الغش في امتحانات الباكالوريا: من سلوك فردي إلى سلوك مؤسساتي

خلال العقود القليلة الأخيرة، أصبحنا نشاهد اختلالا في المعايير الاجتماعية والنسق القيمي، لدرجة أن بعض السلوكات المشينة والممارسات المرفوضة صارت تفرض نفسها كسلوك اجتماعي مقبول، وأظن أن الغش واحد من بينها، حيث أن هاته الجرثومة صارت تنخر الجسم المجتمعي بكل أبعاده وبمختلف قطاعاته.
إن الغش كظاهرة مدرسية تفيد عملية تزييف لنتائج التقويم، كما أنها محاولة غير سوية للحصول على إجابات عن أسئلة الاختبار بطرق ووسائل ممنوعة وغير مشروعة بموجب القانون. وهو أيضا سلوك يعبر عن اضطراب نفسي، نظرا لكون الغش لم يعد مصدرا للحرج والخجل أو تأنيب الضمير إنما دافع للانتشاء والبطولية.
هذا وعرفت نسب النجاح بمختلف الأسلاك الإشهادية، خصوصا الباكالوريا أرقاما قياسية خلال السنوات الأخيرة، إذ اقتربت في بعض المواسم من حوالي ثمانين في المئة في حين لم تكن تبلغ خلال بداية الألفية الأربعين في المئة. الكثير من الآراء -خصوصا الرسمية منها- ترجع الأمر إلى المجهودات الجبارة التي بذلتها الوزارة في سبيل الارتقاء بمنظومة التربية والتكوين، وتجويد العرض المدرسي وكذا عصرنة القطاع …
لكن، واقع الأمر يسير عكس ذلك، فالغش سيد الموقف، وهو المؤشر المسؤول عن ارتفاع نسب النجاح خصوصا في ظل الثورة الرقمية وما تعرفه من تقدم وتطور وابتكار لوسائل دقيقة تسهل هاته العملية وتزيد من انتشارها بشكل واسع، حتى صار الغش وجها من أوجه الامتحان الذي لا يمكن لا تحاشيه ولا تغافله.
وفي الوقت الذي كان الغش في ما مضى عملا مقرفا ومخزيا يندى له الجبين، وكانت تتخذ في حق مرتكبيه أقصى العقوبات، نجد ان نظرة المجتمع للغش عرفت تغير مثيرا، بحيث تم تلطيف المفهوم وصار ينظر اليه كونه مكسبا وحقا مشروعا، وهذا ليس وليد اللحظة إنما هو نتاج سيرورة زمنية تداخلت فيها مجموعة من العوامل سواء الذاتية منها أو الموضوعية، مما صعب معه توجيه أصبع الاتهام إلى جهة معينة لضلوعها في تفشي الظاهرة.
وكما سبق وأشرنا فإن أسباب هاته الظاهرة متعددة، منها ما هو متعلق بتعثر التلميذ وعدم تمكنه من الكفايات الأساسية، وضعف قدراته ومحدودية معرفته التي قد تساعده على التحصيل واكتساب مهارات جديدة، إذا يجد نفسه غير قادر على مسايرة إيقاع التعلمات الشيء الذي يولد لديه شعورا بالإحباط مما يدفعه إلى إهمال واجباته ويلجأ للغش للتخفيف من الضغط الذي يخلفه الفشل أو الخوف من الرسوب. كما أن صعوبة المنهاج المدرسي وتشعب دروسه وفقدان بعضها للمعنى وجمود بعضها أو ضعف ارتباطها بالواقع وغرقها في النظري بدل التطبيقي كلها أمور تقلل الدافعية للتعلم.
الغش لم يعد يشمل فقط المتعثرين الذين يحلمون فقط  بالنجاح والظفر بالشهادة، إنما المجتهدين أنفسهم ورغم قدرتهم الحصول على معدل مميز إلا أنهم يطمحون الوصول إلى معدل أعلى لإرضاء غرورهم وللتمكن من ولوج الكليات والمعاهد العليا خصوصا الطب والهندسة أو ضمان الانتقاء في إحدى المباريات، بمعنى أنهم يسعون إلى آفاق تفوق إمكانياتهم وقدراتهم المعرفية.
ولا يخفى أن معظم الإدارات التربوية تكون متواطئة من خلال تكليف أساتذة دون غيرهم بالحراسة حتى تمكن التلاميذ من الغش واستخدام كافة الوسائل في سبيل ذلك، كما نجدها تتستر على حالات الغش للحفاظ على سمعة المؤسسة وتترك انطباعا إيجابيا لدى الجهات العليا، اعتقادا منها أن مصداقية المؤسسة تقاس بانعدام حالات الغش وارتفاع نسب النجاح.
إلا أننا نجد أن الإدارة نفسها تتعرض لضغوط من جهات أخرى، بحيث أن نسبة النجاح يجب أن تتجاوز عتبة معينة وإلا تعرضت لكثرة الاستفسارات وزيارات اللجن، فضلا عن محاربة الاكتظاظ، فكلما كانت نسب الرسوب مرتفعة تطلب الأمر الموسم الموالي توفير حجرات إضافية وتعيين أطر جديدة الشيء الذي يستحيل مع ضعف الإمكانات المادية.
وبالعودة إلى المراقبين، فإننا نجدهم فئة غير متجانسة ومتباينة الارتباط بالمهنة، فمنهم المتسامحون مع الغش والمعطلين لمساطيره القانونية بعدم كتابة التقارير، والمتساهلون مع الغشاشين باسم العامل الإنساني والرأفة بالممتحنين وأسرهم ومراعاة ظروفهم المزرية، والمتواطئون معهم من خلال تقديم اجابات، وفي كثير من المرات يكون بالسطو على إجابات ومجهودات تلاميذ متفوقين بنفس الفصل. وهم عموما فئة محببة تبعث الأمان في نفسية الغشاش، وتوصف على أنها متضامنة ناكرة للذات ومتفتحة مسايرة لروح العصر، وهم لا يدرون أنهم يغذون ثقافة الاتكالية والريعية ويكرسون الحرتقة والكسل. وبالموازاة مع ذلك، نجد فئة أخرى غير متساهلة تحرص على إقرار مبدأ تكافؤ الفرص والتنافس الشريف والحفاظ على المناخ السليم للامتحانات، وهاته الفئة دائما ما تنعت بالصرامة الزائدة، والعقلية القديمة والمتزمتة وعدوة للنجاح.
أما عن المغششين، والسبب يرجع عموما إلى الخوف من التعرض إلى الاعتداء من طرف التلاميذ أو ذويهم في ظل الغياب شبه تام للضمانات القانونية وانعراجات المساطير، لذا ومن أجل تجنب التوتر والاحتقان داخل القاعة يصرفون النظر عن الفوضى، ويتفق علماء النفس أن شخصية هؤلاء سلبية ومستسلمة وضعيفة، ومنهم من يرغب في تعزيز ثقته بنفسه عبر مده يد العون وتوسله الحب والاحترام وكذا إظهاره نوعا من الشهامة والمروءة المزيفة اعتقادا منه أنه يقدم خدمة للتلميذ والمجتمع. بالإضافة إلى اعتبار الحراسة تخرج عن نطاق مسؤولياتهم، وأنهم يشاركون في العملية مكرهين، ولاعتقادهم أيضا أن الدولة تشجع على الفساد، وهكذا يصبحون على يقين أنهم مجرد ضحايا وأنهم جزء من مسرحية يجب أن يجسدوا من خلالها دورهم. لكنها ربما تبقى مجرد حجج واهية، والدليل ان حالات الغش في صفوف باكالوريا احرار -غير المحسوبين على أي مؤسسة- مرتفعة ونسب النجاح متدنية، علما أنهم نفس الأساتذة واللجن والملاحظين الذين يسهرون على عملية التقويم، بمعنى أنه بإمكانهم القيام بواجبهم بنفس الشكل داخل مؤسساتهم وخارجها.
ومن بين الأسباب الأخرى نورد أيضا الصورة النمطية التي كونها المجتمع حول المدرسة، من جهة لتراجع أدوارها التثقيفية والمعرفية وما رافقها من الإجهاز على ثقافة الاحترام والاعتراف بالأستاذ، الذي تحول هو نفسه إلى مجرد تقني يقدم خدمة اجتماعية مقابل أجر معين، ومن جهة ثانية عدم ملاءمة التخصصات واستجابتها لسوق الشغل، الشيء الذي يفرغ الشهادة المحصل عليها من قيمتها العلمية والفكرية بل وحتى الرمزية والاعتبارية. وتبعا له، أصبحت المدارس مجرد حضانات تفرخ المعطلين والأميين.
ولا يمكن إغفال انعكاسات الغش والتواطؤ مع الغشاشين، خصوصا وأن المدرسة تعد العمود الفقري للمجتمع تصب أطر في كافة القطاعات، فالغشاش ليس بعيدا أن يصبح طبيبا أو مهندسا او استاذا ومن يضمن أنه لن يبالغ في انتهازية وريعه وطمعه، ومن يضمن أنه سيكون مؤهلا مهنيا لمزاولة وظيفته، ومن يضمن أيضا أنه سيعيش وفقا للمعايير والقوانين الاجتماعية وليس وفقا لمآربه ومكاسبه الشخصية. إن التطبيع مع الغش يجعل المجتمع متفسخا مزيفا ويجعل قيم الشفافية والعمل الجاد المتقن معطلة.  وعلى النقيض منه، يكرس الهروب من المسؤولية وهيمنة ثقافة الشكوى والاحتجاج الفارغ  والميكافيلية وانتشار الميوعة والسلبية وتجذير التطبيع مع مختلف أشكال التزوير. وأي دور يمكن لأمي حامل لشهادة وذي تكوين لغوي ومعرفي ومهارتي متدن وهزيل أن يلعبه داخل مجتمعه ؟
وفي الأخير، لا يسعنا إلا أن ننبه إلى ضرورة تطوير نظام التقويم التربوي وتنويع أساليبه وتحديثه؛ واعتماد الاختبارات الشفهية في المستويات الاشهادية؛ ووضع أسئلة تحفز ملكات النقد والتحليل بدل الأسئلة السطحية التي تستدعي الحفظ؛ وتغليب الكيف على الكم في المناهج دون أن ننسى اعتماد الوسائل التكنولوجية والرقمية في الحراسة والتشويش على شبكة الاتصال.


الكاتب : بدر الدين القاسمي 

  

بتاريخ : 14/07/2022