يقتصر نشطاء العالم الافتراضي على معرفة عدد قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة .
وتزداد قيمة شبكات ومواقع السوشل ميديا، ويرتفع منسوب فعاليتها لدرجة التنويم المغناطيسي مع اقتراب موعد الاستحقاقات الانتخابية ومواعيد الاقتراع، فيفيض الفايسبوك أنهارا و بركا وجداول ومستنقعات، وتتضخم قنوات تويتر، ويستأسد غوغل، وتتعملق إنستغرام ولنكدن، ويهيمن اليوتوب على الفضاء الأزرق بالصورة والصوت المعجون والمطبوخ بنكهة سياسية لدرجة التخمة.
ومع اقتراب موعد الحسم السياسي، يشرع القادة السياسيون وزعماء الأحزاب في نشر برامجهم الانتخابية، عبر الدعاية والحملات والحشود الشبابية في الأوساط المأهولة، ليتم نقل ذلك مباشرة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، فتبدو البرامج الانتخابية والمترشحات والمترشحون في حلل مزركشة زاهية الألوان، تركز على الهيئات وأشكال العرض والتعبير الجسدي والنظرة نحو الأشياء. ويشرعون في استمالة الناخبين المفترضين عبر جمل وعبارات مباشرة خالية من البوليميك أحيانا، وفق ما يطلبه المشاهدون. لكن هذه الصفحات الحية، لن يكتب لها الحياة طويلا، إذ ستخفت بعد حين، بل ستموت موتة سريرية، عمرها ست سنوات قادمة، لتنبعث من جديد وهكذا دواليك.
ومع ظهور جيل جديد من مرتادي هذه الشبكات التواصلية التي تركز على الإثارة في اللغة أو المظهر الشكلي للمترشح، لم يعد مطلوبا اليوم كتابة الخطاب السياسي وتسطير البرنامج الانتخابي كاملا، ليس لأن لا أحد سيقرأه، بل لأن الإشهار الذكي الماكر قد فعل فعلته، فالجمال الأنثوي وشكل العرض وحركات الوجه واليد والنظرة الساحرة، باتت أهم شيء في هذا العالم الغريب العجيب المريع المريب..، ويفتخر البعض بأن صفحته على الفايسبوك تضم 5000 صديق، وعشرات الآلاف من المعجبين والمتتبعين، ويعتقد البعض الآخر، أنه بمجرد نشر المحتوى الانتخابي على صفحاته، سيحصد عددا هاما من لايكات وسينضم المآت من المستقطبين الجدد، لكن الخيبة ستكون بحجم النكبة. فقد لا يجد الناشر السياسي سوى عدد قليل من العابرين غير المكترثين العازفين الساخطين المتربصين الأخطر من ذلك ستصدمه العشرات من التعليقات السخيفة والفجة، التي لا تحترم أبسط أدبيات التواصل، و تكشف عن جهل سحيق بأدب الحوار وأخلاقيات مهنة السياسة والصحافة.
أي نعم، لقد نجحت الصفحات الفايسبوكية وغيرها على مواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة في سماوات لله المفتوحة مجانا، ومتاحة بالحد الأدنى للمعرفة الرقمية، في خلق بدائل للدكاكين السياسية، ووفرت المال والجهد، وباتت الخطابات والبرامج السياسية سلسة العبور من وإلى، داخل مقهى أو في ركن من أركان البيت الداخلي، ومن خلالها تتراقص دعوات الناشطين وأجراء الحملة الانتخابية وغيرهم إلى المشاركة في التجمعات في الحملات الدعائية بالنقرات على أزرار الهواتف المحمولة او اللوحات والحواسيب بأقل تكلفة.
لقد عمد محترفو التواصل على توظيف هذه الأدوات الرقمية المذهلة، ولم يعد الرهان اليوم على الحشود البشرية وهتاف الجماهير والحملات الدعائية في الشوارع، إلا لقلة قليلة، وباتت التعليمات والأوامر الحزبية تتساقط على القادة المحليين ووكلاء اللوائح، منتهجة كافة الطرق والوسائل الرقمية المتاحة، واعتماد الواتساب قاعدة أساسية لتمرير المحتوى للمجموعة الافتراضية، تركز هذه الدعوات على الصداقات الافتراضية معتمدة عدد المشتركين والمناصرين والمستقطبين على صفحة الفايسبوك الخاصة أو غيرها من صفحات المواقع التواصلية. لقد تأكد للجميع أن امتلاك صداقات بالآلاف على الفايسبوك، لا يضمن نصرا سياسيا، ولا فوزا انتخابيا، وليس بالضرورة طريقا معبدا للحصول على مقعد برلماني، لكن الأمر في حد ذاته أصبح مؤشرا إيجابيا وعلى قد كبير من الأهمية.
لقد تأكد بالفعل أن شبكات التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت على نحو عام مصادر أساسية للتفاعل والتواصل وتقاسم المعلومة، لاسيما زمن الاستحقاقات الانتخابية، إنها قنوات بث شاسعة المدى تسمح للفاعلين السياسيين وغيرهم أن يكونوا على اتصال مباشر ومستمر مع المواطنين والناخبين الافتراضيين، ويتابعوا بشكل خاص طموحاتهم وانتظاراتهم ويستمزجوا مواقفهم وأرائهم على النحو الذي يسمح بتوجيه الحملة الانتخابية وتحقيق الأهداف المرسومة لها .
وتلعب السرعة و الفورية، في التبليغ دورا حاسما في العملية، كما يحقق السبق الإخباري أدوارا طلائعية على شبكات التواصل الاجتماعي، فمع اقتراب موعد الاقتراع، يرتفع منسوب المعلومة الصادرة عن القادة السياسيين، ويتنامى حجمها بشكل مهول، وتتضخم المسؤولية في تبليغها وتقاسمها. ورغم التحذيرات والتنبيهات، وصرخات التشكيك في صحتها، التي يطلقها البعض في شأن المعلومات الفورية المتعلقة بفوز أشخاص محددين، أو انتقاء بعضهم، أو التشهير بهم أو الانتقاص من قيمتهم، أو تشويه وتجريح ذواتهم، وإعلان أشكال الفساد المرتبط بهم، إلا أن لا أحد يعير اهتماما لذلك، ليظل الترويج للمعلومة المتاحة رغم عدم صحتها، ساري المفعول في سباق مع الزمن.
ورغم الإجماع الحاصل بأن المعلومات المتاحة، ليست بالضرورة صحيحة ولا دقيقة. إلا أن الجميع مقتنع بتقاسمها وترويجها على نطاق واسع، بغض النظر عن كل ذلك، فالسياسة في تقدير هؤلاء هي استمزاج الرأي العام القابل للرسكلة والتدوير على مدار الساعة. فمجمل التدوينات السياسية في نهاية المطاف، مجرد أشكال تواصلية عابرة للقارات. وليس من الضروري أن يتحقق الناشر من صحة محتوى المعلومات المنشورة، أو حتى مجرد التساؤل حول سبب وتوقيت نشرها. الأمر الذي يطعن العمل التواصلي في مقتل.
وتظل المراقبة المنتظمة لشبكات التواصل الاجتماعي من قبل القادة السياسيين و الناشرين والمؤثرين أمرا بالغ الأهمية، ليس على سبيل المواكبة والاطلاع فحسب، بل لاستشراف المستقبل السياسي للهيئة، ووضعها في صورة حجم الصراعات الدائرة بينها وبين الخصوم السياسيين المفترضين. فعلى ضوء ذلك يتم رسم سياسة منافسة شرسة بالغة الحساسية.
إن الدعوة إلى تقوية الاشتراكات وتعزيز رصيد الصداقات والتتبع اللصيق وبناء الصداقات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي بات يشكل مادة أولية يتم الاعداد لها مسبقا، وفي هذا الصدد، لوحظ خلال اقتراع الثامن من شتنبر الماضي، إغلاق الصفحات الفايسبوكية لجل الأحزاب السياسية التي فتحتها تزامنا مع الاستحقاق الانتخابي، ليس بسبب الآجال القانونية، بل لأنها موسمية وليست مؤسساتية دائمة، ما يجعل العملية برمتها موسمية ليس إلا. وهذا ما يجعلها تشبه الى حد كبير الدكاكين الانتخابية، اذا ما استثنينا الأعباء المادية لهذه الأخيرة.
يتبع


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 06/10/2021