«العروة الوثقى» لعبد الإله الرابحي.. بعيدا عن عقل المدينة،قريبا من الجنون الخلاق

 

إذا كانت المدينة في تاريخ الحضارات قد ارتبطت بالعقل والنظام وهي استعارة للدولة،فإنها في «العروة الوثقى في أخبار الحمقى»وثقت للجنون الخلاق ولا أقول الحمق..وبتوثيقها لجنون مدينة(تيفلت) هي تحاكم رزانة العقل المزعومة.علما أن الجنون هو خروج عن الإجماع والتكرار ولذلك عد امتيازا ..يكفي أن نراجع مجانين»العروة الوثقى»الذين عاشوا حالة حلم دائمة،ولعمري هذه هي الحالة المثلى التي يصبو إليها المبدع…
في المحكيات الست المشكلة للحمة الكتاب قلب الكاتب عبد الإله الرابحي ما استقر بالوجدان والذاكرة العامة حول الجنون باعتباره غموضا وخطابا غير قابل للفهم..مقدما إياه كآلية للتساؤل واكتشاف هشاشة العقل؛بحيث ارتبط مثلا عند «الشلحة ببيش» بالشبق والإثارة من خلال استحمامها كل صباح بنهر البلدة؛الأمر الذي جعل السارد/الرائي يعيش لحظة شغف وإقبال على الحياة..لحظة وعى فيها السارد أن جسد المجنون يحافظ على إثارته ويتجاوز ما يرمى به من طرف العامة باللامعنى.لهذا قلنا أن الجنون هو غير الخرف والهبل والحمق؛فيه شيء من الإبداع ،فهو رفض للتكرار والنمطية وعناق للحرية المطلقة..سياق يقدم المجنون حاملا لصفات مرغوبة كالتمرد و الجرأة وبسبب ذلك هو متفرد.. بينما جرت العادة في تعريف الحمق باعتباره فقدان للعقل وعدم التآلف مع الطبيعة..في هذا السياق نفهم شدو»الشلحة ببيش»ليلا بحثا عن توزنها المفتقد؛شدو لا يخلو من معنى وغاية..و إذا كان تمرد المجنون يتيح له توزنا معينا فلهذه الاعتبارات كان مغريا للفلاسفة كما للأدباء.بل إن هناك وفرة من الفلاسفة الذين كانوا ضيوفا على الجنون ومن أبرزهم فردريك نتشه وكيكجارد..دون أن ننسى الجنون المبدع لفرجنيا وولف وغيرها كثير.. سياق عام يجعل الجنون يتطابق مع العبقرية كما في روايات كافكا وهذيان سرفنتاس الذي صنع شخصية دونكشوط..
لكن على الرغم من الطاقة الخلاقة للجنون فهو في مستوى ثان حرمان للمجنون من حقوقه الشرعية داخل المدينة فضلا عن عزلته واغترابه..ولنأخذ «الشلحة ببيش»نموذجا؛تلك المرأة الأمازيغية التي حرمت من التعليم والتطبيب والسكن اللائق وسواهم..ولكن مع ذلك بقي حضورها في الشارع العام لافتا للانتباه.سواء بتمردها على الصمت والرزانة المزعومة أو في تماهيها مع شواعر الزمن الراهن..وتقاطع شدوها مع مضمون أزجال نعيمة الحمداوي؛تماس يحيلنا رأسا على أن الإبداع عموما يحتاج لكمية معينة من الجنون..وعلى هامش حياة هذه الشخصية الممزقة يطرح السؤال المربك التالي:إذا كان سبب جنون «الشلحة ببيش»حبا محرما ،هل يشفع ذلك للمجتمع «التيفلتي»أن يجعل موتها كحياتها عابرا وقبرها مجهولا..ألا نكرر بإقصائنا للمجنون تلك اللحظة الفادحة التبعات التي عزل فيها روني ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة-عندما استبعد تماما كل القدرات الموازية لحيازة الحقيقة بما في ذلك الحلم والتخييل والجنون..نترك هذا السؤال مفتوحا كما هو جرح الجنون في مجتمع ظالم..يقول السارد بالصفحة23:»كانت ببيش تردد باستمرار مقاطع غنائية تترنم بها في جوف الليل..كانت كائنا لا ينام.من بعيد،من بين نباح الكلاب،أسمع صوتها رخيما موزونا بإيقاع شجي،يحمل أنين الألم وآهات الأسى،تردد وسادتي صداه،وأسيخ السمع فيشدني شدا،وبين الصمت والنطق،كان السواد بلغة الأعماق.»
في الفصل الثاني يصادف القارئ «بوعبيد»المجنون الصموت الدامع العينين،الشاجب للضوضاء الشارد أبدا.علما أن صمته ناتج عن حكمة خلافا للسكوت الناتج عن الخوف.فالصمت إمساك عن الكلام بإرادة لهذا كان صمته أبلغ من سكوت العاجز.مع وجوب الإشارة لطول مدة صمته وإمساكه عن قول الباطل دون حق..بهذا المعنى يعتبر الجنون امتيازا وامتلاكا أما الحمق ففقدان..وقريبا من هذا السلوك جاء شرح كلمة جنون في الموسوعة الحرة باعتباره افتقاد للقدرة على السيطرة على العقل لا فقدانه.لذلك نتصور أن وصف الحمق بالنقصان كامن في كون الأحمق لايميز بين الخير والشر وذلك فيه خطر محتمل على الأخلاق.لنتوقف عند المقطع التالي(ص42):»الغريب أن»بوعبيد»كان كائنا هادئا،لم يكن فاعلا في عالم الضوضاء الذي نحياه.لم يكن يقوم بحركات استثنائية قد تثير الانتباه أو من شأنها أن تسلط عليه عيون الآخرين.كان كائنا جامدا لا حركة فيه،إلا من خطو ثقيل محسوب يقطع به طول البلدة وعرضها.»
في الفصل الثالث عاد الجنون بصيغة المؤنث مع «فاطنة الهبيلة»طارحا سؤال الهوية بكل قلقه وتركيبه..فكانت الفرصة مواتية لمعرفة أنها حفيدة لالة يطو جارية الحسن الأول حسب المؤرخ أحمد التوفيق.غير أن ما يستوقف في شخصية الفصل الثالث هو هويتها العاطفية الجريحة باعتبارها أم لفتاة هاربة من الجذور بسبب قصة حب محرمة فهامت الأم»فاطنة الهبيلة»في الأرض مقتفية آثار البنت دون جدوى..ولربما بسبب جرح فقدان البنت كانت تستمرئ صمت القبور ومناجاة الموتى..وبسبب مجاورتها الدائمة للموتى كان الحديث عنها في الغالب بصيغة الغائب والماضي..يقول السارد بالصفحة 59:»كانت»فاطنة»خيطا بنيا يتجول بين الدروب.هي خيط دقيق صامت يميل أينما الريح مالت،كلما أبصر فجوة كانت منفذة لمتابعة المسير.لا يليق بمقام صمتها السائر إلا استعمال صيغة الماضي:كانت هنا،من هنا مرت،من هنا سلكت،من هنا عبرت..متى كانت ولم تكن..حتى وهي لازالت تمر..سلكت..عبرت..لم نملك لها ذاكرة على عادة الأهالي امتلاك ذاكرة بعضهم البعض.بإصرار جنوني كنا نبحث عن علبتها السوداء.»
في الفصل الرابع صادفنا «إدريس Le fou»المولع بدوره بالاستحمام في نهر البلدة كما «الشلحة ببيش».عادة تحيل من بعيد على حكاية «عيشة قنديشة»المفتونة بالأماكن الرطبة؛ وبالليل تحديدا..غير أن ما يميز هذه الشخصية الرابعة هو عشقها للأعالي سواء أكانت أشجارا أو أبراجا أو صوامع..و»إدريس» في ذلك كان يبحث عن رئة إضافية يتنفس من خلالها هواء الحرية النقي بعيدا عن حمق العقلاء وتلوت أوساطهم.. ولربما بسبب ذلك كان يبالغ في أناقته..رجل كان يفضل الفضاءات المعتمة ومات بصعقة كهربائية وبذلك حق نعته برجل المفارقات الصادمة..لنتوقف عند تعريف السارد له بالصفحة77:»قيل،إن أسرته كانت تسكن بيتا على حافة الوادي،وإن والده كان بستانيا في مشاتل الورد الرابضة في الجهة السفلى من البلدة.قيل إنه منذ صغره،اختار أعلى غصن من الشجرة الباسقة قرب البيت ليقضي بها كامل مساءاته..لطالما زجره والده ونهاه عن ذلك خوفا عليه من السقوط..قيل إن الفتى كان يهوى منذ صغره السباحة في الوادي ليلا،حتى كان ما كان..»
في الفصل الخامس كانت الفرصة مواتية لعيش مفارقة مجنون اجتمع فيه خفة الاسم وثقل النبيذ الحارق.المجنون القريب من الأرض والمداوم على جلسة القرفصاء(فريخ)..مجنون يتجدد معه طرح سؤال العبور الأول للحياة..أقصد أن الناس كانت ترجع سبب جنونه إلى إسقاط أسرته عنوة حفل العقيقة فكان ما كان..وهو في ذلك يحيلنا على قولة الفيلسوف الروماني إيميل سيوران الذي رأى أن معضلة البشر الحقيقية كانت تتحدد في كونهم يولدون دون استشارتهم وأن لا حق لهم في الاعتراض على الحياة إلا بعد المجيء إليها..يقول السارد بالصفحة93:»غريبة هذه العلاقة المبهمة بين الحمقى وأسمائهم،فأغلبهم يعيشون بألقاب إن هي إلا أسماء سميناها(..)حين ظهر بيننا هذا اللامسمى كالمارد فجأة،تقرفص يرخي يديه الطويلتين المغلفتين بكمين فضفاضين،ركبتاه النحيلتان يحيطان بوجهه الصغير،يخفي رأسه الأصلع بين كتفيه،وقد غار قذالة،وقصرت أخاذله كالأحدب.»
ومن اللافت للانتباه أن هذه الشخصية كانت تتمثل النبيذ الحارق ذو وظيفة مزدوجة:فهي كسائل يطهر جراح الجسد الخارجي..كما يجفف تقرحات الداخل سواء بسواء..
في الفصل السادس والأخير،تعاود المرأة المجنونة الطفو على سطح محكيات «العروة الوثقى»امرأة(الزاهية الهبيلة) دائمة الصراخ والبكاء والنحيب.والنواح أنتربولوجيا هو عملية تواصل تحمل الكثير من الفزع..صحيح أن الصراخ الجريح تعبير تلقائي عن الحزن لكن النواح هو درجة أعلى من الحزن يفقد الموجوع فيها القدرة على الكلام قصد الإفصاح عن ألمه..وفي هذا الفصل كذلك يعاود سؤال هوية المجنون و سيرة الأصل الظهور.يقول السارد بالصفحة 109:»كانت الصرخة إيذانا بدخول الزاهية قلب الدرب،تعلن قدومها بصوت شبيه بالزعيق المكتوم،صرير أبواب صدئة دفعة واحدة مع بحة أقرب إلى الحشرجة المانعة الاسترسال في الكلام،وكأني بالزاهية ترغب في قول الكثير،وحين لم يسعفها الكلام والإنصات اختارت الصرخة بابا من أبواب إيقاظ الساقطين سهوا في كلام الليل الذي يمحوه النهار..من منكم عقلاء مسقط رأسي،لا يتذكر صرخة الزاهية الهبيلة..»
نخلص من هذه المحكيات إلى أن ليست حكمة العصور وحدها هي ما يسري فينا،بل إن جنون هذه العصور ليسري فينا بالمثل.فما أخطر أن تكون وريثا دون سؤال كما ذهب إلى ذلك نتشه ذات سياق..ولذلك قلنا في الاستهلال أن تأمل خطاب الجنون في العمق هو محاكمة لرزانة العقل المزعومة..وعلى حد تعبير أندري جيد»إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل..ينبغي التموقع بينهما،بالقرب من الجنون حينما نحلم،وبالقرب من العقل حينما نكتب.»

نص المداخلة التي تقدم بها الباحث في حفل توقيع»العروة الوثقى في أخبار الحمقى»محكيات،عبد الإله الرابحي،منشورات الاتحاد المغربي للثقافات المحلية،2022.


الكاتب : محمد رمصيص

  

بتاريخ : 29/07/2022