الشعر عبور إلى ضفاف الهوية

لا يزال عشقه المتقد للكلمة يدور دورة الريح ويرتد الى داخله، يرشح ألوانا ويتفتح زهورا وزغاريد تصدح إنشادا وقصائد، نمقتها أصوات ثرة لثلة من عاشقي فن الملحون مثل الشاعر والمنشد محمد الحضري أو سعيد كنون أو عائشة سهوم أو البشير الخضار، الذين عشقوا عطاءه السخي وما له من فيض دواوين نظمية تحمل بين طياتها الحب والحلم وتسيح في عوالم رموز أسطورية ملحونية، فمنحوا أشعارها نكهة سمعية مثل „ديوان الحراز» ، أو ماجاد به من «كلام مطرز «، أو منحه الخيال رخصة السياحة في «شرق و لا غرب»، وتغزلاته في «خال وشامة»، أو إطلاقه عنان « الطير الحر»، لتصل بالحلم إلى رقمها الحادي عشر مثل عدد كواكب حلم يوسف، «روح الروح».
كل هذا كان يسير كما تسير أعمال الزجال العربي عيشان الحالية، التي قيد النشر ، على خط رفيع يتكئ على البساطة في إيصال الكلمة المشفوعة بذلك الهيام بالخلق والغور في عباب ألوان المحكيات، فشغفه بسبر سر الكلمة يجعله يسعى خلفها يحث الخطو في إثرها ، يسأل، يتقصي، ويستفسرعن مكنونات العبارة حتى وإن وصلت دواوينه رقما مطلسما الحادي عشر. متعلم يقرع أبواب من سبقوه وشاخوا في الكلام . إنه في علاقة متواصلة مع هويته المغربية رغم إقامته في مدينة هانوفر الألمانية منذ عشرات السنين . يكتب أشعاره لأبناء وطنه ويشارك مواطني بلد إقامته خواطره الشعرية وأحاسيسه الذاتية كحوار ثقافي وهمزة وصل إنساني بين عالمين . يمد نفسه جسرا بين وطنين، يقارب بينهما على بعدهما بآلاف الاميال، وبين ثقافتين تجمعهما الالحان والكلمات الملقاة والمغناة. فذلك الحنين المتغلغل في جذورالوطن حاضر بكل تجلياته في رحيل عيشان وإقامته، يعبرعنه بلغة قلما يقال عنها لغة المناجاة أو لغة الحلم بتربة مسقط رأسه مراكش وهواء المتوسط والاطلسي وصدى جبال الاطلس. فحياة الهجرة لم تحل بينه وبين هذا الحب ولم تجد محاولاتها في صده عن هيامه به، بل حولته من ذلك المهاجر المنساب مع تعاقب الزمن إلى معبرعن انتمائه والرجوع الى مضارب أهله ومرتع طفولته، بلغة الرمز والتلميح تارة والتصريح تارة أخرى.
لقد جاء عيشان إلى ألمانيا كغيره ليعيش حاضره، فخلق لنفسه ماضيا ولعشاق أشعارة عالما يقارب فيه الذاتي والمتخيل، عبر أداة شعرية موغلة في إرث فني قديم، تبلور في أشكال وأدوار لحن العبارة فسمي ملحونا، الذي مكنه من الاعتصام بحبل هذه الهوية، التي شكلت توجها ورهان وجود، مدثر بشوق العودة الى الرحم، الوطن بكل قسماته بمائه وهوائه بظله وبحرارته بصوره الواقعية والمتخيلة، التي تأخذ حيزا أسطوريا في ذهن المهاجر، فتغرقه في أحلام يقظة و إحساس متجدد، لتأخذ هيكل هوية ملازمة في الحل والترحال. فما انتهى عيشان من الإصرارعلى التمسك بهذه الهوية وما انتهت الهوية من قض مضجعه وحثه على استنفار شعوره بأشعاره الزجلية، التي يحيي بها رميم الضياع في دوامة الاغتراب. إن الحياة في غربة عاصمة ولاية ساكسونيا السفلى هانوفر منذ سنة 1972 ، لم تجعل من عيشان شاعرا فقط، بل عاشقا للغة اليومية المغربية ولوقائع وتاريخ وأساطير هذه اللغة، سواء الفصحى منها أو العامية. فقد وجد ضالته للتعبيرعن كل هذا العشق في أدب الملحون. شاعر آمن بما يكتب وكتب ما يؤمن به . غير أنه لم يتوقف عند حد الايمان بما أبدعه، بل تخطاه للعمل من أجل تحقيقه فناضل من أجله بالمال وبالوقت ، قام بنشردواوينه ، تسويقها ومتابعة توزيعها ولم ينتظر حدوث معجزة من أحد الناشرين ، بل أخذ مصير أعماله بيده ، مترجما عشقه للجمال، للطبيعة و للكلمة المنتقاة الى اشواق فتح من خلالها لنفسه ولعشاق شعره كوة أطل منها في صقيع الغربة على عوالم دفء الوطن و الحنين الدائر مع عجلة الزمن» . (جريدة الاتحاد الاشتراكي 14.08.2015).

الوطن في الروح

لم تسرق الغربة بالعربي عيشان عما يدور في أرض الوطن، بل عانقت أشعاره همومه وعبرت عنها كحدث سلسلة انفجارات الدار البيضاء سنة 2003 بديوان «لا تمس بلدي „، كرد فعل وتعبيرعن حدث دفع ثمنه أربعون ضحية وبقي وشما في ذاكرة الايام . لقد عمل عيشان على أن يصل صوته مثل شعره الى الصحافة الالمانية «الصحافة الجديدة „، حين قال «لقد آلمني ذلك في الروح، أن يفعل المغاربة بآخرين شيئا من هذا.» فهذا السعي الشعري وهذه المجهودات لم تكتف بالتعامل مع الوسط الفني المغربي فحسب، بل تعدته الى الألماني ، حين حفزت قصيدته « يا ناس»، الموسيقي الالماني هولغا هيلم ليجعل منها أنشودة سماها « حماقات حب مغربية“ معبرا عن هذا التلاقح الفني بقوله: „انني أريد من خلال هذا التعامل مع قصيدة عيشان ترك بصمة الهدف منها هو الاعلان عن الموسيقى كعلامة للسلام، كرمز لتفاهم الشعوب… لأن الحب يعني السلام. وبدون سلام نحن جميعا لا شيء“.
لقد احتضنت الشاعر العربي عيشان مشاعر فنانين وكتاب، عبروا عنها بأقلامهم وكلماتهم التقديمية في مناسبات عديدة مثل توقيع ديوانه „روح الروح “ في ساحة جامع الفنا بمراكش بمناسبة اليوم العالمي للشعر وعيد الكتاب، حيث قام الحكواتي محمد باريز بقراءة قصائد من الديوان باأسلوب يمزج بين القراءة الشعرية والسرد الحكائي، أو بمناسبات تقديم دواوينه في رحاب مسرح محمد الخامس بالرباط ، حين أشاد بعطائه الفنان عبد المجيد فنيش أو الباحث محمد الراشق أو الشاعرة فتيحة النوحو أو الاعلامي الطاهر الطويل ، الذي قال بمناسبة تقديم ديوان „روح الروح“ : «عيشان يحاول الخروج بالصورة الشعرية عن المألوف والمعتاد والمبتذل، ليرقى بها إلى مصاف العبارات الشفافة الأصيلة التي تنضح بالمعاني والدلالات الجميلة، ساعيا إلى تأسيس تميزه الخاص عبر النهل من ذخيرة الفن الشعبي المغربي العريق الملحون… كما أن العربي عيشان يقترح علينا، في مجمل دواوينه، سفرا في الزمان والمكان إلى تلك البيئة المغربية العتيقة.»“
رحلة حياة بين وطنين وإحساسين تنتج «أفكارا غير متوقعة تقتحم أحيانا عليه خلوته، وهو منغمس في مهنته ، فتفرض عليه أن يتوقف عن عمله ليكتب ما أملته عليه اللحظة. „ كما كتبت الصحافية الالمانية كيردا فلنتين. فعيشان الشاعر الشعبي العفوي الذي لا يدعي أنه يتحكم في آليات الكتابة وإنما يؤمن بأن الشعر شعور يولد في لحظة ما ودون سابق إنذار :»إن ما أكتبه هو حالات وجد تفرض نفسها علي في لحظات إبداع تعتريني مثل نوبات جلجلة أو جنون ، نوبة كتابة تزورني أحيانا في هجير الليل، فأجد نفسي غارقا في خضمها دون طواعية أو توقف. „.

دروب عشقية

لشعر وعشق عيشان لهذا الفن „الملحون « توجه غير مألوف، فرغم سيره على درب من سبقوه من الشعراء في بحور ومواضيع هذا الفن الشعري المغاربي االقديم، مثل قصائد الغزل العشاقي: «إطراء الطبيعة، « النزاهة «، القصة الشعرية، «الحراز» ، الهجاء والخصومات « الشحط «، الهجاء وغيرها من المواضيع ، غير أنه اختار نوعا من القصيدة الأسطورية . لقد دأب شعراء الملحون على استقاء إلهامهم من رموز العشق العربي قيس وليلى وعنترة وأبي زيد الهلالي ، فشبهوا هيامهم بمعاناة هؤلاء فقالوا: « وما قاسى العبسي والهلالي»، أو «من قيس وارثو بعد فناه حب ليلى»غير أن عيشان لم يكتف بالاشارة الى هذه الرموز كنماذج للعشق والمعاناة، بل خلق لها حياة في أشعاره ، سيرة عشقية شعرية، تمثلت في قصيدة»قيس» حيث يشتكي فيها قيس للغسق آلامه وتيهه في ليلى، أو قصيدة «عنترة» التي يناجي فيها بطل بني عبس قدره الذي تلبسه في حبه لعبلة، بل تعدى رموز العشق الى استقاء محكيات الف ليلة وليلة من خلال قصيدة «شهرزاد» أ و قصيدة النبي «سليمان» التي يستحضر من خلالها حكاية طفل المرأتين والملك سليمان، التي وردت في التوراة واستقى منها الكاتب المسرحي الالماني بارتولد بريشت مسرحيته «دائرة الطباشير القوقازية» . يقول عيشان:
«كل وحدة تصيح وتقول هذا رضيعي ياهمام * عدل بينا بالحكام
جاوب سليمان شكون فيكم باتت ساهرة …. «
إن نظم الشعرعند عيشان ليس متعة كمالية بل هو ضرورة تربط الأحاسيس بالوطن وناسه وتؤكد هوية الانتماء، إنه يمنح خلق صور بعيدة بالمسافات، قريبة بالخيال والتصور والمناجاة لتعبر بها النفس عن حنينها ومعاناتها وفرحها المؤجل.


الكاتب : برلين: إدريس الجاي