الشاعر والناقد عمر العسري لـ «الاتحاد الاثقافي»

المدينة تمنحني الشعر وتستجيب لأسئلتي الوجودية

لا شيء أفعله صباح كل يوم سوى الإنصات إلى الشّعر وهو يكبر فوق رأسي

 

 

عمر العسري، ناقد وشاعر مغربي وعضو اتحاد كتاب المغرب، صدرت له عدة دواوين شعرية نذكر منها : من أي جهة يأتي الصياد سنة 2017، يد لا ترسم الضباب سنة 2010، عندما يتخطاك الضوء سنة2009، ثم ديوان المقر الجديد لبائع الطيور سنة 2021، والذي انفتح من خلاله الشاعر عمر العسري على الأشياء والعناصر في وجودها الظاهر والمخبوء، حيث تبدت فيه الذات الشاعرة شغوفة بالتقاط المنسي في المدينة، وتمثل الحالات والوضعيات تبعا لرؤية تُعمق فردانية الإنسان المعاصر في الأمكنة المحتشدة، شعر ينم عن نظرة الشاعر المخترقة للتفاصيل، وعن وعي جاد بما يتطلبه الشعر الحديث من مواضيع تواكب الذوق الجمالي للإنسان المعاصر وتخاطبه بلغة سهلة بسيطة لا تخلو من الفخامة والجزالة والغرابة وبراعة الصياغة.
كما له عدة إصدارات نقدية، قناص الغرابة (دراسة في القصة القصيرة العربية المعاصرة سنة 2021)، القصة القصيرة المعاصرة الوعي والرؤية والتقنية سنة 2021، القصة والتجريب سنة 2019، أطياف في مرايا القصة سنة 2019، الفرشاة والتنين مصاحبات نقدية في الشعر المغربي المعاصر سنة 2009.
سيحدثنا عمر العسري في هذا الحوار عن تجربته الإبداعية في مجال الكتابة.

o o حين تكتب الشعر، هل تجد نفسك واقعا تحت تأثير تجربة شعرية ما؟

n n سأستعير من شاتوبريان قولته» الكاتب الأصيل ليس هو الذي لايقلد أحدا، بل هو الكاتب الذي لايمكن أن يقلده أحد» لأن كتابة الشعر مثل أسلوب حياة، فاهتمامي منصب على أسلوبي الذي يشبهني ويشعرني بالرضى على منجزي. بمعنى آخر، أن أكتب شعرا لابد أن أحيا بعضا منه، والبعض الآخر تتكفل به سلطة اللغة والحس الالتقاطي والبعد المعرفي. ليس من الضرورة أن أقرأ الشعر أو الأدب لأكتب نصا شعريا، وليس من اللازم أن أعيد صياغة النصوص على منوال سائد أو مهيمن. لأن الكتابة، على نحو أعم، ترفض الاستدراج وترحب بخرق السائد، وتراهن على التجديد والإزاحة والانزياح. فكل شعر كُتب على منوال سابق هو أشبه بمولود هرم منذ الولادة. وكل شعر بعيد عن الذات التي فكرت فيه هو اغتراب وتنصل من ذات حقيقية.
أحاول في كل تجربة شعرية أن أكون مغامرا في اختياراتي، لأن بها أراهن على القفز بين ضفتي نهر، ولكن في المقابل تحجز لي مقعدا مع الذين لايتبعون سبل الآخرين. الشاعر المغامر يتبع ثورة نفسه، وما يؤمن به من أفكار، وكل شعر بهذه الرؤية هو كتابة فارقة بامتياز حتى وإن كانت مقيمة في الضفاف الوحشية المهجورة.

o o هل تختار عناوين كتبك أثناء عملية الكتابة أم بعد الانتهاء؟

n n العنوان هو نص صغير يحيل على نص كبير كما قال جيرار جنيت، وهذا التعالق بينهما ليس بسيطا وإنما يقتضي حسن الاختيار، ورؤية استقرائية ملمة بالعناوين السابقة. لهذا، أرى أن العنوان الممتاز يستلزم الاختيار الدقيق الذي يدل على فكرة الكتاب الشعري أو النقدي، ويعكس محتواه. وغالبا ما يكون العنوان مرحلة نهائية يتوج بها النص والكتاب.
وقيمة العنوان أنه يحيل على فاعلية اللغة في التعبير والأداء، وقد يدل على شيء، ويحيل على علاقة الذات مع تاريخها. إنه اشتغال نمط من المعنى، وتحديد لمعاني آتية. العنوان إذن، ليس منفصلا عن نصه، وإنما يحوله، آنذاك ويبينه لنا.

o o كيف تعامل عمر العسري مع فكرة المدينة في ديوانه الشعري الجديد «المقر الجديد لبائع الطيور»؟

n n حين أغادر مقر إقامتي وأسير على الرصيف، وأعبر الشارع، أجدني أتأمل تفاصيل المدينة وهي أشياء قد تكون مألوفة للعامة وللزائرين، ولكن الميزة الخاصة لمن يصل إلى كنه هذه المعطيات سيجد أنها مفعمة بالمجاز والعجب والغرابة. المدينة قد تمنحني الشعر وتستجيب لأسئلتي الوجودية، فلم نعد أمام كيان عمراني ثابت، أو مجال حضاري عادي، بل الأمر يتعدى كل التوقعات والاحتمالات.
كل ليلة وأنا أقف أمام النافذة، في الطابق الثاني أو الخامس أو العاشر.. من مبنى سكناي أو غيره. أكتشف المدينة من جديد كمجموعة من الخلايا الحية والميتة، آلاف النوافذ المظلمة والمضاءة. وفي الداخل غرباء يهتمون بشؤونهم جيئة وذهابا. أحداث ووقائع تمُدني بقدر هائل من التفكير في المدينة شعرا، فلكل شاعر مدينته الخاصة به.
إن اندماجي في المدينة ليس اندماجا عاديا، وإنما يقترن بالبحث عن ذلك المزيج المتناقض من العزلة والانكشاف، فللوحدة في المدينة نكهتها الخاصة، وحيد ومحاط بملايين من البشر. قد يعتقد البعض أنها حالة منافية لقوانين الوجود وأسلوب الحياة، ولكن القرب المادي وحده لا يكفي لتبديد الشعور الداخلي بالعزلة. من هنا تتأتى شاعرية المدن بصفة عامة، وهذا الاستناد إلى المدينة له مسوغات كامنة في إشكالية كبرى؛ هل بإمكان المدن أن تتحول إلى أماكن وحيدة؟
أعتقد أن «المقر الجديد لبائع الطيور « قد عمق هذا التصور من زاوية كون المدينة في تفاصيلها أبلغ من الكتابة، لذلك لابد من التفكير في بدائل مدينة مستحيلة التحقق أو لم تتحقق بعد. وهذا لا ينفي أن المدينة الحقيقية غير مرئية أو غير حاضرة، بل متحققة وفق رؤية إيحائية صرفة.
«المقر الجديد لبائع الطيور» سبر تحليلي معمّق لحوار الشعر مع المدينة، وهو ليس حوار ا جديدا فهناك كبار الشعراء الذين عمقوا رؤيتهم من خلال استدعاء المدينة، أمثال: عزرا باوند، وسان جون بيرس، والبياتي، وأدونيس، والمجاطي، وخليل حاوي، وغيرهم. وقد ترجموا مفاهيم الفردانية الليبرالية والاستقلالية الذاتية والحرية، وطوّعوها في نصوصهم الشعرية.

o o يقال إن الإبداع هو انطلاق من الذات وتعبير عنها، كيف هي علاقة عمر العسري مع المدينة والمرأة، باعتبارهما وجهة لاحتضان هواجس الشاعر ومدعاة لقلقه؟

n n منذ القدم والكتابة محكومة بمبدأ المزدوج والتنوع داخل الوحدة الخطابية التي تؤطرها، فلم نقرأ نصوصا خارج هذا الأساس الكتابي، وحتى بإرجاعها إلى أبسط أشكال الكتابة نجد انفتاحا على الذات أو الأنا، ولذا، ففي الكتابة المعاصرة لا نرى الرؤية الشمولية فحسب، بل نعثر على الحد الأقصى من التنوع الذي يفسح المجال أمام مداخل عديدة. فالذاتي مكون أساسي في الكتابة، على أن الحد الأقصى للآخر المتحقق هو الابتكارات التي تصرف الكتابة عن ما هو غير متوقع.
الكاتب يتخذ من حياته مثالا، ومن حياة الآخرين شاهدا حجاجيا ووجوديا، وبين الحياتين يتحدث ويتذكر ويؤالف ويعيد الصياغة، غير أنه ليس منبوذا من بعض أشكال المشاركة الإنسانية، وإنما يتعرض لها لإبراز حجم مأساوية الوجود.
والكتابة الشعرية، بإرجاعها إلى أبسط أشكالها، هي ذات الشاعر وسيرته الشعرية في المكان، وإنه لتغيير كبير طارئ على الشعر بانتقاله من القصيدة الشاملة الملحمية، على حد تعبير أو كتافيو باث، إلى القصيدة العميقة المبهمة والمتعبة باليومي في آن.
لو افترضنا، الذاتي أو السيري أوالأوتوبيوغرافي في الكتابة هو استجلاء للعلاقة الملتبسة بين الكتابة والأنا، وفاعلية هذا الاستدعاء الذي لا يمكن إنكاره، لأن الكتابة ذاتية في مبدئها، ومفهوم الذات في الكتابة يتجاوز الجانب الشخصي أحيانا في بناء النص ليَعني بناء لغة إبداعية وخطاب فردي بطريقة مخصوصة إيقاعا وتركيبا، ومتخيلا ورؤى.
إن الكتابة بهذا التصور، تستثمر مفهوم السيري أي الجانب الشخصي من سيرة الكاتب وتـنْطِقُها ضميرا متكلما، أو بضمير الغائب..  حيث ينتهي المسار الخطي للكتابة إلى الانفتاح على أشكال التعبير والقول، وجعل الطرح الأجناسي سمة خطابية تفتح أفق المكتوب. وأيضا مدى استثمار السيرة الشخصية وعلامات الاسم الشخصي للكاتب كما في بعض الأحداث ومظاهر اليومي، أو الأماكن والمشاهد، الأشخاص والأوضاع في نسيجة نصية متعددة الإيحاءات والأيقونات الخطابية.
وينضاف إلى هذا اعتبار السرد في الشعر، أوالشعر في السرد مدخلا جماليا يكون حضورُه في تضاعيف النص، وطريقة في اكتشاف أمكنة وفواعل الصراع والتناقض، وأحكام الرؤية وحدود الانفعال ضمن نسق مخصوص بذات الكاتب. هو نسق اللغة الكتابة المنبثق من الإيقاع إذا كان شعرا والمتخيل الذي تتمثله بالأساس عن طريق الاستعارة والمجاز والتصوير الفني.
إن إعادةِ النظر في علاقة الكتابة بالذات عبر المشاهد الكبرى أوحتى التفاصيل الجزئية من خلال قصيدة، أو نص سردي.. هي بمثابة مسرحٍ تترجم وعيا استدعائيا للإشارات والعناصر السِّيريَةُ، ويُشكل الكاتب منها اللحظات، ويختلقُ بها الحالات والعوالم والرؤى، سواء المُدركة منها أو المفقودة. بوعيه وذاكرته وحواسه وأحاسيسه.
لقد اضطلعت الذات بمهمة مفصلية في بناء شخصية الكاتب المعاصر. استثمرها كما في النماذج العليا للكتابة العالمية، خاصه تلك التجارب الإنسانية التي وجهت الكتابة لقول وبوح جوانب من سيرة الذات، وهو ما وضع النصَ الإبداعي عند تخوم الحاضر في كل شيء تقريبًا. والطافح على كل اللغات والتعبيرات والأداءات. من هنا جاءت نماذج من الكتابات المعاصرة تنذر بخراب العالم وانتهاء الحياة، ومواجهة الفوضى، وأيضا ما يعرف بأدب الديستوبيا أوالمدينة الفاسدة، وهي كتابات لم تجد لها حيزا واضحا في ثقافتنا العربية المعاصرة، حتى يظل الحديث منصبا على نماذج الكتابات المعاصرة التي تنذر بخراب العالم.

o o كيف كانت المسافة بين تصورك للشعر وبين الكتابة الشعرية؟

n n لا مسافة بين التصور والكتابة، كلاهما يتعالقان على نحو غير قابل للفصل. فكل كتابة لا بد أن تخضع لرؤية وهي بمثابة نوع من الالتفات الذي يضمن للشاعر السير مجددا في طريق من خلال مسالك جديدة. وهذا السير يستلزم دليلا معرفيا ورؤية فنية.
لا فكاك للشعر من المعرفة والتصور القبلي، لأنه صناعة، ولكنها لا تستلزم قالبا، بل تقتضي خلق شيء جديد وخرق شيء قديم. المعرفة ذاتها لا تخلق شعرا، وإنما تبني شكلا جديدا للشعر إذا ما كانت منسجمة مع منطلقات الشاعر في مشغله الشعري.
ولعل المنطلق الذي أحاول إرساءه في كتاباتي ألا أميز بين التصور والكتابة، وإنما أنطلق من حالة بدئية معينة، أصوغ منها فكرة واضحة شديدة التوتر، بإمكانها أن تذيب التصور في الكتابة، وتقصي الاعتقاد بالكتابة الشعرية التلقائية الآلية التي اعتبرها السورياليون الطريقة الصحيحة للإبداع الفني.

o o أين يجد الكاتب عمر العسري مقره الإبداعي، هل في الشعر أم في النقد؟

n n لا أستطيع أن أفصل بين الشاعر والناقد إلا من زاوية الكتابة والنشر، وأعتقد أن الشاعر أول ناقد لشعره، فهو يمارس الكتابة وإعادة الكتابة على نحو نقد منجزه قبل أن يخرج للتداول والتلقي. والمسألة لا تتحدد عندي من كون الشعر غير النقد، أو الناقد غير الشاعر، بل الأشياء أحصرها فيما يوحد بينهما؛ لأن الكتابة الشعرية لا تخلو من رؤية معرفية وجمالية أعتبرها ترسانة نقدية قد يستهدي بها الشاعر في مشروعه الشعري، ويدافع عنها في آن. وشخصيا، أعتقد أن الشعر لا يصدر عن شاعر بسيط، وإنما يصدر عن شاعر يفكر، يسعى بمنجزه إلى ترجمة فكره الشعري، وتبويئه مراتب من التحقق والسمو. فلم يكن الشعراء يؤدون شعرهم من دون خلفية تؤطرهم، هذه الخلفية قد نسميها نقدا أو معرفة لأنها في حد ذاتها تقوي الكتابة الشعرية وتحررها في آن.

o o هل شعرت يوما بإغراء الكتابة بلغة أجنبية؟

n n كتاباتي الأولى كانت باللغة الفرنسية، وكنت في هذه البدايات أترجم مشاعري من خلال فقرات صغيرة، غير أنها لم تستمر لأنني كنت أفكر باللغة العربية ذاتها وكأنني أترجم فقط، وهذا لم يستهويني بقدر ما علمني كيف أفصل بين لغتين مختلفتين، وكل واحدة تقتضي مزاجا خاصا، سواء على مستوى التركيب أو المعجم أو الأداء. وكانت هذه التجربة مقرونة بمرحلة تعلم اللغة، وهو ما دفعني إلى إعادة قراءة نصوص سردية وشعرية بلغة موليير. وحينها اكتسبت أشياء كثيرة.

o o هل يمكن أن تتذكر لحظة بعينها قررت فيها أن تصبح شاعرا؟

n n من الصعب تحديد البدايات؛ لأنها كانت مقرونة بعدة أشياء ساهمت بشكل أو بآخر في أن أكتب قصيدتي الأولى، لكن الذي أتذكره جيدا أنني كنت لا شيء أفعله صباح كل يوم، سوى الإنصات إلى الشّعر في كل شيء، وهو يكبر فوق رأسي تارة، ويصغر تارات عديدة. أقرأ بانتظام، وأحاول أن أقنع نفسي أن ما قرأته شعرا. قد يبدو الأمر بسيطًا، ولكنه أشبه بحكم قاسي جدا. أقرأ دون أن أميز بين الأجناس الكتابية، وأحاول أن أقنع نفسي بأن الأدب تخييل ولا تهمني التصنيفات التعليمية. أكتب وأقرأ، وأنصت إلى أناي وسط حديقة فسيحة، أتردد على خزانة الحي في نهاية كل أسبوع، لأقرأ أي شيء بطعم الشعر، وكأن حلاوة الشعر كانت تتعقبني وأنا أترقبها.
كانت البداية مع الأدب الجيد، وأقصد في هذا المقام، الكتب العربية التراثية، التي علمتني الكثير عن الآخرين والحياة، ومنحتني لحظات جميلة من الراحة النفسية بعيداً عن صخب اليومي، وحين أفرغ من قراءتها أصير أفضل حتى أكتب نصا يقويني، وأهندس سعادتي بغاية مواجهة الوقائع والأحداث.

o o هل ترى أن الحافز الفكري الناجم عن مصاحبة الكاتب لغيره من الكتاب قادر على إنماء ملكة الكتابة والإبداع لدى الكاتب؟

n n أكيد، ولكن ليس مع كل من يمارس الكتابة، إذ اقتصرت علاقاتي الأدبية والثقافية والفنية مع قلة قليلة، ومن خلالها انفتحت على أساتذة في الشعر والنقد، وخبرت قيمة الوفاء لمن قرأت لهم وتعلمت من كتاباتهم الانفتاح أكثر على ثقافات أخرى. وفي هذه المرحلة بالضبط أنصتّ مليا إلى كتاب «بناة العالم» للكاتب ستيفان زفايغ، وكتابه الآخر « رجال وأقدار»، وكيف استعاد كتابات أساتذته في الأدب أمثال: دوستويفسكي، بالزاك، كلايست، هولدرلن وغيرهم. وخصص لهم احتفاء يبرز قيمة ما كتبوا.
مثل هذا الوفاء علمني أن الكاتب يحتاج، في مساره الكتابي، إلى قبيلة أدبية تنصت له وينصت إليها، وسير الكتاب حافلة بصداقاتهم مع كتاب آخرين، وفي هذا المقام تحضرنيالعلاقة التي جمعت بين غوثه وإيكرمان. هذا الأخير كان يتردد على منزل غوثه، لا يفعل شيئا سوى الإنصات وطرح بعض الأسئلة، وبعد وفاة غوثه، ألف إيكرمان كتابا مهما «محادثات مع غوثه» ومن يطلع على هذه المحادثات سيلحظ قيمة أدب وفكر غوثه.

o o كيف يستقبل الشاعر والناقد عمر العسري مباهج الإبداع الأدبي وإحباطاته؟

n n لا أنتظر من الإبداع شيئا حتى لا أصاب بخيبة الأمل. ما يهمني رأي الأصدقاء الكتاب والأصدقاء القراء، فيما أكتبه، فمجال الإبداع علمني أن أركز على أشياء أخرى، في مقدمتها الوصول إلى الأفكار الجديدة، لأن «الشاعر لا يطلب الإعجاب أبدا، بل يود أي يصدقه الآخرين» جان كوكتو. والصدق كامن في طبيعة الأداء والرؤية لا غير.

o o الفرار من الحياة اليومية هو طقس لكل مبدع، هل عمر العسري يخلق أيضا قطيعة مع العادات الطبيعية وقت الكتابة؟

n n لكل كاتب طقسه الكتابي الخاص به. وشخصيا، أكتب باستمرار وأسعى دائما إلى البحث ولا أستقر على يقين. فإذا كانت الكتابة تجمد الأشياء، فإن المشي يوثق الخطو والبصر، ويفتح أفق الكتابة نحو عناصرها القريبة. في الدار البيضاء أوطنجة أو مراكش… أتجول وأعمق فردانيتي كما عمقها سقراط في شوارع المدينة، وكما كان بوذا يسير في شمال الهند. وجاب يسوع جميع أنحاء فلسطين وآمن أن الإنسان ليس له مكان محدد ليستقر فيه. فالمشي هو طقس كتابي ووسيلة للتعبير بطريقة رمزية.. لا ينبغي أبدا تجميد التفكير، بل تحريكه ومغادرة منطقة الاستقرار الخاصة، والخروج لمقابلة المجهول والمعلوم في آن. يجب أن يكون الفكر دائما في حالة حركة. لهذا فأنا أمارس الشعر أثناء المشي ومن خلاله أعضد انتمائي لليومي. حقيقة.. المشي يساعدني على تنظيم الأفكار، وخلق إيحاء يقول لي دائما إن القصيدة أمامك قشرها مما تراه أو تسمعه.
وأعتقد أن المشي والتصوير والكتابة والتفكير.. هو شكل من أشكال اليقين الشعري، إنه ‏»نوع اليقين هو نوع اللعبة اللّغوية.» على حد تعبير فيتغنشتاين. لعبة لا تمل ولا تحد، يكفي أن يكون فيها الشاعر/اللاعب يتمتع بعين طوافة تلتقط وتقيد الملتقطات على نحو يزيد من شاعريتها. لقد وصل الوضع الوجودي بالشاعر أن يبهر الحياة بعطاياها الاعتباطية. أن يخلق عناء تخييليا غير مهادن. «إننا لنعاني في مخيلتنا أكثر أحيانا مما نعاني في واقعنا « كما قال سينيكا. على الشاعر أن يكتب ولا يطلب الإعجاب، أن يكتب ولا ينتظر أن يصدقه الآخرين. أن يقول شعرا يشبهه ويتماهى مع وضعه.


الكاتب : حاورته: كريمة كربيطو

  

بتاريخ : 05/08/2022