الشخصيات السينمائية التباس البنية والبناء

يبدو أن السينما في بحثها عن النموذج و الكائن القابل للأفلمة بالكثير من الإقناع، بلورت كل المفاهيم حول الشخصية من مرجعيات مختلفة فلسفية، سيكولوجية واجتماعية، لخلق كائن درامي تتفاعل فيه كل الأبعاد – الشخصية الدرامية- كشخصية تتخلى عن روحها الواقعية وسلوكها الطبيعي و العادي في الواقع، لتلبس كينونة جديدة مسيرة بفعل قوة الفكرة الدرامية التي تشتغل عليها،و التي تكتسب من خلالها روحا جديدة بفعل الوضعيات و الشروط التي توضع فيها،إننا أمام عملية خلق جديدة لشخصية «عرفها علي أبو شادي « بالقول: (هي و سيلة الكاتب لتحويل الأحداث إلى حركة و فعل، فالشخصيات السينمائية هي بما تقول و ما تفعل، بما تظهر وما تخفي، بما تلبس وبما تستخدم من أشياء، بما يظطرم داخليا فيها من عواطف و أفكار و أحلام….)، تحدد هذه الصفات مجتمعة النموذج الذي يلغي ذات الشخصية الواقعية – الممثل – لتصنعه كمادة خامة بدوافع و سلوكات وأقوال ضمن آلة الاختيارات الدرامية التي تؤثر في نظام الأشياء كواقع حتمي يفرضه البناء السردي، لا نستثني من هذا القول حتى أفلام النجوم التي تفصل على مقاسات ممثل معين، لأن أصحابها من كتاب ومخرجين غير مستعدين للتفريط في سلطاتهم أمام سلطة النجم، من خلال التدخل في إعادة البناء و الخلق لشخصية جديدة متعددة الأبعاد، و كل خلل في بنية الشخصية السينمائية و بنائها يولد تشويشا أثناء تلقي الشخصية على أنها على الأقل شبيهة بالشخصية الحقيقية، مقنعة في تدبيرها للأحداث، لذلك كان «سيد فيلد» احد المنظرين للسيناريو السينمائي يِؤكد على أن الشخصية السينمائية هي أساس السيناريو التي يجب معرفتها قبل البداية في الكتابة ملتحفا بشعار (إعرف شخصيتك).

لقد اعتبر البعض بأن مسألة خلق الشخصية الدرامية برمتها عموما في كل الكتابات السردية مسألة غامضة، بل لعلها أشد غموضا لأنها عملية لا ضابط لها ولا مرجع يرجع إليه، فهي عملية لا يمكن الاستناد فيها إلى النصوص و المستندات، كما أنها تستعصي على التعريف الدقيق و المضبوط، ما يؤكد هذا الطرح هو أنه و بالرغم من كون استلهام الشخصيات من الواقع قد يسهل خلق الشخصيات، إلا ان ذلك لا يعفي الكاتب من التدخل لرسم ملامح جديدة لها لتصبح شخصيات سردية – درامية -، لقد كان «دستوفسكي» مولعا في خلق شخصياته انطلاقا من الواقع معبرا
على ذلك بالقول (كنت مولعا بأن ألاحظ السائرين في الشارع، و أتأمل سحناتهم المجهولة، وأبحث عن من هم،و أتخيل كيف يحبون و ما يمكن أن يكون مثار اهتماماتهم في الوجود)، لا يعني هذا أن استلهام الشخصيات من الواقع هو استنساخ لها، بل هو عملية إجرائية لانتقاء أبرز هذه الشخصيات على البلورة، قبل الإضافات الضرورية لأبعادها لجعلها منطقية دراميا مع ذاتها و منسجمة مع الأحداث.
لقد وصل الاختلاف عند كتاب النصوص السينمائية حد التناقض حول الأساسي و المهيمن في بناء سردي سينمائي متكامل وبدون هفوات، وحول ما مدى التفاعل بين الفكرة و الشخصيات التي تتحمل مهمة تمريرها، من منطلق السؤال حول من له الأسبقية في بنا الموضوع، فهل تحديد الشخصية و حاجتها يولد بشكل أوتوماتيكي الفكرة كما نجد عند «سيد فيلد»، أم الأسبقية لإيجاد الفكرة ثم البحث عن الشخصيات الملائمة لتمثلها و تمثيلها، على اعتبار أن خلق الفكرة أولا يولد بالحتمية الدرامية الشخصيات لتأتي فيما بعد القصة بكاملها، هذا ما يرفضه البعض باعتباره نسقا تقليديا في البناء والذي يفضي إلى تحويل الشخصيات لمجرد كراكيز مدفوعة في أفعالها وأقوالها بقوة كاتبها ومسلوبة من كل مسؤولية،و من ثمة تصبح الشخصيات اضعف من الفكرة، يبدو إدن صعوبة توازن أطراف هذه المعادلة، وهي الصعوبة ذاتها التي تتكيف بشكل مشابه حتى في الحديث فقط عن طريقة خلق و بناء الشخصية السينمائية، فإذا كان «ارسطو» يرى بأنه (من خلال المواصفات والأبعاد التي تحدد الشخصية، لكن من خلال الفعل يمكن أن تكون سعيدة أو شقية) معتبرا بذلك الفعل هو الشخصية، فإن «رولاند بارت» لم يستسغ هذا المبدأ الأرسطي لبناء الشخصية منتقدا إياه بالقول (إن مبدأ الشخصية عند ارسطو ثانوي وهو تابع كليا لمبدأ الفعل، إن الشخصية لا تغدو أن تكون إلا إسما في البداية تأخذ مكونتها السيكولوجية وتصبح فردا و كائنا حتى و إن لم تفعل شيئا في البداية ولم تبدي أي رد فعل).
لقد التحف العديد من كتاب النصوص السينمائية بنظرية أرسطو من خلال مبدأ السياق يتبعه المضمون وذلك أثناء خلق وبناء الشخصية السينمائية، و ذلك بتحديد أولا حاجتها الشخصية ، سيرتها و أبعادها – سيكولوجية، اجتماعية ونفسية – ليتولد بعد ذلك المضمون أي وجهة نظر و الموقف والسلوك، مع ترك كل المساحات لهذه الشخصية للتحرك من خلال سير الأحداث، ولتتعلم في إطار السرد مثلما يتعلمه المشاهد تماما، مؤمنا بكبح كل محاولة لتجاوز الشخصية لكاتبها مادام قادرا الاختيار في توجيهها كلما اقتضى الأمر ذلك، وهو ما ينص عليه بشكل صريح «أحمد ماهر فهيم» في كتابه « الحلقة الدرامية لكتابة السيناريو بالقول (إن الإنسان إد يخلق الشخصية، يجب تركها تسير إلى قدرها المقدور،لأن ما يصدر عنها هو النتيجة المنطقية لخلقها و فطرتها التي فطرت عليها).
إن مبدأ الفعل هو الشخصية هذا قد يكون مناسبا للشخصيات البسيطة والمسطحة التي تمثل صفة واحدة أو عاطفة واحدة، اي شخصيات أحادية البعد والتي لا تصلح إلا للأدوار الثانوية، لكنه قد يفقد الكاتب السيطرة على الشخصيات الدرامية التي تتميز بثراء داخلي و ثراء خارجي، وتمتاز بالتفرد والخصوصية، وتمتلك عدة أبعاد يتفاعل فيها الخاص والعام، لقد كان «هتشكوك» وبالرغم من تفضيله للوضعيات القوية لأنها تسهل في تحويلها إلى شئ مرئي، يخشى من فقدان السيطرة على شخصياته ودفعه إلى الاتجاه الذي تريده بالقول (لا أريد أن أطيع).
لقد نجح «هتشكوك» في إدماج شخصياته بوضعيات قوية، دون أن تتحرك وتتفاعل هذه الشخصيات وفق ما يمليه عليها الإخراج، اعتمادا على حقنها بالشحنات السيكولوجية المناسبة للوضعيات التي توضع فيها، كبعد هام للفعل، وهو ما عرض بعض أفلامه للنقد على اعتبار ان الزيادة في جرعة البعد النفسي – السيكولوجي- عند الشخصيات يعطل الحركة الدرامية ويجعلها في لحظات من لحظات السرد مملة رغم فلسفة التشويق التي كان ينهجها، لأنه وكما يطرح البعض لا يمكن التصور بشكل منفصل من جهة الأحداث التي تكون القصة ومن جهة أخرى سلوكات الأشخاص، ما يفيد في نظرهم بأن أبعاد الشخصية و فعلها مرتبطان بشكل غير قابل للفصل نهائيا، لأن أساس الإقناع بالشخصية هي التطابق بين السلوكات والأبعاد والفعل، وكل خلل في موازنة مكونات ذلك التطابق تنتج إما شخصيات عرائس تنقل على لسانها ما يريد السارد قوله، أو شخصيات مبالغة في فعلها و أقوالها، او شخصيات تتصرف بنوع من البلاهة.
نعرف ان الشخصيات في الحياة العادية غير متشابهة، وما يفرق بينها هي مجموعة من الجزئيات التي تكون المظهر والسلوك لتكتسب من خلالها صفة التفرد، وهذا ما تحاول السينما أن تستلهمه حينما تركز على أبعاد الشخصية و خصوصياتها لتحدد مستلزمات فعلها، ليس فقط فيما يظهر بصريا أو يسمع لها، بل أيضا ما هو مخفي من حياتها ، كجزء من ذكرياتها الشخصية، أي تلك الأشياء التي لا يعرضها الفيلم و لا نراها، ولكن نرى انعكاساتها، و هو ما يصطلح عليه بالأبعاد الداخلية التي تؤلف الشخصية منذ الولادة حتى بداية الفيلم ( الإسم، الجنس، الانتماء الاجتماعي، التركيبة النفسية ….)، هذه الأبعاد التي يمكن للمتلقي استنباطها ذهنيا، ما لم يحصل تضارب بين الأبعاد الداخلية و الخارجية كأن ينمح دورا معينا للمثل لا ينسجم مظهريا مع نوعية الفيلم ،خصوصا و أن المتلقي يشاهد الفيلم بثمثلات مسبقة عن الشخصية النموذج لكل نوع، سواء كانت هذه التمثلات مكتسبة من ثقافة مجتمعه، أو مكتسبة عن طريق تربية السينما السائدة له، وفي جميع الحالات فحكمه عن مصداقية الشخصية السينمائية يتم من مقاربته بشخصيات مجتمعه الواقعية، أو من قياسه على النمطي في أفلام سابقة، علما أنه وفي كل الحالات ليست كل شخصية واقعية قد تصلح لأن تكون شخصية سينمائية، فالشخصية السينمائية لابد و أن تكون غنية دراميا، ودوافعها في إطار السرد منطقية ومقنعة، سواء كانت هذه الشخصية نمطية – تعبر عن الجماعة و ليس على نفسها – او شخصية نموذج- تمثل نفسها لا غير- و المخرج السينمائي يدرك قبل غيره انه محكوم بالبرهنة على فعل الشخصيات بدل الوصف لأنه يحكي بصريا، ومتانة هذا البرهان و حبكته هو ما يميز بين شخصيات فيلمية و أخرى، لدرج على ان الحكم على الفيلم مرهونة قبل الحكم على موضوعه و إخراجه بالحكم على مدى الاقتناع بشخصياته، مما يفيد بأن التعبير عن الشخصية سينمائيا يجب أن يتم من خلال فعل منظور سواء ظاهريا – اللباس – طريقة المشي – بعض الصفات الخاصة……- أو باطنيا من خلال الأفعال أو ردود الأفعال التي يتفاعل بها مع الشخصيات الأخرى، او حتى حواريا من خلال اللغة التي يستعملها لأنها تحيل ضمنيا إلى وضعه السوسيو ثقافي، بل أيضا حتى ما تفكر فيه الشخصيات مع نفسها باستعمال الصوت الداخليvoff عكس الروائي الذي يحيلك إلى ما تفكر فيه، حتى وإن كان البعض يعتبر أن توظيف هذه التقنية يعتبر تشوها سينمائيا لأنها تعطي الانطباع بأن الشخصيات تسلم دون قيد أسرارها للمتلقي، إلا أن استعمال هذه الخفايا الداخلية و كما يرى «ميشيل شيون» (يمكن أن تكون وسيلة درامية ناجعة لبنية السرد، وأن بدونها يبقي الفهم عسيرا).
يمزج الفيلم السينمائي بين شخصيات متعددة الوظائف و المراتب من حيث أهميتها في بنية السرد سواء من خلال أدوارها أو مدة ظهورها على الشاشة، نعلم أن بنية السرد السينمائي موضوعاتيا تتأسس على ثنائية جدلية الفعل و رد الفعل كمولد للتطور الحركة الدرامية و الدفع بها إلى الأمام من منطلق أن الصراع هو جوهر الدراما وأن لا دراما بدون صراع لأنه و كما يقول أرسطو( ينزل منها منزلة الروح من الجسد)، وتحقيق ذلك يقتضي و جود حوامل (شخصيات) تحمل الوضعيات و لها نفس الاستمرارية في الشريط يصطلح عليها شخصيات مركزية أو رئيسة، وشخصيات تؤثث الأحداث دون امتلاكها لأية سلطة فعلية، و تساهم في تحريكها دون أن تصبح مهيمنة وتسمى شخصيات ثانوية، عكس الشخصيات الرئيسية التي تنعش الحركة من خلال صراع الفكرة (البطل) و نقيضها (الخصم) الذي له القدرة على قلب نظام الأشياء، إن ثنائية البطل/ الخصم هما فكرتين متناقضتين و ليس مجرد شخصيتين برغبات ذاتية محضة، فالمهم هو تحقيق الفكرة حتى بنفي الشخصية المركزية من أجل إشباع رغبات المتلقي الداخلية.
لقد كان «بييرجين» يؤكد على ضرورة وجود شخصية مركزية واحدة بنفس القدر على تأكيده بوجود فرضية رئيسية واحدة «التيمة المركزية» وذلك من اجل ضمان وحدة الموضوع، لأنه كان يرى أن الشخصيات لا تولد في العمل الدرامي بالصدفة، ولا تخلق بشكل متفرق لتلتقي بالصدفة، ولكنها نتيجة خلية واحدة للعمل الدرامي، وهو ما يخالف قناعة من يعتقدون بأن وحدة الموضوع لا تأتي من وجود شخصية مركزية واحدة، بل وحدة الفكرة، من مثل herman الذي يعتقد بإمكانيات و جود شخصيات مركزية متعددة شريطة أن تظهر كل شخصية مع أخرى في مشهد واحد على الأقل.
على سبيل الملاحظة نخلص إلى أن خلق وبناء الشخصية يخضع لمنطق لطبيعة الموضوع، والوظائف التي يجب من خلالها عن الممثل الذي لو كانت تلك الشخصية واقعية لكانت هو نفسه، حتى وإن اقترض من المخرج محتويات سيكولوجية وسوسيولوجية وفي بعض الحالات فيزيولوجية – تدخل الماكياج -، فالممثل بهذا المعنى قالب مطاطي قابل للتشكل ، او مادة خام قابلة للتصنيع بتدخل الموضوع و الكاميرا على حد سواء، فالكاميرا تنفي ذات الممثل و على الممثل أن يصبح والشخصية كائنا واحدا بالبحث على أعلى مرحلة من مراحل الاندماج بنسيان حقيقته في الواقع، لكن دون السقوط في التنميط الذي يلازم بعض الممثلين و يعتقل مواهبهم في ادوار محدودة، وقدرة الممثل على تحرير نفسه من النمطية هو ما يسمح بالمفاضلة بين ممثل و آخر.


الكاتب : عبد الجليل لبويري

  

بتاريخ : 21/12/2019