الشّعــريـة (الأدبية)

5

نصّ رومان ياكبسون Jackobson على أنّ ما يجعلُ من الأدب أدبا ليس هو الأدبُ، وإنما الأدبيةُ، وليس الشّعر، وإنما الوظيفة الشعرية، ومعنى هذا أنّ موضوع الشعرية، ليس هو الأعمال المحقَّقة، وإنّما الأعمال المجرّدة. كما أن القواعد الجمالية الموجودة في نصٍّ ما، لا تمثل إلا جزءا منْ قواعدَ أخرى مُمكنة، فتغدو مُهمتها ليس الكشف عن المقولات النقدية المنجزة، ولكنِ ابتكار مقولات جديدة، فهي ليست فقط “نظرية عامة للأشكال الأدبية، ولكّنها تفجيرٌ للاحتمالات الممكنة للخطاب”، إنها لا تقف عند حدود ما هو مُنجز وظاهرٌ في البناء اللغوي للنص الأدبي، وإنّما تتجاوزه إلى سبْر ما هو خفيٌّ وضمنيّ.
تنزَع الشِّعرية إلى “الكشف عن القوانين الجمالية التي تسمح بالقبض على وحدة النصوص الإبداعية، وتنوّعِها في الوقت نفسِه، من خلال تحديد قواسم مشترَكةَ بين تلك القوانين، وتعيين لقاءاتٍ مُمكنةٍ بين المقولات الجمالية، التي تؤطر النّص الإبداعي”.
لذلك يرى “كثير من الشّعريين أنّ إعطاء تعريفٍ واحد وقارٍّ للشّعرية، أمرٌ صعبٌ”، وأنّ “موضوعها لمْ يتحدّدْ إلّا في بداية القرن العشرين، رغم إشارات القدماء إليها، شِعريةُ أرسطو، شِعرية الجُرجاني، شِعرية حازمٍ”.
فمصطلح الشّعرية قديمٌ حديثٌ “قديمٌ لأنّه اسْتُخدم لأوّل مرّة من قِبل أرسطو عنوانا لكتابه “بُويطيقا” أو “فنّ الشّعر”، كما اعتاد العرب على ترجمته”، فقد ظلتِ اللّحظَة الأرسطية مُهيمنةٌ في الدّراسات الأدبيّة لعهودٍ غيرِ يسيرة، لذلك “يمكننا الحديث في التفكير الشعري الغربيّ إلى حدودِ ما قبل القرنِ التّاسع عشر، عن نصٍّ مركزيّ، يُشكله فنّ الشّعر لأرسطو”، وقدِ اعتُبرتْ هذه اللّحظة الأرسطية “المحاولةَ الجِذرية الأولى، في إرساء المعرفة الأدبية وتقنينها، بناءً على فرْضيات مضبوطة”.
يكون بذلك أرسطو قد فتحَ “المجالَ على أسئلةٍ وأجوبةٍ، ترسمُ الحدودَ النظريةَ والميتافيزيقية، التي تبني النموذج Paradigme الذي يحكُم خُطاطة القضايا التي يمكن التفكير فيها، […] أي يضعُ العلم المعياريّ حسب تعبير ط، كوهن”.
وقد تأتّى لهذا النموذج الإغريقي المصوغ بدءا من أفلاطون ثم أرسطو، أنْ يتأسّس على نظريةٍ استمرت لعهودٍ طويلة، فيما عُرف بنظرية المُحاكاة، و”المُحاكاة عندَ أفلاطون هيَ تقليد النفس للآخرين”، لذلك كان ينبغي انتظار النجاح الباهر، الذي حققته اللّسانيات في دراستها للغة، وأثره البالغ في حقل الدراسات الأدبية والاجتماعية و الإنسانية بصفة عامة، ومنذ “الشكلانيين الروس، كان التلازم وثيقا بين اللسانيات والأدب”.
ومصطلح الشّعرية مصطلحٌ حديث، لأنه “اكتَسب دلالاتٍ جديدة، منذ مطلع هذا القرن ]القرن العشرون[، على أيدي الشكلانيين الروس، وممثّلي حلقة براغ”، فقد ظل طموح العِلمية يُراود المُشتغلين بالحقل الأدبيّ، طيلة القرن التاسع عشر، على غرار المكتسبات التي تمّ تحقيقها في مجال العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية، ورغم أننا نجد، أن هذا المنهج العلمي قد أريد له أن يقحم إقحاما في مجال النقد الأدبي، فإن هذه العملية قد ظلت حبيسة الإنجازات التي تحققت في علوم أخرى، لذلك “لم ينجحِ النقد العلميّ في تحديد موضوعه التحديد الملائم، الذي سيصبح أهم الهموم المركزية في الممارسات النقدية”،
ويعتقد كثير من الباحثين أنّ نظرية الأدب، لم ترَ النور إلا في القرن العشرين، وتحديدا في السنوات العشرة الأولى، بظهور حركة الشّكلانيين الروس، التي جعلت وُكدها تحديد الموضوع في الممارسات النقدية، وقد هيمنت على المراحل الأولى لهذه الحركة، تنظيراتُ الناقد “شكلوفسكي” Chklovsky فاعتُبر حينها النّص الأدبيّ، مُعطى منفصلا عن القارئ، ومعزولا عن السياق التاريخيّ، الذي هو جزء منه.
فالفضل الأكبر في التحديد الدقيق لمصطلح الشعرية، إنما يعود إلى الرواد من الشكلانيين الرّوس، الذين “نبّهوا إلى أنّ وظيفة النّقد، لا تتمثّل في الحديث عن الأدب، أو النّصوص الأدبية الفردية، بل عن أدبية هذه النصوص”، لذلك لم يهتمِ الشكلانيين الروس بالأدبِ، بل “انشدّوا وبهاجسٍ علميٍّ”، إلى تحديد موضوع الدرس الأدبي، وضرورة تعيين حدوده.
إلى جانب هذه المحاولات، الرامية إلى تحديد مفهوم الشعرية، نجد “تعريفا متداولا وشائعا هو أن الشّعرية، مجموعةٌ من القواعد الجمالية التي توجه الكاتب في عمله، أو هي مجموعة من الاختيارات المميزة التي يقوم بها الكاتب، بوعي أو بغير وعي، في نظام التأليف والأجناس والأسلوب والموضوعات.

مفهومُ الشّعرية عند ياكبسون R،Jackobson

اهتدى ياكبسون Jackobson، بعد مُشاركته الطّويلة مع الشكلانيين الروس، إلى أنّ “موضوعَ علمَ الأدب، ليس هو الأدب، و إنّما الأدبية، أيْ ما يجعلُ من علمٍ ما معطى أدبيا”، و أعاد صياغة الفكرة نفسها، في موضع آخر متسائلا: “ما هو الشيء الذي يجعل من رسالةٍ لغويةٍ ما، عملا فنيّا!
إنّ هذا السؤالَ الذي طرحَه ياكبسون Jackobson محاولةٌ للإجابة عن سؤالٍ واسع ومحيّر هو ما الأدب؟ فرغم عمومية السؤال، فإنّ ياكبسون Jackobson يرى أنّ الإجابة عنه هيَ الهدفُ الرّئيسُ من تحديدِ فنّ الشعر (يَرى ياكبسون أنّ الحُدود التي تفصلُ الشّعر عنْ غيره، أكثرُ تقلبا وتغيّرا منْ الحُدود الإدارية لأقاليم الصّين). ذلك أنّ الإمساك بجوانبه يسمحُ بالتّمييز بين الفنّ اللغويّ و الفنون الأخرى من جهة، وبينه وبينَ بقية وجوه الممارسة اللغوية من جهة ثانية.
ينطلق ياكبسون من أجلِ تحديد الهدف الرئيس للشّعرية، منَ التمييز بين الفن الكلاميّ والفنون الأخرى.
ولتحديد موقع الشّعرية منْ هذه الفنون الكلامية، يُذكّرنا بالعوامل الفنيّة التي تكون أساسَ التواصل اللفظيّ، فالباثّ يبعثُ رسالةً إلى المُتلقي، وكيْ تكون هذه الرسالة دالة وفعّالة، فإنّها تتطلب سِياقا تشير إليه، وقانونا مُشتركا بين الباثّ والمتلقّي، وأخيرا قناة الاتصال بين الباثّ و المتلقي الذي يسمح للطرفين بالتواصل و الاستمرار.
ووجود وظيفة من وظائف اللغة في حال التّواصل اللغوي، لا يعني انتفاء الوظائف الأخرى أو تواريها، وإنّما يعني هيمنة وظيفةٍ واحدة على الوظائف الأخرى، إلّا أنّ هذه الوظيفة تختلف من نصّ إلى آخر، اعتمادا على مفهوم القيمة المُهيمنة، وذلك للردّ على الذين يعتقدون أنّ الوظيفة الشّعرية لا توجد في حال الكلام العادي، الذي تُؤدّي فيه اللغةُ وظيفَتها الاجتماعية الأساسية، فإنّما تكون الوظيفة الأدبيّة حينَها في درجة الصّفر.
ومن جهة أخرى، يؤكد ياكبسون أنّ الوظيفة الشعرية، لا تقتصر على القول الشّعريّ، فهيَ توجد أيضا في أنواعٍ أخرى من فنونِ القول. ومنْ هنا فإنّ كلّ محاولة لحصر الوظيفة الشعرية في الشّعر، لم تُؤدّ إلّا إلى تبسيطٍ خادعٍ للأشياء، “فليستِ الوظيفة الشعرية، هي الوظيفة الوحيدة لفن اللغة، بل هي فقط وظيفته المهيمنة والمُحدّدة، مع أنها لا تلعب في الأنشطة اللفظية الأخرى سوى دورٍ تكميلي وعرضي”؛ ذلك أنّ “الشّعرية نفسَها ليست وقْفا على الشعر وحده، كما يذهبُ إلى ذلك ياكبسون، وهو يُحدّدها كفرعٍ من اللّسانيات، يَعني بالوظيفةِ الشّعرية في علاقتها بالوظائف الأخرى للغة، وهذه الوظيفة تهيمن في الشّعر، فيما تتقدم عليها وظائف أخرى للغة”.
لكنْ كيف يتم الإمساك بالوظيفة الشعرية في نصّ فنٍّ معيّن؟ أو ما المعيار اللّغويّ التّجريبيّ للوظيفة الشعرية عند ياكبسون؟
إذا كانت “اللغة العادية التي يُقصد منها التواصل، تَقلُّ فيها الطّاقة الشّعرية الناتجة عن الانزياحات، فإنّ اللّغة الشّعرية لا يمكن التّعبير عنها فقط بهذا الشّكل البسيط، فمع أنّ الشاعر يَخضع بالفعلِ في صناعة أسلوبه إلى القاموس اللغوي المُتداول، إلّا أنّه لا يَصنع لغته بالبساطةِ التي يتحدثُ بها الناس العاديون”، فهناك انزياحات مستمرة عن المعنى الأصلي للكلمات التي يستخدمها، كما أنّ التّركيبَ نفسَه يميلُ إلى خرقِ القواعد المألوفة. لهذا كلّه فإنّ ياكبسون Jackobson يرى أنّ الإمساك بالوظيفةِ الشّعرية في نصّ أدبيّ معيّن، لا يتم إلا بوضع قانونٍ عامّ للغة الشعرية.
ولتحقيق ذلك لجأ ياكبسون إلى المُنجزات اللّغوية الّتي حقّقها دو سوسير De Saussure ممثلةَ في مبدإ المِحورين: محور الاختيار sélection، ومحور التأليف combinaison، وداخل هذا التشابك تتحدد الوظيفة الشعرية.

مفهوم الشعرية
عند تودوروف

أًصّل تودوروف مفهومَ الشعرية، وتطرّق لهذا المفهوم في سائر مؤلفاته النقدية، حيث لا يكاد يخلو مؤلّفٌ من مؤلفاته، من توظيفٍ لهذا المُصطلح. فخصّص له كتابا سرعان ما ظهرت ترجمتُه العربية، كما خصّص كتابَه ” شعرية النثر”Poétique de la prose لدراسة الشعريات السردية الحديثة.
يرى تودوروف أنّ العمل الأدبي ليس هو فقط موضوعُ الشعرية، بل إنّ ما تسْتنطِقه الشّعرية هو خصائص هذا الخطابِ النوعي الذي هو الخطاب الأدبي، و يؤكّد أنّ هذا العلم، لا يُعنى بالأدب الحقيقيّ، بلْ بالأدب المُمكن، و بشكل محدّد فهو يُعنى بتلك الخصائص المجرّدة الّتي تَصنع فرادَة الحدثِ الأدبيّ، أيِ الأدبية.
لقد رَفض بُول فالري vallery الشّعرية، كمبادئَ وقواعد جمالية خاصّة بالشّعر، ومنْ رفضِه استلهم تودوروف شِعريّتَهُ، فربطها بالبُنى المُجرّدة للأدب، لا بالنّصوص.
وبالاستناد إلى آراء الشكلانيين الروس وتأويلات رومان ياكبسون، جاءتْ تنظيراتُ تودوروف لِتضع حدّا للتوازي القائم بين التّأويل والعِلم في حقلِ الدّراسات الأدبية وخلصَ إلى القولِ بأنّ العلاقة بين الشّعرية و التّأويل هي بامتيازٍ علاقةُ تكاملٍ.
يُقيم تودوروف حدّا فاصلا بين الشّعرية والتأّويل، ويعتبِر هذا التأويل هو الأعمال المفردة التي تُكوّنُ في مجموعها الأدبَ، بينما يُحدّد موضوعَ الشّعرية في القوانين العامة الّتي تتحكّم في وظيفة الأدب وأشكاله وتنويعاته.
غير أنّ ما يُركز عليه تودوروف هو حياديّة الشّعرية وطبيعتها المُحايثة التي تجعلها تُعنى بالبِنية اللّفظية للنّص، دون أنْ تَصرِف اهتماما لعمليةِ إنتاج النص أو تلقّيه. وينُصّ على أنّ “الشّعرية لا تتأسّسُ على النّصوص الأدبية بوصفها عيّنات فردية، وإنّما يتأسّسُ موضوعُها على المفهوم الإجرائيّ، أيْ أنّ شعريتَه تُريد أن تكونَ بنيويةً”.


الكاتب : عبد الحكيم البرنوصي

  

بتاريخ : 09/09/2022