العادات الغذائية عند المغاربة زمن الندرة « نماذج من تاريخ المغرب الحديث»

 

لم يَعُد خافيا أن الكتابات التاريخية التقليدية أسهبت في تدوين ما كان يدور في قصور السلاطين والأمراء، وكل من يدور في فلكهم والإطناب في سرد إنجازاتهم ومخلفاتهم، وهو أمر يستمد سوءاته من كونه جاء على حساب أخبار باقي الفئات الاجتماعية، وهذا ما خلق لدى العديد من الدارسين الرغبة الجامحة في إنارة الجوانب المسكوت عنها في إطار تناهج التاريخ مع مختلف العلوم الأخرى، لخلق مخارج متعددة للانحباس المعرفي والمنهجي الذي لطالما وسم هذه الكتابات. ولعل التغذية تشكل واحدة من أهم التيمات التي أضحت تشغل اهتمام ورش الباحثين والمهتمين بالعلوم الإجتماعية عموما، والتاريخ الديمغرافي على وجه التحديد.
فموضوع التغذية في تاريخ مغرب العصر الحديث لا يزال بكراً في حقل الكتابة التاريخية، وأنه ليس ترفا فكريا إثارة القول فيه، خاصة في زمن الندرة؛ زمن « تنيخ فيه المساغب بكلكلها على البلاد والعباد» بتعبير الفقيه والمؤرخ أحمد الناصري. فمن أهم التداعيات الديمغرافية التي كانت تسفر عنها موجات الجفاف الكبرى، أزمة الأقوات. ذلك أن التقلبات المناخية التي كانت تعرفها البلاد وما تسفر عنه من غياب سبل الأمن والاستقرار، كانت تشكل شبحا حتى لمن يتوفر على أقوات مخزنة في المطامير والمخازن، فـ»المستقبل لم يكن مضمونا على وجه الإطلاق، حتى بالنسبة للذين يبدو أنهم الأكثر ادخارا « Ben Ali Driss , 1983, p :23 فبالأحرى للكادحين والمنكوبين.

1- المجاعات والعودة إلى أطعمة الطبيعة :

بالقدر الذي شكَّل فيه الخبز مادة غذائية أساسية في موائد المغاربة في أزمنة الوفرة، بالقدر الذي لعب فيه أيضا دورا هاما في سلوكهم الغذائي خلال أزمنة الجوع؛ حيث دأب بعضهم على أخذ قليل من الدّخن، وطحنه مع « بزر العنب، فيجعلون منه خبزا أسود مثل الفحم». ( مارمول كاربخال، « افريقيا «، ج 2، 248 )، أو يتم أخذ حبوب الشيلم، ويُصنع منها أصناف من الخبز والعصائد.( استيتو محمد، « من وسائل مواجهة الفقراء للمجاعات»، ص 255) أو إعداد الأحسية بالاعتماد على الذرة، كما حدث أثناء مجاعة سنة 1541م . ( Rosenberger, « Cultures complémentaires », p: 487 ) .
كما يدفع الجوع بعض الآناسي إلى جمع بلوط الغابات، ونشره حتى يجف، ثم يسحق ويُدق، ويتم مزجه بحشائش أخرى ويصنعون منه دقيق الخبز، وقد صنفه صاحب كتاب «حديقة الأزهار» إلى بلوط حلو « ثمره طويل وآخر قصير، وآخر شديد السواد غليظ الجِرم، وآخر أصهب وآخر شديد الصفرة «. ( الغساني أبو القاسم،» حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار «، تحقيق محمد العربي الخطابي، 1990، ص 57 ). إضافة إلى تحضير العجائن من دقيق عجم الفواكه والثمار، وتناول كل ما يتم الحصول عليه من « نخالة الشعير وقشور الفول، وعجم النبق وعجم التمر وعجم تاسلغوا [ الخروب ] والفيتور» كما وقع في مجاعة 1738 م بحاضرة فاس ( القادري، « حوليات نشر المثاني «، ص 52 ).
وقد شاهد دي مندوصا de Mendoça في أواخر القرن 16 م- أثناء رحلته من فاس صوب تادلا – سكان بعض دواوير « لا يأكلون إلا الدقيق الذي يستخرجونه من بعض الأشجار الشوكية؛ ذات ثمار مُرة مطحونة برحى يدوية «.
Ricard ( R ), « Le Maroc à la fin du XVIe d’après la Jornada de Africa de Jeronimo de Mendoça », p :187.
وحسب رواية مخطوط « الإحياء والانتعاش « فقد استعانت الرعية في مواجهة المجاعة الكبرى عام 1662م بتناول الربيع مع شيء من الملح، أو شرب اللبن بالربيع ( العياشي، صص 132 – 133 ).
وتسترعي الملاحظة مفارقة عجيبة، بخصوص هذه الجائحة، وهي إقبال البعض من السكان على بيع حبوبه واللحاق بركب الجائعين من أجل جمع الأعشاب والنباتات البرية؛ كما حدث مع أهل بني يازغة، فمنهم من كان عنده زرع فباعه وأكل الربيع «فكان يحكى عن واحد منهم أن عنده ماية وسق قمحا فتركها للبيع وأكل الربيع فمات من أكل الربيع وتركها وراءه «. ( العياشي، م.س، ص 251 ).
في نفس السياق، تهافت سكان بعض الجهات عام 1164 هـ/ 1751م، على أصناف غير اعتيادية من الأغذية كـ»اللوبية»، حيث جاء على لسان الضعيف الرباطي أنها « كانت تأتي من بلاد النصارى…بالسفن وكانوا يبيعونها للمسلمين ويأكلونها وكانت تباع بمدينة سلا والرباط وغيرهما من مدن الساحل، وجاءت في زمن الشدة إلى أن أغاث الله المسلمين من فضله..». ( تاريخ الدولة السعيدة، ص 155 ).
واهتدى الإنسان المغربي إلى خلط بعض المواد الغذائية، بشكل يستمد من خلاله الطاقة كلما لاحت بوادر المجاعة، والتي يتسرب معها الوهن والضعف البيولوجيان؛ فكان جاوَرس وهو نوع من الحبوب يُطبخ مع اللبن، ويُتخذ من « دقيقه حساءٌ ويُصيِر معه شيء من الشحوم ليُغذَي بها البدن غذاء صالحا « ( الغساني، « حديقة الأزهار»، م.س، صص 73 – 74 ) .
وكانت النوائب الطبيعية الحادة تُجبر فئات عريضة من المجتمع على اتباع بدائل غذائية، تتجسد في الارتداد إلى نمط بدائي، فيسود الالتقاط والصيد، وكلها سلوكيات تدل على عودة الإنسان إلى الطبيعة؛ فكان كل رجل يخرج «لحفر قوته وقوت عياله من البقول والأصول زمن الجدب «. ( الفاسي محمد العربي، « مرآة المحاسن «، ص 99 ).
يخبرنا الغساني بأن أهل فاس وأحوازها كانوا يقتاتون نباتا يسمونه «جُمًيِز؛ حيث يشبه ثمرة التين.. ويؤكل في السنين الجدبة الكثيرة الجوع لأنها تلد في العام ثلاث مرات أو أربع». ( حديقة الأزهار، م.س، ص 81 ) .
وبالمِثل فقد بلغت الأزمة في مجاعة 1062 هـ / 1652 م مبلغا دفع الناس إلى أكل تالكوهت « حتى صار لا يوجد في الأسواق إلا هو، وكان مأكلهم سنتين» ( بوشرب أحمد، « أزمة ضمير المغربي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ص 77 ). ولم يجد الأغنياء والفقراء على حد سواء، بُدا من اتخاذ نبتة إيرني قوتا لسد الجوع سنة 1163 هـ / 1750م ( عام اليبسة ) بعد انحباس المطر ويبس الزرع النابت ( الضعيف، م.س، ص 155 ). ويتحدث صاحب حديقة الأزهار عن هذه النبتة بأنها تُعرف كذلك بـ» لوف» أو « آيَرْنا «، وهي « معروفة عند الناس يُصنع منها الخبز في زمان الجدب والغلاء»، على الرغم من أنها « تضر بالحلق وتنفطه». ( م.س، ص 161 ).
وتحت تأثير نفس المصاعب الغذائية، كان الجيَّاع من مدينة فاس يقتاتون على حبوب نبات «البُهمى « أو « البُهميً «، وهو « نبات كنبات الزرع ينبت على السطوح والطرق، وله سنبلة كسنبلة الشيلم…وتنقل حَبه النمل إلى بيوتها. فإذا كانت السنُون الجدباء، حفر الناس بيوتها وأخرجوا منها ذلك الحب وأكلوه وتقوّتوا به «. ( نفسه، ص 67 ).
كما كان بعض السكان يضطرون إلى أكل الزرع قبل نضجه، وتقدم لنا سجلماسة خير نموذج في هذا السياق؛ فمناخها المعروف بأنه « مفرط الحر شديد القيظ»، مُضافا إلى ذلك أن» ماء المطر عندهم قليل»، شكل إكراها طبيعيا كان يجبر السكان على تناول « الزرع إذا أخرج شطأه، وهو عندهم مستظرف «. ( الحميري، « الروض المعطار «، ص 306 ). وفي نفس السياق كان استهلاك الفول قبل يبسه بدافع الحاجة والجوع من الأسئلة التي كانت تطرح على العلماء لمعرفة الحكم الفقهي فيها، فقد «سُئل عمن وصلته الحاجة وله زرع أخضر فأكل منه شيئاً قبل يبسه، هل يجوز أن يخرج زكاته حينئذ وهو أخضر أم لا « ؟ الونشريسي، « المعيار المعرب «، ج 1، ص 390 .

2- الجوع والتغذية الاضطرارية :

لا شك أن الأزمات الديمغرافية المتصلة، كانت تعرف سلوكيات غذائية بشعة؛ فبعد استنفاد كل الآليات الكفيلة بدرء الجوع، يضطر الإنسان إلى أكل لحوم الجيف من البشر والحيوان؛ فتُعدم القيم الحضارية وتغيب الضوابط الأخلاقية التي كانت تنسج حول العلاقات الاجتماعية، ويُحول الجوع الإنسان إلى كائن عدواني يمارس سلوكا غابويا توجهه غريزة البقاء .
وبالرجوع إلى المصادر، نجد إشارات تؤكد على هذه الصورة الرهيبة، ففي مجاعة عام 1072 هـ / 1662 م، « أكل الناس الموتى والجيف وذبح فيه الأطفال « . ( تاريخ الدولة السعيدة، م.س، ص 31 ). بل وصل الأمر في إحدى قرى آيت عياش إلى اختفاء « القطوط بحيث لا تسمع فيها صياح ديك ولا ماو قط « ( العياشي، م.س، ص 135 ).
هذه المشاهد المخيفة التي تحول فيها الإنسان إلى حيوان مفترس، تكررت في عام 1150هـ / 1738م، الذي تفاعل فيه العامل المناخي مع اضطراب الأوضاع السياسية، فبلغ الجوع في الساكنة مبلغه، تروي الأسيرة الهولندية ماريا تير متلن Meteelen التي عاصرت هذه الفترة، أن بعض الأهالي في بداية هذه الأزمة كانوا يستخرجون عظام الحيوانات من الأرض، حيث يدقونها بالحجر ويأكلونها مع جرعة ماء، ومنهم من خرج إلى الجبال للبحث عن جذور النباتات الرديئة، ثم انتقلوا لأكل جير الجدران والتبن كالحيوانات لانعدام العشب ( من تاريخ المغرب وحاضرته الإسماعيلية، صص 62 – 63 )، ليصلوا إلى أقصى درجات الوهن، فأصبح الأحياء يأكلون الأموات، و»لم يبق كلب ولاقط، الكل أُكِل». أما أسرى السلطان فكانوا يحصلون على حفنة من بقايا الزيتون المصفى عوض الخبز ( نفسه، ص 31 – 60 ) .
هذه المأساة تردد أصداءها في مؤلفات الإخباريين المغاربة، يروي القادري على سبيل المثال بأنه « أكلت النساء والصبيان من شدة الجوع» ( نشر المثاني، م.س، صص 53 – 54 ). وهذا فقط بالنسبة لمن ضبطوا، أما في ما يخص الحالات التي لم يتم ضبطها فهي كثيرة، لأنه حسب منطوق الإشارات التاريخية « أكل الآدمي غير ما مرة خفية « و»أكلت الميتة جهارا» ( نفسه، ص 52 ) .
ولم تغب هذه الممارسات النشاز إبان المجاعة التي عصفت بالبلاد في الفترة الحرجة لعام 90- 1196هـ / 76 – 1782م؛ فبعد أن كان التجار الأوروبيون يأتون إلى الموانئ المغربية زمن الوفرة والرخاء من أجل « شراء الدواب من البغال والبقر والأغنام والدجاج وغير ذلك « ( القادري، « حوليات نشر المثاني «، ص 97 ) . تغيرت الأوضاع بشكل مخيف بعد انحباس الغيث، وهجوم أسراب الجراد و»موت البقر حتى كاد ينقطع في كل أرض من الجدب» ( الرباطي الضعيف، م.س، ص 182 )، فبلغ الضيق بالناس إلى حد أكْل الميتة والدم والخنزير والآدمي ( الزياني، « الترجمان المعرب «، صص 82 – 83 ) «فليس هناك كارثة أخرى تحطم شخصية الإنسان وتدمرها كما يفعل الجوع، فإن الفرد إذا استبد به الجوع لا يتورع عن القيام بأي عمل شاذ، إذ يتغير سلوكه من أساسه، كما يحدث لأي حيوان نال منه الجوع» ( جوزويه دي كاسترو، « جغرافية الجوع «، ص 59).
وخلاصة القول إن الأنماط الغذائية زمن الندرة كانت خاضعة لحجم الجائحة وتأثيراتها على الإنسان والمجال، ومرتبطة بصورة أو بأخرى بطبيعة الاقتصاد المغربي نفسه الذي ظل يُعاني ردحا من الزمن من الهشاشة والخصاصة، أو اقتصاد الكفاف économie de subsistancesبتعبير نيكولا ميشيل Nicolas Michel.
وإذا كان الإنتقال من أطعمة الطبيعة إلى أقوات الضرورة بما يرمز إليه من وقوع في المحظور، فإن هذا التحول الغذائي الإضطراري يكشف في واقع الأمر عن انسلاخ واضح عن القيم الآدمية ونزوع نحو التوحش . ولعل الأمثال الشعبية بدورها قد عبَّرت منذ زمن بعيد عن أثر انعدام القوت على نفسية الإنسان المغربي وسلوكه، فقد يفضي به الجوع إلى الكُفر، والتخلي عن ديانته. يقول سيدي عبد الرحمان المجذوب في أحد أمثاله المشهورة:
الخبز يا الخبز والخبز هو الإفادة
لو كان ما الخبز ما يكون دين ولا عبادة
( Les Gnomes de Sidi Abd Er-Rahman El Mejedoub, 1896, p : 68) .

*أستاذ باحث في التاريخ / كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش


الكاتب : سعيد إدحمان

  

بتاريخ : 26/08/2022