«السينما الشعرية» سعي للعودة إلى النقاء الأصلي المفترض للوسيط السينمائي

تقول ناديا كوهين إن النقد يشير إلى الأفلام ذات الجماليات المختلفة بكونها «شعرية» أو «غنائية» أو مبهرة مثل قصيدة «هايكو» أو ثرية بـ»الإيقاع البصري». من ذلك وحتى لا نقتصر على عدد قليل من المخرجين المعاصرين الذين يتم إطلاق هذه التعبيرات عليهم بانتظام، أفلام بترينس ماليك، وجيم جارموش، وغوس فان سانت أو هاياو ميازاكي. ولئن احتل الشعر مساحة ضيقة في قراءات معاصرينا، فإنه لم يختلف بالمقابل، من اللغة العامة. وفيها نلاحظ أن صفة الشعرية التي تشتق منه، تستخدم في السينما على نطاق واسع؛ في النقد وعند الترويج لبعض الأفلام التي تقترن، وفق الحالات، بصفات مثل “نشاز” أو “حلمي” أو “غامضة” أو حتى «مختزلة»، فتمثل مقولة ذات حدود غامضة، يصعب ضبطها. وغالبا ما يبدو الشعري، عند استخدامه لتعريف الفيلم تجربة مشتركة على نحو حدسي ولكن نادرا ما يتم تعريفه بصرامة.

 

يتطرق كتاب «سينما تبحث عن الشعر» إلى معالجة الشعرية في السينما العالمية في الشرق والغرب انطلاقا من أعمال وخطابات متنوعة، ومن خلال أبرز الأفلام والمخرجين الذين تمتعوا برؤية شاعرية جسدتها جماليات فنية في كافة عناصر الفيلم.
أطلق المخرج الإيطالي بازوليني مصطلح “السينما الشعرية” وتبعه المخرج الفرنسي جون كوكتو وغيره من المخرجين الفرنسيين، الأمر الذي شكل اتجاها واضحا في السينما العالمية، ومن أشهر الأفلام التي تندرج تحت هذا المصطلح، فيلم “دم الشاعر” الذي كتبه ومثله وأخرجه جان كوكتو، وفيلم “ساعي البريد” للمخرج ردفورد الذي انطلق من سيرة نيرودا، وفيلما “الليلة الأخيرة في مارينباد” و”هيروشيما حبي” للمخرج آلان رينيه، وفيلم “مشرب الشاي تحت ضوء القمر” المأخوذ عن مسرحية “جون باتريك” أخرجها للسينما دانيئيل مان، وأفلام المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي.
وهذا الكتاب «سينما تبحث عن الشعر» الجماعي الذي جمعت دراساته وقدمت له ناديا كوهين وترجمه معز ماجد عن الفرنسية، وراجعه وحرره د.أحمد القاسمي، وصدر عن دار جسور بالتعاون مع مهرجان أفلام السعودية الذي تنظمه جمعية السينما بشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء»، يجمع دراسات قيمة كتبت بعد الموجة الأولى من التأليف في الموضوع، والتي قادها منظرون من أمثال بازوليني وكوكتو وغودار.
تقول ناديا كوهين إن النقد يشير إلى الأفلام ذات الجماليات المختلفة بكونها «شعرية» أو «غنائية» أو مبهرة مثل قصيدة «هايكو» أو ثرية بـ»الإيقاع البصري». من ذلك وحتى لا نقتصر على عدد قليل من المخرجين المعاصرين الذين يتم إطلاق هذه التعبيرات عليهم بانتظام، أفلام بترينس ماليك، وجيم جارموش، وغوس فان سانت أو هاياو ميازاكي. ولئن احتل الشعر مساحة ضيقة في قراءات معاصرينا، فإنه لم يختلف بالمقابل، من اللغة العامة. وفيها نلاحظ أن صفة الشعرية التي تشتق منه، تستخدم في السينما على نطاق واسع؛ في النقد وعند الترويج لبعض الأفلام التي تقترن، وفق الحالات، بصفات مثل “نشاز” أو “حلمي” أو “غامضة” أو حتى «مختزلة»، فتمثل مقولة ذات حدود غامضة، يصعب ضبطها. وغالبا ما يبدو الشعري، عند استخدامه لتعريف الفيلم تجربة مشتركة على نحو حدسي ولكن نادرا ما يتم تعريفه بصرامة.
وتوضح «لنتذكر أن أسبابا تاريخية تقف وراء هذه الميوعة الاصطلاحية ووراء إتاحة الشعري التي تجعله قابلا للاستخدام في مجالات عديدة، بما في ذلك مجال السينما. والسبب الأول اشتقاقي، بما أن المصطلح ينحدر من الكلمة اليونانية ‘بوويزيس’ التي تشير إلى كل أشكال الابتكار. فبهذا المعنى يتم استخدامه لتعريف قوانين عمل فني ما، كما عرفناه عند الشكلانيين الذين كان يحدوهم طموح لتعريف شعرية السينما، مستخدمين المصطلح في صيغة فعل المؤنث، ولكن الشعر، الذي لا ينبغي أن يتماهى مع الشعري، لا يعرف بمصطلحات شكلية فحسب، وإن اقتصرنا على الإطار الأكثر خصوصية لنظام الأجناس الأدبية. أضف إلى ذلك أنه تخلى عنها بدوره شيئا فشيئا منذ منتصف القرن التاسع عشر. فقلص الشعراء من المعايير الشكلية، والأغراض القديمة تباعا ثم تحرروا منها واستدعوا الأشياء المبتذلة التي كانت محظورة في السابق.. وشكل الرومانسيون من هذه الناحية علامة فارقة. ثم وسع السرياليون هذا التصور للشعرية بصفتها طريقة للإقامة في الوجود. فأضحى الشعري إذن يعين تلك الحالة التي يمكن أن تنقل من المبدع إلى متلقي العمل الفني، فما بالك بالأحاسيس التي يمكن الشعور بها عند تأمل منظر طبيعي».
وتتساءل كوهين: لماذا يلجأ النقاد والسينمائيون عندئذ، إلى هذا المفهوم المنفلت، الذي تصطدم كل محاولة لتعريفه بالاستحالة؟ هل يجب أن نعرض عنه. ونرى فيه تسيبا لغويا، أو خللا في التفكير، وأكثر من ذلك، هل نجد فيه إستراتيجية إشهارية محضة للترويج لأفلام تخرق بعض المعايير؟ يعني الأمر أن نتجاهل تكرار هذا المصطلح الذي لا يكاد يحصى، في النقد المعاصر كما في كتابات بعض السينمائيين. وتدعو إلى تحليل هذه الخطابات التي لم تدرس الأسس النظرية والأيديولوجية التي تسندها كفاية حتى الآن تحليلا دقيقا.. لماذا نستخدم مثل هذا المصطلح لتوصيف هذا الفيلم أو ذاك؟ بماذا نشبهه؟ وماذا يعنى لنا استعمال السينما والشعر، أو بالأحرى أفكار الشعر التي تنقلها مثل هذه الخطابات؟ وفضلا عن ذلك أي مساحة يمكن أن يحتلها الشعر، في معناه الحرفي، في مثل هذه السينما؟
وتؤكد أنه رغم أن مسألة الشعر السينمائي شكلت موضوع بعض الدراسات الحديثة، لم تتم معالجة السؤال المماثل للسينما الشعرية إلا بشكل غير مباشر وجزئي. فقد اهتم به مختصو الأدب عموما باعتباره أسلوبا للشعر خارج الكتاب. فيما تناوله مؤرخو السينما من أفق بحثي، مركزين على بعض السينمائيين أو على مدارس بعينها أو على تقاليد وطنية.
يركز التساؤل عندئذ بطريقة مميزة على بعض الوجوه المهمة، التي تقع في الصف الأول شأن بيير باولو بازوليني، وهو بدوره شاعر ومؤلف دراسة مشهورة عن «سينما الشعر» وتتضمن بعض الدراسات البانورامية مدونة أكثر شمولا لكنها تستبعد الاستخدامات المبتذلة لمصطلح «الشعرية». ورغم الأهمية التي قد تكتسبها في سبيل مقاربة الظاهرة مقاربة تأليفية، فإن مسألة الشعرية في السينما لا تختزل في المدارس ولا في الطليعة التي تجعل صيغها متطرفة.
لقد رسم مجلد من سلسلة فابولا خصص لاستعمال صفة «الشعري» خارج المجال الأدبي. وشارك فيه باحثون في السينما والأدب والدراسات الثقافية، لنفسه طموح سد هذه الفجوة من خلال تجميع ثلاثة أنواع من الخطابات المندرجة في إطار تقاليد متباينة والمستجيبة لأغراض مختلفة هي كتابات السينمائيين الذين حاولوا تعريف الشعر المتأصل في فنهم، وكتابات المنظرين والنقاد التي تصف هذا الفيلم أو ذاك بـ»الشعري»، فضلا عن نصوص الاتصال الصادرة عن محترفي السينما في إطار الترويج لأفلام بعينها أو برمجتها.
وترى كوهين أن “نظرة عامة تكشف لنا أولية الخصائص المتكررة للسينما الشعرية: فهي نسيج سردي فضفاض أو إيقاع فردي يميل إلى تمطيط اللقطات أو نزوع واضح للاستعارة أو بحث شكلي يتجلى من خلال بعض المعالجات التي تتغير بحسب العصور والمؤلفين كالضبابية والطباعة المضاعفة في عشرينات القرن الماضي واختيار الأبيض والأسود دون أي قيود تقنية أو اقتصادية في أفلام مثل ‘رجل ميت’ لجيم جارموش 1995، أو ‘تابو’ للمخرج ميغل غوميز 2012 أو الاستخدام الجمالي أو الصوفي لـ ‘مشاعل العدسة’ عند تيرنس ماليك. ويبدو أن مثل هذه السينما تتجلى من خلال نزعة إلى اختزال الكلام، وهو أمر يمكن إدراكه عند غاس فان سانت، كما لو أنه سعي إلى العودة إلى النقاء الأصلي المفترض للوسيط السينمائي».
وتضيف «تستخدم كلمة شعرية أحيانا بطريقة أكثر تاريخية، للإشارة إلى شكل من الحضور في العالم، وإلى نظرة أحادية له، لاسيما في سينما الواقع، فضلا عن الحالة التي يحاول فيها المخرج دفع متفرجه إلى الانخراط في الفيلم. ومع ذلك، لا تكفل أي من السمات المذكورة هنا الطابع الشعري للفيلم، والذي لا يمكن اختزاله في قائمة من المجازات مسبقا. وقد تعدد بعض المعالجات بإغراق الفيلم الشعري في ضرب من الفن الهابط، لفرط استعمالها. وهو الأمر الذي حذرنا منه تاركوفسكي في مقالة له بعنوان «البداية»، ويلاحظ كوكتو أيضا أن الكثير من العناية وعدم وجود باب مفتوح بالصدفة، أمران يخيفان الشعر الذي لا يقع بطبيعته في الشرك بسهولة».
وتلفت الكاتبة إلى أن «لمفهوم السينما الشعرية بعدا تاريخيا كتب بأقلام المخرجين على نحو متدرج، رغم أن جميعهم لم يمنح المصطلح المعنى نفسه وأنهم غالبا ما استخدموه في جدالهم دفاعا عن رؤيتهم بصفتهم مؤلفين يواجهون السينما التجارية التي عدوها مرتبة أكثر ما ينبغي. ولئن لعب البعد النفعي لمصطلح شعرية دورا لا يمكن إنكاره في هذه الخطابات، فإن إلقاء نظرة عامة سريعة على السينمائيين الذين ألحوا على المصطلح يثبت أنه ضروري ومفيد. وكثيرا ما يروج للشعر الفيلمي قبل كل شيء على حساب أولوية السيناريو مقارنة بالقوى الحساسة للسينما. وأول معلم هام في هذا الصدد هو الشاعر والمخرج وكاتب المقالات جان إبستين، الذي جعل من السينما كشفا صوفيا تقريبا ومعجزة الحضور الفعلي واستعارة إفخارستية ستظهر بشكل مثير بعد قرن تقريبا بقلم أوجين غرين للإشارة إلى أفلام ذات جمالية مختلفة تماما، حوارات مكتوبة جيدا لكنها تبرز فكرة سامية بالقدر نفسه عن السينما».
وتشير كوهين إلى “دعوة المخرجة الأميركية مايا ديرين، وإن انخرطت في حركة سريالية أكثر من كونها شكلانية، إلى التحرر من السرد لفائدة استقصاء رأسي، مفضلة ظهور شيء غير مرئي، هو الشعور أو العاطفة، أو المحتوى الميتافيزيقي للحركة خلال المؤتمر الشهير «الشعر والفيلم» عام 1953 الذي صدمت أثناءه مما عاناه الشاعر ديلان توماس من سوء فهم ومن سخرية. مرة أخرى يتعلق الأمر باختزال القص، وإن بمصطلحات ولأغراض مختلفة. كان ذلك في المحاضرة الشهيرة التي ألقاها بازوليني في عام 1965 في مهرجان السينما الجديدة في بيزارو. وبحسب قوله، من المحتم أن يميل السرد في سينما الشعر إلى الاختفاء. إن هدف سينما الشعر الأقصى هو كتابة قص يكون بطله الأسلوب أكثر من الأشياء أو الحقائق. وتهدف السينما البازولينية إلى تحرير كل ما كان فيه من اللا عقلاني، والحلمي، والأصلي والفظ والذي كانت سينما النثر ستهمله».
وتفسر «تحول الانتباه هنا عن الحكاية لتعميق الكثافة الشعرية. فلا يبحث الفيلم عندئذ عن الشفافية الطبيعانية، ولكنه يتميز بتفرده الشكلي وبسمك علاماته وبلغة الشعر التي ينتبه فيها المرء للكاميرا، وهي الصيغة التي استعادها المخرج جان كلود بيت بعد خمسين عاما في ما هو المخرج؟ عندما أكد أن الشعر يعلن عن نفسه عبر غياب واضح للسلاسة. لن ننتهي أبدا من إحصاء مؤلفي السينما الذين يحلمون بتحرير أنفسهم من السيناريو، من أجل استكشاف الأعمال الدرامية الرقيقة بحرية وفقا لصيغة دامين مانيفيل، الذي يصعب بالفعل اختزال أفلامه إلى قصصها، فتستند إلى اختيارات شكلية فريدة (لقطات ثابتة) وعند سؤاله حول هذا الموضوع، اعترف المخرج الشاب بأنه يعتبر كتابة السيناريو خطوة مصطنعة وإكراها تمليه متطلبات الإنتاج».


بتاريخ : 12/08/2023