الشّعْرُ خَارِجَ التَّأْوِيلِ قِرَاءَةٌ فِي دِيوَانِ « بِأَقَلِّ اكْثِرَاتِ مُمْكِنٍ» للشَّاعِرِ سَعِيدِ الْبَازِ

(1) نَاسِكُ الْعُزْلَةِ:

لن يختلف أحدٌ في كوْن الشاعر سعيد الباز من التّجارب الشّعرية، الّتي تختلِف عَن كتابات مُجايِليه، وتتباعد بمسافات إبداعية، مؤسّسة صوتها الشّعري بعيدة عن الاحتذاء، وقريبة من رؤى مصقولة بحرارة التّجربة، لذا جاء شعره مفارقاً ومُختلفا عمّا عهدْناه في الشّعر المغربي، شعْر له نُكْهَتُهُ وطزاجتُه الإبداعية والجمالية، وهذا يعود إلى قدْرة الشّاعر على إلباس الألفاظ دلالات تنماز بتمرّدها وانزياحها عن المعنى الثابت، وتحبلُ بمواصفات جديدة تتساوق مع سيرورة الكتابة الشّعرية وصيرورتها، ممّا يعطي للتّجربة أحقيتها في حياة الإبداع وجدواه. و عليه فسمات تجربته الشعرية تؤكّد على أن الشّاعر سعيد الباز يطرق طُرقاً عديدة في كتابة النّص الشّعري، الذي يجسّد تصوُّره ورؤيته للعالَم، وما عزلته واختياره الإقامة في الغياب إلا تعبيرٌ عن مهابة الشاعر أمام عظمة الإبداع وجلاله.
هذه العزلة التي يرعاها بأنفاس ناسكٍ متعبّد في محراب الكتابة و الوجود، يتأمّل كائناته اللغوية بعقل الفيلسوف وبصيرة الشّاعر، ناحتاً متخيّلاً شعريا روافده ذات غنى معرفيّ وشعريّ، جرّاء الانفتاح على ثقافة الآخر، عبْر الترجمة، التي يمارسها بمحبة ومعرفة أصيلة.
الشّاعر سعيد الباز بوهيميّ في الشّعر، وفي عشقه للغة الضاد، اجترح لتجربته الشعرية منحى جديداً في الكتابة، تميّز بالاستعمال المقتّر للغة؛والخالق للفجوات لتوريط القارئ في عملية التّأويل الفاعل والمنتج لأبعاد جديدة لخطاب شعري ينسج علاقات لامتناهية من التشابكات والتداخلات على مستوى المعنى والدلالة، ويؤسّس لأفق شعري مدبوغ بالمدهش والغريب والمحيّر ، و يبتدع عوالم تحتفي بلغة اليومي والمألوف في صياغة إبداعية تنتصر للغموض الشعري الشّفاف والمُبهر.

(2) شعرية الأشياء وهشاشة الكائن:

يمثّل ديوانه الأول «ضجر الموتى» تشكيلاً لهذه العزلة التي يشيّدها بهشاشة الكائن أمام سطوة الموت الرمزي في حياة تشرف على الهاوية، و تنقلب الألفاظ عن معناها السّطحي لتعلن عن ميلاد دلالي جديد يقول: «ألم أقل لك بعد/النائم بجوار النافذة/قد يشعرك/بأهمية أن تكون لك صور شخصية/ بمدخل الصالون/مطبخ واسع، وحياة بيتية/ وبضع ذكريات؟ / ألم أقل لك بعد/ أن مخمورا وعدميا مثلي/ قد لا تهمه ساعة تدق بلا جدوى/ في ليل الحيطان».
هكذا تقود اللّغة الشاعر إلى انتهاج طريقة في القول؛ فيها الكثير من ملامح الرفض والاستقالة من حياة عابثة و زمن أكثر عبثاً. والحياة مجرّد خواء تزينه التّفاهة والنّقصان، لهذا فالشّاعر يسعى إلى الامتلاء بشساعة الأفلاك وعوالم الاحتمالات، لذا يخلق حياة يكون للزمن فيها معنى وتأثيراً في صيرورة الكائن، وقُدرة على ابتداع العالَم بلغة قريبة من نبْض الحياة اليومية، منحوتة بمخيال شعريّ يُعيد الاعتبار إلى الأشياء التي تؤثث وجود الإنسان. والمنصت لِجَرْسِ المعجم الشّعري الموظّف في المقطع أعلاه يُدرك التّماهي القائم بين الذّات والحياة في صور إبداعية تثير العديد من الأسئلة والمفارقات (صور شخصية، الصالون، مطبخ، وحياة بيتية، ساعة، الحيطان…) إنها لغة الحياة النّاطقة بالبساطة والعفوية، غيْر أن هذا التّماهي يبطِّنُ و يحجب التّنافر القائم بين ما ترغب فيه الذات، وما تفرضه الحياة البيتية من رتابة وضجر، وإحساس بعبثيتها، ممّا يُحيل إلى عالم بارد وجامد تسعى الذّات إلى التحرّر منه لمعانقة حياة أخرى، مشمولة بالجمال والتّيه في أرباض الوجود.
ويمكن القول إن اللّغة الشعرية تخاطب الذات والفضاء والزمان، وتضيء العتمات التي طواها الصّمت واستبدّ بها النسيان، خالقاً كونا شعريا ميزته تجاوز الحي بالجامد، بالكائن والشيء، بالمكان الرتيب والزمان غير المجدي العبثي، وهذا يسلّط الضّياء على تجربة الشاعر و رؤيته للأشياء والعالَم، مما جعله يشيّد شعرية مابعد حداثية، حيث تفكيك الأشياء بلغة اليومي يمنح للخطاب الشعري جدارته،الأمر الذي «يمنح القصيدة عمقاً ويحفر لها مجرى في التاريخ»(1) ، ويضفي عليها مُسحة تجديدية على مستوى الكتابة الشعرية. بل إنّ الشّاعر بارعٌ في تشكيل عالمه الشعري بلغة الحياة والمتداول،استجابة منطقية لما يَعْتَوِرُ الذّات والوجود من تشظٍّ وتمزّقٍ جرّاء التغيّرات التي مسّت الكائن والكون، وتعبيرا عن موقفه الإبداعي تّجاه ما يروّج له من كتابات تفتقد لطراوة المعيش اليومي، متخيّل شعريّ يحْتفي بِمُتلاشيات هذه الحياة وتناقضاتها وباِلْمُهْمَل المنسيّ، فالزّمن لدى سعيد الباز ينحو إلى اللامعنى على أساس عدميته، ممّا يبئّر الدلالة ويفتح مسالك تأويلية تجنح صوْب اللانهائي يقول: ( صباح عدميّ/ مثل حجر في بئر الكون/ صباح ثملٌ/ بما يشبه ديناصورا في غرفة/ النّوم…» (اكتراث ممكن ص7)
فالشاعر في قصيدة» مايشبه ديناصورا في غرفة النوم» يعطي صورا تشبيهية قاسية للزمن، فالعدمية والإهمال والتعويذة والألم والتسكّع ومذراة حصاد صفات تصوّر عماء الزمن وتبيّن عبثيته، ممّا يفضي إلى القول إنّ الشاعر يبدع شعريته لزمن خارج زمن الكتابة، زمن شعري يُعيدُ الاعتبار للحياة في تجلياتها المختلفة، وبالتالي فإن فالكتابة الشعرية عنده «أقرب إلى فن التصوير» (2) ، وهذا لا يعني أن الشاعر يحاكي الواقع، وإنّما نقصد قدرته على التشكيل الشعري بأسلوب شعريّ يجمع المتنافرات اللفظية؛ لخلق عدول شعريّ أخّاذ أي انزياحات تخصّب اللغّة وتثوّرها، ويقوّض البُنى الجمالية القائمة واستبدال أخرى جديدةبها(3) ولابد من الإشارة إلى أن الأشياء والأسماء تحقّق شعريتها من هذا النّسج المحبوك بلغة مجازية، إذ تغدو المفردة الشعرية رمزا حابلاً بامتدادات في ذاكرة مابعد الحداثة ، ممّا أضفى على نصوصه هوية جديدة تتمثّل في جمالية الشيء والاسم، ذلك أن القبر يتحوّل إلى كائن يمارس لعبة المشي والمشاعر المدسوسة تصاب بالسّقوط والعبث يرتق ثقوب السّماء واليد تفكّر ، تراكيب تثير استفزاز المتلقي ذي الذائقة الكلاسية التي لم تتعوّد على مثل هذه الخروقات الإبداعية والجمالية في بنية الجملة الشعرية، لذا تتطلب هذه التشكيلات التعبيرية قارئا حاذقاً ومتيقّظاً يقول: ( القبر الذي يمشي مفتوحا/ هو أنت / والرّعشة الخفية/ التي سقطت من أعلى الثوب/ هي كذلك أنت / عبثٌ رتق ثقوب السّماء/ أو انتظار مرور الهواء / إلى الجهة الأخرى/ من رئة اليقين/ ذلك/ أنّ الأصابع/ هي التي ترقص مع الأموات/ فيما اليد تفكّر) . (ص13/14)
تبدو معالم القلْب جليّة في شعرية العدول، التي تسمح بممارسة الحفْر في المحجوب من الكلام، فالشاعر يلْعنُ الخواء العارم والمطوّق الإنسان والعالَم، عالم العبث واللاقيم، ويُدِينُ الخراب والموت بلغة مخاتلة وذلك»بإفراغ الكلمات من محتواها المألوف، واستئصالها من سياقها المعروف «(4) وشحنها بطاقة الخلْق والابتداع، فاليد، في سياق المقول الشعري،لم تعُد عضوا في الجسد، بل تمّ إسباغها بحمولة جديدة تتمثّل في التفكير،أي كائنا عاقلاً يُفكّر في تحويل العالم إلى مقبرة . وبالتالي تكتسب معنى سلبياً، وفي هذا « خرق المعقولات، وإعادة شحن الكلمات بمحمولات دلالية جديدة، ومن هنا كانت كتابة التجربة (المعيشة) بالصور والأساطير بدلا من التّأمّل فيها على مسافة من التّجريد» ‹(5) .
و ما يلفت الانتباه في هذه التجربة التّشكيل اللّغوي- كما ذكرنا سلفاً- الذي يخصّب الدلالة داخل النسيج النّصّي حيث «يبدو العالم عاريا مجرّدا من المعنى، أو حالة من سلب المعنى، لأن المعنى ينبع من صوت الإنسان ووعيه» (6). أعتقد أن هذا المقول يثبت ماتمّ تداوله: ( عندما أستفيق وحيدا في غرفة الذئب/ تنبت لي/ أنياب النّافذة/ ويتعالى الشّرر/ من خلف الدولاب/ وأرى من بعيد/ على حافة المشجب/ قمرا يتورى من هول المشهد/ أسراب الطيور الهائجة/ تكاد تلامس شراشف السرير/ حينها أشرع في العواء/ وشيئا فشيئا/ أتوغّل في الغابة (عوووووووووووووووووووو) ) ص16. إن غرائبية اللغة من غرائبية الواقع ومفارقاته، ذلك أن ثمة مشهد قيامي ودراميّ ساخر يطغى على الخطاب الشعري. فالبعد الدرامي السّاخر له حضوره اللافت في التّجربة الشعرية للشاعر ، لهذا عدّ عزالدين اسماعيل نزوع الشعر إلى التعبير الدرامي مؤشّراً من مؤشّرات جدّيّة التجربة وصدق الشاعر وكمال وعيه ودقّة تصوّره من نفسه ومن الحياة» (7)

(3) شِعْرِيَةُ التَّقْتِيرِ اللُّغَوِيِّ وَ التَّوْسِيعِ الدَّلَالِيِّ:

إن الشّاعر المنفرد العزْف يحرث أراضٍ شعرية لم يمسسها محراث اللغة و الخيال ، أراضٍ بِكْرٌ يروم الشاعر، بهذه اللغة العميقة والمنبثقة من تربة الحياة، التقاط الجليل والفاتن من واقع يتشكّل بالمقلوب، و بإيقاعات مصابة باختلال في العزف يقول : ( سأسوّي أفكاري كما يسوّي عازف القيثارة الأعمى أوتاره/ أنا في حاجة إلى لحن آخر/ وضوء ينبعث من ثقب النظّارة/ الظلمة تنهش منذ البارحة/ أصابعي المرتعشة / من قلّة العزف» هكذا تعزف الذات كورالاً شعريا على أوتار الأوجاع، كإحالة ضمنية على مكابداتها وقلقها وما يخفيه من أوجاع دفينة تّجاه العالَم الذي انقلب فيه إيقاع الحياة، فالشّاعر بموسيقاه النابعة من الجواني في تواشج مع البرّاني يُبدع نصيّة ذات وظيفة جمالية تعطي للخطاب الشعري أصالته الشعرية المتجلّية في هذا الإصغاء الهادئ لتموجات الذات في ارتباط مع ارتجاجات الواقع، إنها شعرية مولّدة لمغايرتها الإبداعية التي « هي كيمياء الفعل التي تحدث عنها رامبو، تلك الكيمياء التي تجتمع بفضلها داخل الجملة كلمات لا تجتمع من وجهة نظر المعايير الاستعمالية للغة» (8).
إن إيقاعية النّص لا تتحقّق إلا من خلال العلاقات التي تشكّلها الألفاظ ويعجنها خيال الشّاعر، بطربقة خارج التّأويل، غير أنها داخل منظومة التّشابكات الدّلالية لعناصر اللّغة ومكوناتها، ولا غرو في هذا مادام سعيد الباز ينحت تجربته برؤيا يغلب عليها الطابع الوصفي في تشكيل الصورة الشعرية،والسّمة التصويرية ذات البعد التشكيلي، بنثرية متّقدة بحرارة التجربة وعنفوان متخيّلها، فالعالم الشعري في ديوانه « بأقل اكثرات ممكن» يتخلّق من معجم شعري بحمولات تثبت رغبة الشاعر في تحطيم شعرية الحداثة وما بعد الحداثة؛ بشعرية تعبّر عن كيانها النّصي بلغة منتقاة بعناية؛ تظلّ ملتحمة مع صوت الخارج ومندغمة مع هزّات الداخل، و»حاضرة في وعي الشاعر وفي وجدانه، أو تعبّر عن رؤية فكرية وسياسية، وغالبا ما تتداخل مستويات التعبير هذه، وتتراكب حتى في النص الشعري الواحد، نظرا لتداخل مستويات التجربة الشعورية والفكرية ومعطياتها في فضاء النص الواحد»(9) يقول : (أحيانا تأتيه/ أفكار مسلّية في مكافحة الملل/ يخرج ماسورة بندقيته/ من الفتحة اللامرئية/ من الشرفة/ يختار بدقّة متناهية ضحية اليوم/ وفي نهاية كلّ مساء/ يصاب مثل كلّ قنّاص/ ممعن في التصويب/ بالحيرة/ لا زعماء مثل كينيدي/ لا مغنين مثل لينون/ لا حكماء مثل غاندي/ لا مجرمين مثل باولو إيسكوبار/ لا يوليوس قيصر/ لا غسّان كنفاني/ لا ناجي علي…) إن لفظة الحيرة تمثّل بؤرة شعرية هذا المقول الشعري، ومنها تتفرّع خيوط هذا المحكي الصارخ في وجه عالَم فاقد لبهاء السياسة وبراعة الغناء ورقيّه، وعمق الحكمة والفكر والإبداع، إنها صرخة في وجه هذا التّيه والفراغ الذي يسيّج الحياة، عالم شعري مخيف ينبئ بجفاف قادم يعمّ الكائن والأشياء والأمكنة والأزمنة، إنه شبح الموت الرابض استعداداً للانقضاض على الحياة. ورغم بساطة اللغة الموظّفة فهي حبلى بمعاني مفتوحة على تأويلٍ لامحدود، ومبدعة لنصّ شعريّ لن يتكرّر، نصّ متموّج غير ثابت، فالتحوّل هويته الإبداعية، وتلك ميزة الإبداع الخلّاق.
فشعرية مابعد حداثية تطرح إيقاعاً شعريا منبثقا من حركية الحياة ومفارقاتها، وهي شعرية لا تنصتُ إلا لارتجاجاتها الداخلية المستقاة من كينونة النصّ الشعري، عبْر تعالقاته وتشكّلات عناصره، وفق نظام نسقي يتمثّل في ارتضاء الانزياح اللغوي سبيلاً، والتّشكيل الأسلوبي والتّقتير اللفظي منهجاً، وفي صوغ الحياة بطريقة متماهية بعيدا عن محاكاتها، وفق رؤيا للعالَم تلتقط البسيط في قالب مركّب ذي بنية متشابكة، أي «داخل العناصر ذاتها المؤلفة لهذه البنية وسواء في الحال الأول أو الثاني، فإن بنية القصيدة تظلّ ممتلكة لفاعليتها وحركيتها المتمثلة في الإنتاج، إنتاج معنى فكري وجماليّ ذوقي»(10)

(4) التّحْوِيلُ الشّعْرِيُّ وَالسُّخْرِيَّةُ الْمُخَاتِلَةُ:

إنّ الشّاعر سعيد الباز تَجاوَز شكل الكتابة السوداء المميِّزة لشعرية القصيدة العربية التفعيلية، منذ منتصف القرن العشرين، إلى شكل الكتابة البيضاء المتّسمة بترْك بياضات/ فجوات تدفع القارئ إلى ملئها بحمولاته المعرفية، وفي هذا التّحويل تكمن شعرية الشّاعر، الذي يجعل القارئ ينخرط في عملية الكتابة، عبر القراءة التأويلية، التي تشرع إمكانية الوعي بما يزخر به الخطاب الشعري من آماد في الفهم والإدراك اللانهائيين، والمتأمّل لمجموع النّصوص التي تؤثّث دفّتي الديوان يَبْرُزُ هذه الخصيصة في الكتابة عند الشاعر ، فبالرّغم ممّا يبدو من بساطة في استعمال اللغة، إلا أنّها من السّهل الممتنع، فهي تستفزّ القارئ للإبحار في العمق الدلالي المتواري في كتابة تخلُق أسطورتها الجمالية والفنّية، عن طريق صوْغ اليومي والمعيش، في شكْل كتابة بيضاء تثوي في بنيتها التعبيرية انزياحات في اللغة ذات حمولات دلالية متجدّدة على مستوى التأويل، فالشّاعر ينطلق من ممكن يحمل المفارقة والنّقيض، والعبثية المستشرية في تفاصيل الزمن والفراغ ، والشعور بالاغتراب القسري في مواجهة هذا الضياع الوجودي،في فضاء لغويّ يعجّ بالتوتّر والصّراع، وبالتّلاشي المهدّد للكينونة ، ليصبح اللاممكن هوية الأرض والإنسان والفضاء والزمان، ومن ثمّ كان الشاعر يلقي حجرا في بِركَة الحياة لإثارة الأسئلة ومماحكة الذات، بسخرية تجسّد فداحة الحياة الجثّة. إنّ أسطورة الكتابة الشعرية لدى سعيد الباز يشكّلها الأسلوب التشبيهي ذو المنحى الاستعاري يقول: ( لها أن تأخذ شكل عود كبريت/ في يد طفل / يلهو في مطبخ البيت) إن اللغة الموظفة في قصيدة» الحياة الثانية للجثة» محمّلة برموز إيحائية تحجب نوعا من اللامبالاة تجاه ما يعمّ العالَم من مفارقات تثير الأسئلة الحارقة والمضنية، هذه الرمزية تكمن في الاستهزاء من واقع مبتذل وهجين، فالممكن النّصّي يعكس الحياة اليومية واللاممكن هو المحلوم به، بل إن الشّاعر يقوّض الكثير من الأفكار واليقينيات السّائدة في «البلدان الواطئة» بشعرية السخرية المخاتلة التي تبطّن الاستهزاء والتهكّم يقول ( وستعيدها / مرّات ومرّات/ غير أبهٍ بما يحكيه أولئك المتذاكون/ أصحاب الياقات/ عندما تثقل رؤوسهم مثل الأجراس/ فيحذرونك بلطف لئيم/ من طواحين الهواء/ طواحين الهواء لاوجود لها/ سوى في البلدان الواطئة…) وهي سخرية تنتقد العالَم والذوات، وتتخذ موقف الرفض والممانعة، و تُجْلي ذاتا متوترة، قلقة، متمرّدة على السّائد تُخصّبُ الشّعر بحياة أخرى، وبكتابة إبداعية تخلق أسطورتها الجمالية والفنّية.

خَاتِمَةُ بِمَثَابَةِ بِدايَةٍ:

إنّ هذه المقاربة للتجربة الشّعرية للشّاعر سعيد الباز بمثابة إضاءة حاولتُ، بوساطتها، تسليط الضوء على بعض جمالياتها، ووهجها الشعري،الّذي أبدع صوتاً شعريّا له خصوصياته المختلفة عن التجارب الشعرية الأخرى، وما الاحتفاء بكتابة الفكر شعريا واحتفاءها باليومي والعابر ،إلا تجلٍّ من تجلّياته الإبداعية .

الهوامش:

* سعيد الباز: بأقل اكتراث ممكن، منشورات دار الفناء للنشر، ط1، يناير 2020.
(1)د. فتحي النّصري: السردي في الشعر العربي الحديث في شعرية القصيدة السردية،مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس،ط1 2006، ط2، 2020 ص75.
(2) صلاح عبد الصبور حياتي في الشعر، دار إقرأ ، بيروت، 1992، ص30.
(3) أدونيس(علي أحمد سعيد): ، زمن الشعر، دار العودة، بيروت، 1983،ص115.
(4) أدونيس: الثابت والمتحول : بحث في الإبداع والاتباع عند العرب، الجزء الرابع : صدمة الحداثة وسلطة الموروث الشعري، دار الساقي ، ط11، 2019. ص 239.
(5) خالدة سعيد: أفق المعنى،دار الساقي، ط1، 2018،ص56.
(6) م.ن، ص60.
(7) عز الدين اسماعيل: الشعرالعربي المعاصر،قضاياه الفنية والمعنوية، د.ت، ص307.
(8) جان كوهن: بنية اللغة الشعرية ، ترجمة محمد العمري ومحمد الولي، دار توبقال للنشر، ط1، 1986 ص 113 .
(9) محمد نجم : أرض الأبدية : قراءات في تجربة الشاعر سيف الرحبي، منشورات الجمل،كولونيا (ألمانيا)، ط1،2007. ص48.
(10)صدوق نور الدين : النص والتأويل، في البنية واللغة والدلالة، كتاب الرافد، العدد103، نوفمبر 2016،دار الثقافة والإعلام،حكومة الشارقة، ص45.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 25/12/2020