الطب الفرنسي في المغرب من الممارسة إلى الحدث الاقتصادي (1)

تمهيد:

الاستعمار حدث شمولي إذا ما تمَّت إعادة قراءته من منظور تصادم البنيات، التقليدية والحديثة…رأى فيه البعض فعلا عسكريا، والبعض الآخر حدثا اقتصاديا بامتياز، ودرج آخرون على وصفه بالتحول الاجتماعي الشامل…حول هذا الجزئية، توجهت بعض الاهتمامات التاريخية نحو الكشف عن فداحة الاستغلال الاستعماري وإظهار بِنيات الاستغلال وظروف العمال القاسية وتشكل الحواضر البروليتارية وصناعة النخبة الاستعمارية المحلية…كُلُّ الاستعادات الحادثة هي في الحقيقة محاولات جريئة لتقفي الأثر الذي تركه الاستعمار في أنسجة الدول المُستعَمرة، إن على مستوى الخطاب المُهيمن من طرف قوى الإنتاج أو على مستوى الحضور المادي والرمزي لمؤسسات الاستعمار…
تقتضي المراجعة ضرورة الإقرار بالاستحضار الآتي: لا تزال الأبحاث التاريخية التي تشتبك مع اللحظة الاستعمارية في جُلِّ دول العالم تحظى بفائق العناية والتقدير من طرف المهتمين بالتاريخ وغيره، وقد نجد لذلك تفسيرا في الجُرح النرجسي والنفسي الذي خلَّفه الاستعمار في وجدانيات الشعوب المقهورة، وفي الدعوات الوطنية التي طالبت بضرورة استنهاض الذات من أجل التحرر من الإرث الاستعماري أو على الأقل بناء مسافة نقدية معه.
مناسبة القول، صدور كتاب للباحث المغربي رضوان شعايبي حول “صورة المغرب في كتابات الأطباء الفرنسيين 1912-1956م”. منذ البداية، يُشركنا الباحث في تقاسم الأفق المعرفي والثقافي الذي يسهل لأن نتمكن من اكتساب القدرة على تفكيك شِعاب العلاقة الماكرة التي جمعت بين الطب والاستعمار؛ بين الأخلاق والهيمنة؛ بين عقلانية الفعل الاستعماري وخلفيته الإيديولوجية المسمومة في مغرب الحماية الفرنسية 1912-1956. والعلاقة في مضمونها هي بالتدقيق صورة من ضمن صور أخرى مماثلة أسَّست للالتقاء الماكر بين العِلم والسياسة.
من يقرأ تآليف هذا الصنف من الأبحاث يُصادف أمامه مغربا معطوبا جرَّ وراءه قرونا طويلة من العجز الباتولوجي البنيوي. من هنا قد نستوعب التلميح الذي صاغه المؤرخ دانييل ريفي Daniel Rivet حينما قرن علاج الجسد المغربي بأهمية الحفاظ على سلامة المدينة الاستعمارية(2). هكذا، نصير أمام مغرب موبوء من الداخل، تغيب عنه التقاليد الصحية، يترقب خلاصه من الطب العصري الذي يتحكم فيه الفرنسيون.
طبيعي، أن تعمد بعض الكتابات التاريخية المغربية بعد الاستقلال إلى إعادة توضيب الصورة من خلال إعادة الاعتبار لرصيد التجارب المحلية في التطبيب والاستشفاء، ورفعها إلى مركز الاهتمام بالشكل الذي ضمِن للمغاربة بقائهم البيوكيميائي. كيف نقرأ هذا الالتقاء بين الطب والاستعمار بعد فتور جذوة الحماس الوطني ضد استوغرافيات الأجانب؟ كيف يستقيم راهنا تقييم المُنجز الطبي الاستعماري عن مجتمع الحماية بشكل يؤهلنا نحو قراءة الجسد المغربي المعاصر؟ وهل كان الطب الاستعماري في حقيقته عملا إنسانيا أم عملا إيديولوجيا خالصا؟ لماذا أخذ الفرنسيون منذ البداية دراسة أحوال الصحة بالمغرب؟ ألا يحيل ذلك على تداخل الاستعماري بالطبي والطبي بالاستعماري؟ ثم أوَ ليست العمليات الوقائية الاستعمارية لا تكاد تعدو سوى نوع من الديكتاتورية الصحية بتوصيف دانييل ريفي؟
في السياق ذاته، حاولت أطروحة الباحث رضوان شعايبي تفكيك العلاقة بين الطب والاستعمار، عبر إعادة استنطاق التقارير والسِجلات الطبية الكاشفة عن السياسة الصحية الفرنسية، برؤية منهجية تركيبية لا تتردد في إعادة تقييم تجربة الطب الفرنسي من حيث المنجزات والهفوات، وهو ما يضع القارئ أمام توثيق استوغرافي دسم عن فترة الحماية الفرنسية 1912-1956 بمقدوره مساءلة المشهد الصحي عموما والثقافة الطبية خصوصا، وكذلك واقع البنيات التحتية الصحية وأشكال التدخل الاستعماري، دون إغفال عن بنيات التدخل الطبي الاجتماعي بالمغرب…تتم هذه المعالجات في مدار إشكالي يُدقق في مقياس المسافة التي تفصل بين الصورة والواقع، بين التقارير الطبية ومعيش المغاربة اليومي.
قد يصح أن نعتبر الطب شفيعا للتجربة الاستعمارية الدرامية، قياسا بفضائله الوقائية التي على الأقل جنَّبت البلاد كثيرا من المآسي الانسانية، ورتقت وضعا كان ينذر بمصائب صحية، ووضعت البلاد أمام سياسة وقائية تجاه الأمراض والأوبئة، لكن لا يجب أن نتغافل كما يلمح إلى ذلك الباحث نفسه إلى أن دائرة حضوره كانت محصورة بدرجة أساس على الأجانب ومناطق تنقلاتهم، وبأسبقية الأنا الاستعمارية على حساب الأهالي، وبخاصة في لحظات الحروب والأزمات التي كانت تشهد تزايد حالات الموبوئين والمرضى بالمغرب، بسبب انشغال فرنسا بحروبها الأوروبية من جهة…لا يجب أن نذهل عن حقيقة مهمة في هذا السياق، كون أن المغرب ظل الفضاء والمختبر الذي يختبر نجاعة بعض التلقيحات والأدوية في أجساد الأهالي، وإن كان النقد الأكبر يجب أن يُصرف نحو غياب إرادة الدولة الحامية في تذليل مُسببات الأمراض والأوبئة من فقر وجهل وتهميش. دوما كانت التقارير الطبية المنجزة حول المغرب تحيل إلى الخطر الذي يتهدد المغرب على المستوى الصحي، وتدعو فرنسا إلى الإسراع بالتدخل، فهذا واحد من أساطين الأطباء الاستعماريين إدموند سيرجان يستعير أسطورة حدائق الهيسبريد، لينذر بالخطر الباتولوجي الذي يتجشم بالمغرب “…إن تِنِّينا ذو مائة رأس ينتصب أمام حدائق الهيسبريد ذات التفاح الذهبي (الثروات) ليمنع كل من يقترب منها، وما هذا التنين سوى أوبئة التيفوس والطاعون وحمى المستنقعات وغيرها…” حيث يتكدس السكان في بالبؤس والأوساخ، ويتجمع الجياع والفضلات الحية، وتعج المدن بذوي الخياشيم المتآكلة والأورام والعاهات وطوابير العمي.
1- هندسة الكتاب:
صدر كتاب “صورة المغرب في كتابات الأطباء الفرنسيين 1912-1956″، للباحث المغربي رضوان شعايبي سنة 2016، عن منشورات جمعية البحث والتوثيق. يأتي الكتاب في حوالي 320 صفحة، مشتملا على أربعة فصول جرى تقسميها إلى مباحث فرعية، إضافة إلى تخصيص فهرس للبيبليوغرافيا باللغتين العربية والفرنسية، وآخر مخصص للجداول والصور والتعبيرات الجغرافية والمصطلحات الطبية…في مستهل الكتاب نصادف تقديم البروفسور مولاي حسن فريح رئيس لجنة التراث وعميد سابق بكلية الطب والصيدلة بفاس. يتعلق الأمر، بكتاب كان في الأصل أطروحة جامعية من أجل نيل شهادة الدكتوراه في التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الانسانية بظهر المهراز بفاس تحت إشراف الدكتور سمير بوزويتة.
يثير الكتاب قضايا عامة ترتبط بالمداخل الآتية:

أولا: في رحاب الصورة ودلالاتها التاريخية

يستهل الكتاب حديثه عن الطب والاستعمار خلال فترة الحماية بالتركيز على مفهوم الصورة. الصورة هنا بما هي تعبير عن تحول البنيات الاجتماعية والاقتصادية، وتمثيل لمستويات الخطاب وتعابيره، وبوصفها مرآة لقراءة عقلية البلد بغرض فهم الرؤية النفسية التي ينشئها المجتمع عن ذاته، أو ينشئها عنه الآخر(3)، والحق، أن الصورة تعكس حضور الذات الاثنومركزية، كما تحمل رؤية تخييلية بين المتخيَّل والمتخيِّل، وتمثيل لتجاذب علاقات القوة واللاتوازن بين الفرقاء، وأيضا تمتزج بين الرفض والاستعلاء.
الصورة هنا تحمل دلالة مُتموجة حسب السياق والدلالات، من صورة بلد بلد عتيق ومتوحش وبدائي إلى صورة بلد غرائبي وفوضوي…(4)، ما يهم هاهنا هي صورة المغرب الصحي في كتابات الأجانب، حيث تنتشر الأمراض والأوبئة، ويضعف الاهتمام بالصحة، بمعية المجاعات والجذري والزهري والسل(5)، فإلى أي حد كانت هذه الصورة صادقة في تقديم مغرب ما قبل الحماية؟
يبدو أن الصورة التي رسمها الطبيب الفرنسي رينو عن مغرب القرن التاسع عشر تتقاطع في كثير من تفاصيلها مع صور عدة أجانب، من ذوي تخصصات مختلفة، إثنوغرافيين ورحالة وأحيانا عسكريين وحتى جواسيس…وهي صورة رسمت وضعا بالغ القتامة والسواد عن الإنسان المغربي الغارق في رُكام القذارة والعفن الذي يعيش وسط ركام الفوضى السياسية واللااستقرار الاجتماعي والانهيار الجسدي، مغرب في وضعية احتضار بالعبارة الشهيرة لفريدريك وايسجرير(6).
حينما نتمعن في عمق الصورة ودلالتها، فهي تحمل نوعا من الإدانة المخزن الجامد عن التدخل كما تحمل إدانة إلى المغاربة أنفسهم الذين تغيب عنهم أساليب الوقاية الصحية ويضمر وعيهم الصحي، فهل كان المخزن وحده مسؤولا عن الوضع الصحي بمغرب ما قبل الحماية؟ أم أن التقلبات البيولوجية الدورية التي تسم تاريخ المغرب عبر مختلف فتراته تفسر هذا الوضع الصحي؟ أم في التقائهما هما معا بإضافة عوامل أخرى؟
تفيد إشارة الباحث المغربي محمد الأمين البزاز المتخصص في تاريخ الأوبئة والمجاعات أن الأوبئة التي اجتاحت بلادنا في بداية القرن التاسع عشر قد أحدثت هزات عنيفة، ساهمت بنصيب وافر في تزكية التدخل الأجنبي في ميدان ظل المخزن متغافلا عن الإشراف عليه بنفسه(7)، وهو تحليل يجعل تقلبات الطبيعة المغربية مسؤولة عن وضع المغرب الصحي. لقد كانت تقارير الأطباء الفرنسيين الذين وفدوا إلى المغرب منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين مدخلا مهما نحو بلورة السياسية الاستعمارية، فقد كانت المُوجه الأساس لكل فعل تدخلي في المناطق المغربية، أوَ لم تكن حادثة وفاة الطبيب الفرنسي موشان بمراكش سنة 1907 دليل إدانة على علاقة الطب بالاستعمار، أو لم يتم احتلال الدار البيضاء والشاوية بعد أسابيع قليلة من إصدار الطبيب الفرنسي وايسجرير كتابه عن منطقة الشاوية وأحوازها سنة 1907 (8)، أي قراءة ممكنة لهذا الحوادث؟
وعموما، تخضع الصورة التاريخية التي صاغتها الإستوغرافيا الفرنسية عن المغرب داخل متن الأطروحة إلى ثلاثة موجهات أساسية:
1- صورة مغرب الأعيان والزعامات المحلية التي ركزت على بيوغرافيات فاعلين محليين مثل أحمد الهيبة وموحى أو حمو الزياني ومحمد بن عبد الكريم الخطابي، والتهامي الكلاوي والمتوكي والكندافي(4)؛ وهي صورة رسمت مغربا يتحكم فيه الأفراد الذين يجب الاعتماد عليهم في السياسة الاستعمارية.
2- صورة مغرب البؤساء الذين يشكلون تهديدا للسياسة الاستعمارية، وينبغي الاهتمام بهم وتخليصهم من الوهن والبؤس من أجل الاعتماد عليهم كرصيد بشري لحظة الاستعمار.
3- صورة المغرب الفرنسي الذي يُشيد بأدوار فرنسا في تغيير ذهنيات المغاربة وتحسن نمط عيشه وصحته.
ثانيا: نظرات على المشهد الصحي والثقافة الطبية

يقف الفصل الأول من هذا الكتاب عند محاولة تفكيك مقاطع من المشهد الصحي المغربي والثقافة الطبية بمغرب الحماية في كتابات الأطباء الفرنسيين، وهو فصل يمزج بين التشخيص التاريخي المتوسل بلغة الأرقام والاحصائيات، وبين التحليل الثقافي لطقوس المجتمع المغربي المستلهم لروح وأدوات الأنثروبولوجيا. يُخصص هذا الفصل في جانب منه لبعض الأمراض التي استشرت في فترة الحماية كحُمى المستنقعات والزهري والسل وداء الرمد والجذام…وفي جانب آخر يتوقف عند الأوبئة مثل التيفوس والطاعون والجذري. يَلحظ القارئ عبر ثنايا هذا الفصل تبني الباحث لتقسيمات زمنية، تناغم مع التحولات الصحية التي اعترت مسار الصحة بالمغرب، وهو اختيار منهجي يتيح إمكانية القيام بقياسات كمية ونوعية، من شأنها تقييم حصيلة التجربة الصحية بمغرب الحماية، قياسا بأرقام مؤسسات حفظ الصحة العمومية بالمغرب ومصالحها المتنقلة وبنياتها التحتية، ولعل ما يُعزز قوة هذا التشخيص الصحي توسل الباحث رضوان شعايبي بتحليل أنثربولوجي مواز عن أنماط تعامل مغاربة الأمس مع الصحة، من خلال تتبع العادات الغذائية المغربية وتغيرها حسب تواتر السنوات العجاف، وتقلبات الطبيعة المغربية وتعاقب الأزمات الاقتصادية والسياسية، وهو وضع ثقافي هش ومتغير، كان دائما يفرض على الأفراد التكيف مع مستجدات الوضع الصحي من أجل ضمان البقاء. ضمن نفس السياق يظهر الماء والسكن كواحد من العوامل المنتجة للقذارة والأمراض، وهو ما ينعكس على التربية الصحية خاصة لدى الأمهات والرضع، ويجعل الممارسة الشعبية لمداواة الأمراض خاصة العقم والأمراض النفسية والعين والجن والتوكال وغيرها تظهر -في عين الأطباء- غارقة في بحر الخرافة والجهل، وعليه وجب انتظار الطب الأبيض بخبرته العلمية من أجل الإنقاذ.

ثالثا: البنيات التحتية وأشكال التدخل الطبي

يتوقف الفصل الثاني من الكتاب على واقع البنيات التحتية الصحية في كتابات الأطباء الفرنسيين خلال فترة الحماية، متناولا بالتحليل المصالح الصحية والتنظيم الإداري والترابي والتشريعي لقطاع الصحة، مع التركيز على بنيات التكوين والمصالح التقنية المتخصصة في الأمراض والأوبئة، إضافة إلى المنشآت الاستشفائية بمختلف المدن المغربية، سواء كانت منشآت عامة أو مختلطة أو متعددة التخصصات (مستشفى كولومباني بالدار البيضاء)، أو وحدات طبية متنقلة.
يرصد الفصل الثالث من الكتاب أشكال التدخل الطبي بالمغرب في كتابات الأطباء الفرنسيين، ذاك أن المغرب الذي استلمته فرنسا لم يكن يعاني فقط من فوضى السياسة، وإنما أيضا من الاضطراب الصحي وانتشار الأوبئة الأشد فتكا بالتجمعات السكانية(9)، وهو ما يفرض على الدولة الحامية ضرورة تفعيل تدخل فوري لمواجهة أعطاب البنية الصحية المغربية، لمكافحة حمى المستنقعات والأنوفيليات وتجفيف المستنقعات ومرض الزهري ومعاقل الدعارة ودار الرمد والجذام، ووباء التيفوس والطاعون، فليس هناك حسب إفادة الطبيب الفرنسي كولومباني شيء أكثر نجاعة من دور الطبيب كعامل للتوغل والاختراق، وكذلك للجذب والإغراء والتهدئة.
يستوقفنا الفصل الثالث من الكتاب عند ظاهرة مثيرة، يتعلق الأمر بالدعارة السرية التي انتشرت بالمدن الكبرى، خاصة الدار البيضاء، بفعل تحولات البنية الديموغرافية وتصدع الهياكل التقليدية وتشتت السدى الاجتماعي الناتج عن تواتر الهجرة القروية منذ بداية الحماية تحت تأثير انغراس الاستعمار الفلاحي بالبادية المغربية. يتعلق الأمر بصورة حي بوصبير بالدار البيضاء، حي هامشي وفقير، بئيس وقذر ومتسخ، مستعبد وماجن، يكاد يمثل الحديقة السرية للسياسة الصحية الفرنسية، ولربما وجهها القبيح، ظل مُلهما للرسامين والشعراء والصحفيين والجنود المستقرين في الدار البيضاء، كفضاء راسبوتيني (راسبوتين) يُحيي القدرة على الخيال والتخييل بمفاتن المرأة المغربية. يقول في هذا الصدد الطبيبان ماتيو وموري “…داخل بوصبير تجتمع حوالي ستمائة من المومسات…”، وفي موضع آخر “…أن المغرب كغيره من المجتمعات الأخرى تتفشى فيه الدعارة السرية، إذ يتعلق الأمر بنساء يمارسن البغاء إما بانتظام أو غير انتظام، يعشن حصريا على ما يكسبنه منه، أو يجدن فيه مكملا لمداخيلهن، ولكن في كلتا الحالتين معا، فإنهن يهربن من مقاييس الشرطة والمعايير الصحية القانونية للنظام التشريعي القائم بالمغرب، ويتم المرور من السرية إلى الشرعية في الدعارة، بطريقتين، إما إراديا أو كرها بعد مطاردتهن من طرف شرطة الأخلاق(10).
يعزز حي بوصبير كثيرا فرضية العبودية زمن الحماية، من خلال انتشار وكلاء وجماعات اقتصادية تنشط في تجارة الدعارة تعتبر جسد المرأة مستباحا تحت ضغط وإكراهات اليومي الاجتماعي، وتجعل الجسد الأنثوي حدثا اقتصاديا توجهه ثنائية العرض والطلب في المخيال الاجتماعي الذكوري، وهو ما جعل الباحث أحمد مكاوي يعتبر بأن انتشار الدعارة السرية غير المراقبة واحدة من المصادر الأساسية للإصابة بالأمراض وتفشيها(11).
النخبة المغربية المثقفة كانت على وعي كبير بخطورة التطبيب الأروبي في استقطاب المغاربة، وغرس مرامي السياسة الاستعمارية، لكنها لم تكن قادرة على صياغة بدائل طبية بإمكانها مواجهة الاستعمار، بل حتى أن ولوج النخبة إلى مهنة الطب كان شأنا مرتبطا بالمعمرين، بدليل أن أول عيادة مغربية فتحت أبوابها لم تأت إلا في بداية الخمسينات مع الطبيب المغربي عبد السلام العراقي الحاصل على الدكتوراه من فرنسا، مما يعضد فرضية أن الطب العصري كان شأنا فرنسيا بامتياز، حرم الأهالي من الحق في الارتقاء الاجتماعي نحو مهن النخبة.
يُضَمِّن الباحث رضوان شعايبي جملة استنتاجات بخصوص التنظيم الصحي بمغرب الحماية، الذي يجعله متسما بالتمييز السوسيومجالي بين الأوربيين والمغاربة، وفق قاعدة أولوية الأجانب على الآهالي، فالإسعاف الصحي عوض أن ينشغل بحثالة البشر والمعتوهين والبؤساء والمرضى، الذين لا أمل لهم في الشفاء، وحماية العجزة والأطفال، ينبغي صرف عنايته بلا تأخير للحفاظ على العاملين وذوي النشاط من السكان(1)).
كما أن السياسة الصحية الفرنسية رسخت التفرقة والمفاضلة بين الأفراد، حسب درجة القرب أو البُعد من سلطة الإقامة، فكانت الأولوية تمنح في العلاج للموظفين من طرف الادارة الاستعمارية(13)، دون أن نغض الطرف عن أن المغرب كان حقلا لفحص وتجريب الأبحاث الطبية والتلقيحات على الآهالي، واختبار سلامتها ونجاعتها.
في قراءة بعدية، وسم ألبير عياش حصيلة السياسة الصحية الاستعمارية في كتابه المغرب والاستعمار: حصيلة السيطرة الاستعمارية بالهزيلة، قياسا بالنقص الحاد الذي شهدته قاعات الفحص، التي غالبا ما كان يطالها الازدحام والفوضى، وبقلة النظافة والإهمال في أغلب المستشفيات الخاصة، والنقص في المعدات والأطباء(14).
ورغم أن الطب كان وسيلة لمساعدة الامبريالية الاقتصادية يحمل وجها نفعيا لا يستهان به، وسلاحا من بين الأسلحة الايديولوجية التي وظفها الحكم الاستعماري في بسط هيمنته العسكرية، في سياق ما يسميه مهندس الحماية هوبير ليوطي Hubert Lyautey بتوفير المساعدة الطبية للأهالي، فإنه لا يستقيم تاريخيا إنكار نتائجه الصحية في تقديم خدمات الرعاية والوقاية، على الرغم من محدوديتها وهزالتها مقارنة مع الأضرار التي واجهت صحة الساكنة المغربية، وبالمقارنة مع غياب الإرادة الاستعمارية في مداواة المغاربة، لأن جهوده لم تصل بالنهاية إلى حد القضاء على الأمراض والأوبئة، وهو ما تشهد عليه عودة أعنف الأوبئة والأمراض خلال فترة الحماية، دون أن ننسى على الأقل تفصيلا مهما هو أن المفاهيم الصحية الجديدة ظلت على هامش المجتمع بدعوى تعارضها مع الوسط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي للمغرب.

رابعا: بنيات التدخل
الطبي والاجتماعي

في فصل رابع، يقف رضوان شعايبي عند بنيات التدخل الطبي الاجتماعي في كتابات الأطباء الفرنسيين من خلال رصد الأعمال الاجتماعية الطبية الخاصة بمساعدة العجزة والبؤساء والأجراء، عبر تتبع مشاريع الحماية في دعم الصحة بالمغرب في دعم البادية المغربية وتخفيف العطالة عن الشباب والاهتمام بالسكن الاجتماعي وحماية الطفولة والأمومة. وعلى العموم، تبدو الملاحظات في هذا الشأن محفزة على إعادة اختبار فرضيات تاريخية جديدة.

استنتاجات:

تغتني مساهمة الباحث رضوان شعايبي بالوصف والتحليل، بالتصنيف والتأويل والنقد…لا شك أن العمل تركيبي في بنائه، وتحليلي في عرض المعطيات وتصنيفها وفق القضايا المعاصرة التي تحاول الإسطوغرافيا المغربية إعادتها إلى دائرة الضوء. وهي محاولة مهمة من أجل تفكيك بنية الخطاب الصحي من حيث الثوابت والمتغيرات، وحتى إن بدت الصورة المشيدة مثيرة للشفقة والاستهجان، وهي ترسم مغربا منخورا بالأمراض والأوبئة، ومُقزمة للمقومات الحضارية والثقافية والصحية التي راكمتها التجربة المغربية في ميدان الصحة، فإنها في الطرف الآخر، صورة تثني على المزايا التي حملتها التجربة الطبية الاستعمارية. وإذا حاولنا أن نصرف النظر عن عمقها الذاتي والإيديولوجي فإننا قد نتلمس بداية الطريق من أجل إعادة توضيب المشهد الصحي باستحضار التجربة المحلية في الاستشفاء. لم يحظ الطب الاستعماري لا بانخراط حماسي ولا برفض انفعالي من طرف المغاربة، فظل تعايش الطب الاستعماري مع الطب المحلي قائما عند المغاربة.
ختاما، تطرح هذه الدراسة جُملة ملاحظات أساسية بخصوص صورة الطب الاستعماري كتجربة وكممارسة وكتدبير سياسي، كما تفتح هذه المناولة الأفق على قراءات تاريخية جديدة وخصبة، ويظل الباعث الأساس في هذه التجربة طرح سؤال جوهري: من استفاد من طب الحماية، هل المستعمِر بكسر الميم أم المستعمَر بفتحها؟ وكيف انتقل الطب من تدبير عسكري مرتبط بعمليات التهدئة العسكرية للقبائل والمدن إلى شأن مدني يُؤمن الوقاية الصحية لأولئك البروليتاريين الجدد الذين ظهروا بهوامش المدن الكبرى؟ ولماذا تم إقصاء وحجب الثقافة الطبية المغربية بحجة همجيتها؟
ينتصر الأستاذ بوجمعة رويان في أطروحته حول “الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912-1945” إلى أن الطب الفرنسي لم يكن طبا إنسانيا خالصا، بقدر ما كان أداة من أدوات الغزو والهيمنة يهدف إلى تعبيد الطريق أمام جحافل الجيش الفرنسي، ويشجعه على مواصلة عمليات الاستيطان الاستعماري داخل البادية المغربية(15). واضح أيضا أن الطب الاستعماري كان يروم تحصين الرصيد البشري المغربي، الخادم لمشاريع وأنشطة الحماية.
في المحصلة، بدأ حقل التاريخ البيولوجي يُحقق تراكما لا يستهان به في الإحاطة بمختلف الأمراض والأوبئة التي اعترت مسار التاريخ المغربي، وحسبنا هنا في الفترة التي تهم الحماية دراسة الباحث عبد المومن عيسى عن الصحة العمومية بالمغرب ما بين 1907- 1956، التي أنجزت تحت المؤرخ الفرنسي دانييل ريفي، الذي هو بدوره خلَّف دراسات وأبحاث عن الصحة والتطبيب بالمغرب، فضلا عن سلسلة الندوات والمقالات التي كتبت في هذا الشأن، وبدروها، كانت مدرسة الحوليات الفرنسية قد بلورت رؤيتين مختلفتين بخصوص تناول التاريخ البيولوجي في اشتباكه مع حقل التاريخ: رؤية تحليلية ترصد المرض منذ بدايته إلى نهايته، ورؤية تركيبية تدرس الأمراض دراسة سانكرونية، في تطور الأمراض مع بعضها البعض زمانيا ومكانيا(16).
تحيل قراءة التجربة الطبية الاستعمارية على تداخل مثير بين الطب التقليدي المحلي، الذي ظل يتوسل بزيارة الأولياء واستعمال الرقى والتمائم والأعشاب، مستفيدا من وصفات الأنطاكي والسيوطي، نظير تجربة الطب الباستوري، وربما ساهمت عمليات الترهيب والتنكيل والضرب التي كان يتلقاها الأهالي في تنفير عدد كبير من الطب الاستعماري، ومن تم تعزيز الطلب الاجتماعي على الطب التقليدي، الذي ضَمِن مقومات الاستمرارية والبقاء أمام طب الرجل الأبيض، وتتوضح الصورة أكثر حينما نرتقي بالطب من ممارسة إلى حدث اقتصادي مرتبط باختراق النظام الرأسمالي للبنية العتيقة المغربية، وما صاحبه من تداعيات وشروخ اجتماعية ونفسية، زكت تنامي الهجرة القروية وارتفاع معدلاتها في فترات القحط والجفاف، وفي تآكل الرصيد الأخلاقي للمغاربة، بسبب توغل قيم السوق، مما يقود نحو طرح استفسار حول نجاعة الأساليب الصحية الاستعمارية، فكيف يمكن القضاء على داء السل مثلا في تغافل إدارة الحماية عن تحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمريض؟
هناك تفصيل آخر يدعو إلى التساؤل ساقه الأستاذ بوجمعة رويان في معرض أطروحته عن الطب الكولونيالي، كيف نُفسر سكوت مصلحة الصحة العمومية عن ظاهرة الحمَّامات بالمغرب التي من المفروض أنها ناقلة من نواقل الأمراض كالزهري والسل والأمراض الجلدية، في مقابل احتفاظها بالبيمارستانات التي هي بمثابة دهاليز سيزج فيها بغير المرغوب فيهم ممن يقلقون المارة ويعترضون سبيلهم من المعتوهين والحمقى(17).
ختاما، تنضاف مساهمة رضوان شعايبي إلى مُنجز البيولوجيا التاريخية التي تكثف جهودها من أجل إقامة جسر وصل بين المتغيرات البيولوجية والوقائع التاريخية؛ وهي علاقة من شأنها أن تُثري حقل الدراسات التاريخية، وتنير عددا من قضاياه الحارقة، بل وتختبر فرضيات وإشكاليات جديدة من تاريخ المغرب المعاصر.

الهوامش:

1- تروم هذه المساهمة تقديم قراءة في كتاب الباحث المغربي في حقل التاريخ رضوان شعايبي، حول: صورة المغرب في كتابات الأطباء الفرنسيين، 1912-1955، جمعية البحث والتوثيق، الطبعة الأولى، 2016.
2- Rivet Daniel, Lyautey et l’institution du protectorat Français au Maroc (1912-1925), Tome 3, L’ Harmatton, Paris, 1988, p.224.
3- بوزويتة سمير، مكر الصورة، المغرب في الكتابات الفرنسية ( 1832-1912)، افريقيا الشرق، المغرب، الدار البيضاء، 2007، ص 179.
4- شعايبي رضوان، صورة المغرب في كتاب الأطباء الفرنسيين، مرجع سابق، ص 15-16
5- Raynaud(L), Etude sur l’hygiène et la médecine au Maroc, Alger, 1902
6- وايسجرير فريديريك، على عتبة المغرب الحديث، ترجمة عبد الرحيم حزل، منشورات دار الامان، مطبعة الأمنية الرباط، 2011.
7- البزاز محمد الأمين، المجلس الصحي الدولي في المغرب: 1792-1929، سلسلة رسائل واطروحات رقم 49، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1421/2000، ص 307.
8- Weisgerber (F), Les Chaouia, Edition comité de Maroc, Paris, 1907.
9- شعايبي رضوان، صورة المغرب في كتابات الأطباء الفرنسيين، مرجع سابق، ص 167.
10- Mathieu Jean et Maury P.H, Bousbir : La prostitution dans le Maroc Colonial- Ethnographie d’un quartier réserve, Edite et présenté par Abdelmajid Arrif, Edition Paris- Méditerranée, 2003 p69.
11- المكاوي أحمد، الدور الاختراقي والاستعماري للطبابة الأروبية في المغرب، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2009، ص 122.
12- Colombani, La protection sanitaire de l’indigne au Maroc, Conférence faite aux journées Médicales coloniales de Paris (Juillet 1931) Imp. H. Blanc et G. Gautier, Rabat, 1932, p 8.
13- Vidrovich Coquery, Les Africains : La médecine coloniale, Edition Desjon quires, Paris, 1994, p 11.
14- عياش ألبير، المغرب والاستعمار، حصيلة السيطرة الفرنسية، ترجمة الشاوي عبد القادر والسعودي نور الدين، مراجعة وتقديم بنسعيد ادريس والسبتي عبد الاحد، منشور بدار الخطابي للطباعة والنشر، الطبعة الاولى، ص 348.
15- رويان بوجمعة، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912-1945، مطابع الرباط نت، الطبعة الأولى، 2013، ص16.
16- Revel Jacques et Peter jean- bierre, Le corps, L’homme malade et son histoire, In Le Roy Ladurie, Le territoire de l’historien, T 1, Gallimard, 1987.
17- رويان بوجمعة، الطب الكولونيالي الفرنسي بالمغرب 1912-1945، مرجع سابق، ص 453. ب الفرنسي في المغرب: من الممارسة إلى الحدث الاقتصادي(1).


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 02/02/2024