السينما من الوثائقي إلى الروائي

سؤال النوع: هل يمكن اعتبار الفيلم الوثائقي نوعا سينمائيا مستقلا بذاته؟

هل على الفيلم الوثائقي أن يكون سينما، خاضعا للفن السابع، وأن يحكي قصة جاذبة، وأن يفهم المتفرج ما يجري على الشاشة؟
يبدو أن الحديث عن الفيلم الوثائقي ليس بالأمر السهل، كما يعتقد الكثير من المهتمين، وأن وضعه الاعتباري لا يختلف عن الفيلم الروائي، على اعتبار أن التقابل التقليدي بينهما فيه حيف كثير، مع العلم أن كينونة المفهوم الأول لا تستقيم مباشرة بالتعريف بالضد (الفيلم الروائي/ الفيلم الوثائقي) ولا تطرح مسألة فصل الأنواع الفيلمية داخل الجنس السينمائي.
إن الحديث عن الفيلم الوثائقي لا ينفصل عن التقابل الثنائي بينه وبين الفيلم الروائي، وكأن مفهوم الأول لا يستقيم دون الثاني، مما يطرح مسألة الفصل بين الأنواع واحترام الحدود الفاصلة بين نوع وآخر.
معظم التعريفات الشائعة تصب في كون الفيلم الوثائقي يتحدث عن موضوع موجود أو سبق وجوده في الواقع، خارج الفيلم، وأنه بالإمكان التحقق من ذلك بطرائق أخرى غير الفيلم. ويرى الكثير من المهتمين أن مؤلف الفيلم الوثائقي لا يتعدى تسجيل الواقع دون أن يتدخل فيه، مما يجعل الفيلم انعكاسا خالصا للواقع،أي أن هذا الأخير يقدم نفسه مباشرة مما يجعل الموضوع مرجعا لذاته.
إن هذا التحديد المفاهيمي ليس حصريا على الوثائقي، بل يتعداه الى الروائي أيضا، وبالتالي يمكن اعتبار هذا الحد غير صارم وغير خالص للنوع الوثائقي، فكثيرة هي الأفلام الرواية التي أنشئت على أنقاض أحداث واقعية وتاريخية وشخصية.
(يكون موضوع الفيلم موجودا، أو له وجود خارج الفيلم، ويمكن التحقق من ذلك بطرائق أخرى) (1) انظر كتاب 200 كلمة مفتاح في نظرية السينما غارديس/ بيصالا1992 باريس ص 64
فهل يكون واقع موضوع الفيلم غائبا في النوع الروائي؟ هل يمكن التحقق من صدقية الموضوع فيهما معا؟
على العموم يبدو أن قانون القرب الإعلامي بتوجهاته الثمانية وبعلاقته المباشرة مع (المستجوبين) قد ألقى بظلاله على الفيلم الوثائقي خاصة ذلك الموجه للبث التلفزيوني.
على العموم يظل التصوير في جميع الحالات فعلا ذاتيا بامتياز، يصعب -إن لم نقل يستحيل- على المصور أن يتوارى خلف كاميرا التصوير، فعدسته تتجاوز هذا الواقع الموضوعي إلى تمثل ذاتي يعرض المرئي بنظارة خاصة تنتقي الموضوع من منطلق الاكراهات التقنية من جهة، وتقطع المعروض انطلاقا من تاريخ ذاتي للمصورمن جهة ثانية، وهو في الأصل عبارة عن وعي نسبي بالذات وبأدوات اشتغالها، الأمر الذي يأخذنا إلى مقولة الفيلسوف غاستون باشلار (أرى العالم كما أنا).
وهذا السياق المعرفي عام، يشمل الواقع المعروض كل أشكال التعبير السابقة على السينما أو اللاحقة بها.
كثير من الناس يخالون الفيلم الوثائقي مرادفا للواقع إن لم يكنه، متناسين أنه بالأحرى نتيجة علاقات بين الشخصية موضوع الفيلم وبين فريق التصوير وعوالم التصوير، أي أن الوثائقي لا يعكس الموضوع الخارجي، بقدر ما يصنع لنا فرجة تمزج بين التقني والفني إلى حد بعيد، أي أنه محبوك دراميا، ومتقطع تقنيا ومرسوم ذهنيا وفنيا، كما أن مرجعيته هي متخيل مؤلف الفيلم.
وفي هذا الإطار تتعالى صيحات بعض النقاد التي تغلب الجانب الجمالي على الفني، أي تغليب المستوى الأخلاقي الذي يرفض مبدأ المراوغة ولا يقبل إلا الصدق والنزاهة والحقيقة، وهي مفاهيم لا يعتد بها الفنان على العموم، هي أقرب إلى المباشرة والابتذال في أحيان كثيرة.
يظل النوع إذن  مفهوما صعب التحديد، ويراه النقاد ضرورة تستجيب إلى حاجة التصنيف،إلى اكراهات اجتماعية واقتصادية، رغم أنه مفهوم متغير، يظهر ويختفي ويتحول بعوامل مختلفة. و يمكن اعتبار هذا المفهوم محددا نظريا ونقديا، ينظم أفق انتظار المتلقين للعروض الفنية، بدلالات متعددة، تحيل كلها على نموذج، أو بنية نصية، أو وسم أو علامة.
يعتبر النوع لدى ريك ألتمان آلة داعية الى التفكير،وأن االمتفرج هو الذي يفكر. إن تحليل الأنواع السينمائية يرتبط بالسياق الذي أنتجت فيه الأفلام، من روابط وقطائع مع أخرى وبالمحيط الثقافي والسينمائي.
فهل يمكن اعتبار النوع السينمائي بمثابة حوار بين المخرج والمتفرج من خلال الفيلم، اعتمادا على مقاربة تداولية سيميائية؟ الجواب يجرنا إلى اعتبار الفيلم عموما حسب جوليا كريستيفا «فسيفساء تعاقدات وابداعات في نفس الآن». كل فيلم هو في الأصل علاقة توترية بين القواعد وبين الابداع، تشغل انتظارات المتلقي داخله دورا رياديا.
وإذا كان التأويل يقتضي تفاعلا بين قوانين النص الداخلية والخارجية، فإنه يتداعى إلى سياق التجربة التي يندرج داخلها الادراك الجمالي حسب بيرون برنارد (1995/ص83).
هذا الرأي يتناص مع مقولة مارتين جولي (2008/ص52) « لا يمكن أن ننظر إلى الأثر الفني كجدة مطلقة داخل بيداء من الأخبار، إن الأثر يتحدد دائما في علاقته بالتعاقدات النسبية للنوع، للشكل وللأسلوب».
فماذا عن تعدد المسميات: وثائقي روائي، وثائقي درامي، وثائقي اجتماعي، سينما مباشرة؟ هل يمتد هذا التعدد إلى تباين في الأشكال أو الطرائق السردية التي تكون علاقتها بالواقع في درجة صفر على حد تعبير رولان بارث؟ بمعنى أن الكاميرا تعرض الواقع المتخيل أو الواقعي وتتمثله ولا تكتفي بتقديمه كما يعتقد، لأن العرض الفني يتضمن التخييل الروائي أكثر من المحكي. فنحن لا نصور إلا لكي نعدل حسب جيل دولوز، أي بالمعنى المسخي للكلمة . فلا وجود لفيلم وثائقي يشذ عن البعد الروائي، فهو ينتقي من الواقع تفاصيل دون غيرها يراها أكثر دلالة ثم يحجب غيرها.
ويعتبر الكذب في هذا المجال صناعة ناجمة عن اختيارات بنيوية وأسلوبية، كما أن غياب خارج الحقل البصري من جهة، لا تعني الكذب وإنما غياب الإظهار الكلي للأشياء، علما أن التخيييل الروائي هو سلطة تنأى عن الواقع وترفضه، جاعلة مما هو مرجعي ابداعا جديدا (انظر الإستعارة الحية لبول ريكار منشورات لوسوي 1997)، هذا الكلام يحيل على جينيت الذي يقابل بين غاية التقديم الذي يستضمرالمقول كحقيقة، من جهة وبين الابداع أي المقول الذي يبتكر واقعا جديدا من جهة ثانية.
نستنتج مما سبق أن الفيلم الوثائقي هو صناعة واقع جديد انطلاقا من عوالم سردية ممكنة ومن عالم معتقدي من وجهة نظر سردية صارمة، لا تستطيع السينما في أقصى حالاتها إلا أن تنتج واقعا جديدا في إطار محكي قصصي، وأن تعيد إنتاج محكي واقعي داخل محكي وثائقي.
ألى يحق لنا بعد كل هذا الكلام، أن نعتبر المحكي الفيلمي عموما وثائقي بامتياز؟ ألى يعدو أن يكون تجاذبا بين انتاج وقائع جديدة وبين اعادة انتاج محكيات واقعية؟
تعود خصوصية الفيلم الوثائقي إلى أمرين هما القوة المحاكاتية أو الميمية والطاقة الترهينية (الوصف والإظهار)، ومرد هذا الإيهام بالواقع أو الواقعي إلى أن السينما حسب ميتز هي بنية أنثربولوجية أساسية، فضلا عن النزوع نحو الآليات السردية (حضور الزمن وقوة المحكي (ميتز وريكار)،فمن المسلم به أن الفيلم الوثائقي لا ينأى عن اكراهات الزمن، فمن يقول الزمن يقول الحكي، ولا تكون الزمنية انسانية إلا إذا كانت سردية، فهي لا زمة سينمائية .
من هذا المنظور يرى رولان بارث استحالة الانفلات من الحكي رغم التوهيم باللاسرد، علما أن الوصف هو وقفة سردية يكون سياقه ذريعة ونصا في نفس الآن (ريكار).
وفي النهاية نجزم بأن السينما لن تكون يوما فوتوغرافية، لأنها تمنح النظر مدة زمنية، وبفضل الزمن تصبح الصورة لقطة والمحكي روائيا.
وحسب جنييف جاكينو « الفيلم الوثائقي هو فيلم روائي، يختلف عن باقي الأفلام الروائية»، يتميز بطبيعة الفعل العرض والمتمثل لا بطبيعة الأشياء المنقولة، وينتهي إلى أن الاختلاف بينهما أنطولوجي(أثر الروائي/ أثرالواقعي) هو بصيغة أخرى قلب لهرمية المدلول والمرجع.
يظل الأول خالصا للمحكي التخييلي، يؤسس نظاما يكون المرجع في خدمة المدلول،بينما يؤسس الثاني نظاما سرديا، يكون المدلول في خدمة المرجع، ويطرد البعد التخييلي من منظومته بخلاف الأثر التخييلي.  من منظور سردي هناك تقابل بين الأثرين، مجرد قلب في استعمال المرجع، مع ايمان السينما الروائية بدال متخيل.

(*) باحث جامعي في قانون السمعي البصري


الكاتب : مصطفى بودواح (*)

  

بتاريخ : 03/08/2019