الغرب والقرآن 12- الحضور اليهودي والمسيحي داخل النص

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

ترى أنجليكا نويفيرت، بحسب ما يستعرضه الباحث رشيد بوطيب، أن “العلاقة بين الكلمة والجسد في اليهودية والمسيحية تتحقق أيضاً في القرآن… وفي الآن نفسه تنتقد نويفيرت الرأي الذي يصف القرآن بالنص اللاتاريخي والذي يلصق ذلك بقصص القرآن أيضاً، كما هي الحال عند المتخصص في تاريخ الإسلام فريد دونر. فبالنسبة إلى هذا الباحث فإن قصص القرآن تختلف جذرياً عن مثيلاتها في العهد القديم. إنها قصص تخدم فقط الرسالة الأخلاقية ولا تشهد أي تطور يذكر، ولهذا تبدو بالنسبة إليه أقرب إلى شذرات منعزلة. ويبدو النص القرآني نصاً أخلاقياً وليس بالنص التاريخي. وحتى المستشرق الألماني هانس تسيركر يفتقد في القرآن تصوراً خطياً للتاريخ”.
وبخصوص الموقف من الأديان، خاصة ذلك الرأي الذي يقول إن “الإسلام رعاية إلهية للإنسان”، وأن الأديان “ظهرت باستمرار في الماضي وكان هدفها تجاوز الأخطاء الإنسانية وحمل الإنسان على سلوك الطريق القويم”، يذهب الباحث إلى أن نويفيرت “ترى أن هذا الرأي السائد والذي يقول بلاتاريخية القرآن يرجع إلى اهتمام الدراسات القرآنية في الغرب بهذا الكتاب بعد عملية التدوين وليس قبلها، وبلغة أخرى إلى تصورها عنه كوثيقة مغلقة، تتكون من شهادات زمنية وثيولوجية من دون الاهتمام بلغة وأسلوب ومراجع القرآن والتي تؤكد سيرورة التحول التي مرّ منها. إن الأمر يتعلق في رأي نويفيرت هنا بقراءة سانكرونية لا تختلف عن مثيلتها الإسلامية، قراءة تغفل أن القرآن تعبير عن سياقه التاريخي وتنطلق من مفهوم جوهراني للنص القرآني وللنبي محمد. ويعود ذلك في رأيها إلى فعل التدوين. فالتدوين برأيها ثبت صورة عن القرآن ككتاب غير متغير ومفارق للتاريخ، متعام عن فهمه كسيرورة تواصل. وفي نظرها فإن فعل التدوين أو بالأحرى «أدلوجة» التدوين أخفى التفكير الذاتي والمتواصل للمبلغ وجماعته وعلاقتهما التأويلية الخلاقة مع التاريخ التوحيدي والذي وصل في المدينة إلى نوع من التأسيس لتاريخ مضاد للتاريخ الإنجيلي وإلى إعادة كتابة للقصص الإنجيلية عبر قلب أهدافها.
يقول رشيد بوطيب “في لغة أخرى يتوجب فهم القرآن كنص متعدد الأصوات وكحوار مع نصوص أخرى. إنه هبة حواره النقدي مع الأديان التوحيدية خصوصاً. بل حتى في ما يتعلق بطقوسه ولغته، هناك أوجه شبه كثيرة مع اليهودية كشهر الصيام وصلاة الجمعة ومفردة الفرقان التي تعني في الدينين معاً، الكتاب والانعتاق في آن، علاوة على شكل النص، والذي يقترب في مواقع كثيرة وفي نوع من التناص من المزامير، أو حتى أوصاف الجنة التي تستعمل عديداً من المفردات غير العربية كما أوضح ذلك هوروفيتش في كتابه عن الجنة القرآنية. إن نويفيرت لا تجانب الصواب وهي تتحدث عن حضور نصوص يهودية وأخرى مسيحية داخل النص القرآني. لكن القرآن كما نعرف لا يكتفي باستعادتها، بل يعمل على تغييرها والرد عليها، إذ يظهر القرآن لحظة البلاغ كنص متعدد الأصوات، ولا يتوانى البتة عن إعادة النظر بذاته، تكتب نويفيرت.
إن القرآن وبخلاف العهدين القديم والجديد، يتابع الباحث، غير مبني بشكل كرونولوجي، كما أنه لا يقدم لنا تاريخاً لجماعة معينة ولا سيرة نبوية. وعلى رغم ذلك، تقول نويفيرت، فإن القرآن مثل العهدين “كلام نبوي”. إن الاختلاف الكبير بينه وبين سابقيه تجده نويفيرت في ما تسميه بالاهتمام التأويلي. وتكتب قائلة: “إن القرآن بحسب السور المكية لا يريد تقديم جديد، بل يمنح ما سبق تبليغه لغة جديدة”. إنه إعادة صوغ للتقاليد القديمة، لكن القصص الإنجيلية لا يتم قصها لأجل ذاتها، ولكن لهدف تأويلي جديد، وهو ما يفسر البناء الشذري لهذه القصص في القرآن”. تنتقد نويفيرت في هذا السياق الأعمال التي تناولت العلاقة بين العهدين القديم والجديد والقرآن، ومنها أعمال هاينريش سبايرز وهريبرت بوسه وترى أنها اكتفت ببحث تأثير الكتب القديمة على القرآن من دون أن تهتم بالدلالة الثيولوجية لاهتمام القرآن بتلك الكتب القديمة.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 08/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *