الشاعر أحمد لمسيح: المثقف انحاز لذاته ولتأملاته ولم يعد صدى لرغبات السياسي

الدارجة ولدتني والعربية رْبَّاتني

في إطار انفتاحه على كل التعبيرات الثقافية، خصص برنامج «مدارات» الذي يبث على أمواج الإذاعة الوطنية حلقته، للأسبوع الماضي، لرائد من رواد قصيدة الزجل المغربي أحمد لمسيح، الشاعر والكاتب الذي أسس لكتابته أفقا شعريا وكتابيا مغايرا يضاهي الشعر الفصيح، كتابة تصدر عن رؤية خاصة للحياة والوجود تصهر داخلها الحكمة والسخرية دون التفريط في أحد أهم روائز التجربة الزجلية المغربية، ونقصد به البعد الجمالي.

 

شاعر تهدهده لغتان

لما يفوق أربعة عقود، ومنذ رياح التي …ستأتي» إلى «بين وبين»، كتب الشاعر الزجال أحمد لمسيح بنفسه الشعري المتميز، وبعمق تجربته الزجلية، ناهلا من الموروث الثقافي العربي والإنساني لإغناء منجز يتغذى على أفكار مرجعية متنوعة وعلى مشاهدات بصرية، لتجديد قصيدته ولتشييد تخوم شعرية لم تطأها كتابة زجلية قبله.
إن كانت الفصحى أرض البدايات وحائط خربشاته الأولى، فإن عشقه للدارجة ورطه في غواية الكتابة بها، لتصبح تلك المغامرة التي انطلقت لهوا بين اللغتين، عشقا لا تفسير له، قبل أن تتحول إلى مرافعة ودفاع عن هذه العامية التي كان ينظر إلى التعبير بها، إبداعا من درجة ثانية، ليخوض صاحب «شكون طرز الما» هذه الحرب الناعمة، رافعا أمام كل مشكك في إبداعيتها، أسلحتها المجازية والاستعارية القادرة على مضاهاة كل شعر يكتب بلغات العالم.
يعترف صاحب ديوان «رياح التي.. ستأتي» والذي شكل ثورة في الكتابة الزجلية بالمغرب كونه أول ديوان زجلي مغربي، بشأن مزاوجته في الكتابة بين الفصيح والزجلي، أنه جاء للزجل من الفصحى، موضحا أن تقنيات الكتابة تعلمها من الكتابة بالفصحى، ابتداء من شعراء الجاهلية إلى آخر شاعر يكتب بالعربية المعيارية، مجملا الأمر في جملة بيلغة: «الدراجة ولدتني والعربية رْبّاتني»، مشيرا إلى استثمار الذاكرة والموروث الشعبي والفصحى ما جعله يكتب الزجل، لكن بروح وماء القصيدة المكتوبة بالفصحى.

الشاعر والإيديولوجيا

بالعودة إلى أول دواوينه «رياح التي.. ستأتي»، يستحضر أحمد لمسيح المغامرات الإبداعية الزجلية في مغرب السبعينات، والتي انخرطت في الكتابة ليس كهم إبداعي، لكن كتكملة ورديف للعمل السياسي والنقابي والاجتماعي، لذا جاء انشغالها بما هو سياسي على حساب ما هو جمالي، قبل أن يتطور الأمر إلى إحساس بمسؤولية الحفر والاشتغال على هذه القصيدة، وعلى هذا المفترق، حاول لمسيح أن يجترح أفقا مغايرا لتجربته، نزع معه كل شوائب الإيديولوجيا التي علقت بالقصيدة الزجلية، بله الفصحى، وسجنتها في قفص المباشرة والنفس التحريضي ومشاعر الغضب التي جعلت الشعر ينكتب شعارا من أجل إرضاء المتلقي، حين كان الشاعر ينظر بنظارات الانتماء السياسي إلى الحياة والواقع. هكذا سينأى لمسيح بتجربته – دون أن يفرط في مبدأ الالتزام – إلى عوالم شعرية أكثر رحابة واستيعابا للشق الجمالي والإنساني الواسع، لائذا بنفسه منصتا لوشوشاتها وهي تصارحه:»توحشت راسي» ليبادلها النجوى بـ» كلام ضاوي».

ثيمة واحدة/ ديوان واحد

ولأن «سطر واحد لا يكفي»، اختار لمسيح وفي أفق تجريبي لافت، الاشتغال على الثيمة الواحدة في مرحلة متقدمة من تجربته ، أفق افتتحه مع ديوانه»شكون طرز الما»، الذي شكل إضافة نوعية في الزجل وفي الشعر المعاصر، كون قصائد الديوان كلها تنهض على ثيمة واحدة هي الماء، وفيها حوار مع الفيلسوف الحكيم زرادشت، وبنفس فلسفي جعلها موضوعا غير مطروق، قبلا، في الكتابة .. ومنذ هذا الديوان، أصبح الاختيار تقليدا، حتى يكون كل ديوان مختلفا عن سابقه في ما يشبه خارطة طريق وهو ما انتهجه مع ديوانه اللاحق «توهم أنك عشقت» الذي اشتغل فيه على ثيمة العشق من خلال رمزية الفراشة في كل التراث الإنساني، في ديوان بدا كأنه نص واحد مجزأ إلى خمسة أنفاس.

المثقف: مذاق الخذلان

في تعليقه على تراجع دور المثقف في النقاش العمومي ووسط تغلغل الفكر الشعبوي، اعترف لمسيح بأن شعورا بالخيبة والخسران يتقاسمه المثقفون اليوم، مؤكدا أن السياسي خذل المثقف، بعد أن اكتشف هذا الأخير أنه كان، في الغالب، مجرد وقود لتحريك الآلة التنظيمية، هو الذي ظل إلى حدود بداية التسعينات مساهما في النقاش العام بل وقوة اقتراحية فعالة. ولا يخفي صاحب «حريفات» وريحة لكلام» أن المثقف اليوم انحاز لذاته ولتأملاته ولم يعد صدى لرغبات السياسي، وهذا لا يعني أن المثقف تملص من مسؤوليته بل، فقط، اختلفت أولوياته وتحولت اهتماماته إلى انشغالات أخرى.
ويظل أحمد لمسيح، إلى ما شاء الله، في سهول الكلام، مشّاء، لا يتمنى الوصول يوما لأن الوصول في عُرْفِ الكتابة نهاية.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 11/11/2020