«القادم من جهة الريح» للشاعر محمد زين هيجان.. الزمن القادم والضجيج والفوضى

 

بدعم من المجلس الجماعي آيت أورير، وفي سياق الاحتفاء بالذكرى العشرية لتأسيس مدارات الثقافية، نظمت جمعية مدارات للثقافة والفنون ، النسخة الحادية عشر من برنامج «مبدع على مائدة النقد»، والذي استضاف رئيس منتدى «رع» للثقافة والإبداع، الشاعر المغربي محمد زين، احتفاء بديوانه الشعري الموسوم بـ:» القادم من جهة الريح»، وذلك عشية يوم الأحد 15 أكتوبر 2023م.
تخللت فقرات هذه الجلسة كلمة ترحاب بالحضور الكرام، من تقديم المسيّر؛ الشاعر ذ. صلاح الدين بَشَر، الذي توقّف عند شعار الجمعية، ومفاده أنْ (لاتنمية شاملة بدون تنمية ثقافية)، يندرج ضمن التصور العام الذي راكمته أنشطة الجمعية، وهذه الفقرة التي واظبت على ترسيخها كنشاط ثقافي فاعل يهدف إلى الاحتفاء بألمع المبدعين على الصعيدين الوطني والعربي.وفي هذا الصدد تم تقديم كلمة ترحيب وشكر وعرفان لمجهودات الجمعية برئاسة المهندس الثقافي، الشاعر والتشكيلي محمد منير، أعرب فيها عن ماهية التأسيس الجاد للفعل الثقافي بآيت اورير.
بعد ذلك قدّم الأستاذ الناقد سعيد فرحاوي ورقة تحمل بعدا إنسانيا وثقافيا، مؤسّسا علاقته بالمنجز الشعري للشاعر محمد زين، انطلاقا من قولة التشيلي بابلو نيرودا «ما لا يمسّ عواطفي لا يعنيني»، يضيف قائلا: «تعرّفت على محمد زين من خلال ديوانه «يقظة الظل»، وأنا على يقين بأنّ ما يربطني بالأعمال الإبداعية، يتجسّد من خلال عاملين، هما «الزمن والجودة»، كما أعتبر أنّ كل مبدع ينتج أثرا، يكون في سبات، والقراءة النقدية توقظه من هذا السبات لتجعله يصهل بيننا، فعندما زوّدني الشاعر بديوانه «يقظة الظل» كان من الدواوين المتأخرة، لكن عندما تجوّلت في قصائده، شدّني إليه ولم أفارقه حتى انتهيت من دراسته نقديا، وتقاسمت هذه الورقة مع الشاعر محمد زين، ليجيبني «كأنّك كنت تُنصت لي لحظة إنتاج هذه النصوص»..»، والمستفاد من هذا أنّنا أمام رؤية هادئة للعالم والكون.
وعندما قرأت الديوان الثاني، تحت عنوان: «القادم من جهة الريح»، لاحظت هذا الانتقال من الهدوء إلى الهيجان؛ هيجان الزمن القادم والضجيج والفوضى، يخلق الشاعر إرباكا ودرجة دهشة عالية، تجعل القارئ يتساءل عن ما علاقة الريح بالقادم من جهتها؟
هذا السؤال لا يقصد منه البحث عن المكان، فالجهة هنا Modalité، بمفهومها النظري الذي يتأسس على القيم والدلالة الجهيّة، متمثلة في «الرغبة والواجب والمعرفة والقدرة»، فالقادم يحمل أربع محددات تستطيع نقل الريح.
إنّه خروج الشاعر من واقعنا، واختيار العزلة، ذلك أنّ الالتحام بالآخر فيه رفض وعدم الرغبة في الانسجام، هذه التعالقات الإبداعية التي ينطوي عليها مشروع الديوانين معًا، إنّما تنبني على التناقض والمشاعر المتوترة وحالات من التشظّي.
وفي مداخلة ثانية للناقد الأستاذ سعيد بوعيطة، والتي وسمها بـ: «شعرية التضاد في ديوان «القادم من جهة الريح، للشاعر المغربي محمد زين»، مسترشدا بقولة الناقد الفرنسي جان ايف تادييه « بدلا من تحويل العالم من خلال الأفعال، فإننا في الواقع، نستمر في إظهاره من خلال جعله ملموسا من خلال الكلمات»، من كتابه «النقد الأدبي في القرن العشرين»، مؤشّرا على تجاوز الإبداع لنظرية المحاكاة الأفلاطونية، باعتبار أنّ الأدب الحقيقي ينبني على رؤيا إبداعية للوجود والكون، لبناء عوالم ممكنة وردم الهوة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون من خلال رؤيا المبدع، مثلما ذهب أدونيس في زمنه الشعري قائلا: «لعلّ خير ما نعرف به الشعر الجديد هو الرؤيا»، وحتى في ثابته ومتحوّله «إنّ الرؤيا تكشف عمّا يعدّه العقل مُحالا، كأنْ تجمع بين النقيضين».
هذه المداخل، تسعفنا في قراءة أولية للديوان الشعري «القادم من جهة الريح» ،حيث تكشف عن كون النصوص، تندرج في هذا التصور العام للإبداع الشعري، مما يدخله في مصافِّ «شعر الرؤيا»، لتتحقّق القيمة الأساسية للتضاد من خلال القدرة على تجاوز الشكل إلى الدلالة، ولأنّ التقابل في الأسيقة الشعرية، ليس مجرد تقابل لفظي، بقدر ما يحمل أبعادا نفسية/ رؤيوية، ترصد قدرة الشاعر الجمع بين المتناقضات والمقابلة بينهما على نحو يبرز إحساسه بسطوتها، فتصبح تراكيب التضاد أداة تحمل غاية الشاعر وترسم النظام الذي يحكم علاقاتها.
إنّ قيمة التضاد الأسلوبية، تكمن في نظام العلاقات الذي يقيمه الشاعر بين العنصرين المتقابلين، ومن أبرز الثنائيات التي يحفل بها الديوان، ثنائية الأنا والآخر وثنائية الكائن والممكن.
تكشف البنية الأولى عن الذات المتشظية التي توحي بحدة الصراع الداخلي، كاشفا عن رؤية الشاعر للكون والوجود، يقول الشاعر في قصيدة «لا أحد أحدّثه عنها»:
تَزْحَفُ دَقَّاتُ قَلْبِي
عَلَى بَطْنِهَا
انْشقّتْ
تَحْفِرُ فِي جُذُورِي
وأنا أتحيّنُ بِحَدْسِي
لَحْظَةً مَا لِأَبُوحَ بِحَقِيقَةِ
مَفْعُولاَتِ الوُجُود
حَيْثُ تَجَاعِيدُ المَجْذُوب
يُلْجِمُ فمَ التَّأْوِيل.
ص 56.
لا يشكّل وقوفا بالقرب من النفس أو مناجاتها، لكنه وقوف أمامها، إذْ لا يكتفي الشاعر بـ: « لا أحد/ أنا» ليثير المتلقي بهذا التضاد، لكنه يُعمّقه بـ: «أنا لا هو»، فلم يعج هو ذاته ولا حتى الآخر، وأمام هذه الفجوة بين الذات والآخر يتعسّر على المتلقي استيعاب حجم هذا التأزم الظاهر في جلّ قصائد الديوان، والتي نذكر منها بعضا «انقباض وانبساط ص 23، أقنعة محنّطة ص49، شديد الملوحة ص 84، القادم من جهة الريح ص 84»، تعكس هذه النصوص تضادا قائما على الغياب والحضور وتداخل الأصوات من متكلم ومخاطب وانشطار الذات.
وتبرز الثنائية الثانية التي تستند إلى إوالية الكائن والممكن تسليما واستسلاما للواقع والتحولات الحادة، دفعت باتجاه خرق السائد والمألوف، من خلال استبدال الصور المبنية على شبكة من علاقات التضاد، ولعلّ النص الشعري «عذْبٌ أجاج وملحٌ فرات» يُعدّ نقطة ارتكاز وتكثيف لهذه الرؤية الفلسفية، إذ لجأ الشاعر إلى شحن النص بسؤال الكينونة عبر آليات لغوية قائمة على خطاب المواجهة، مُصِرًّا على تعرية الذات من أكثر الصفات التي التصقت بها، وتجريدها من مظاهر القدرة على إحداث التغيير.
وفي نهاية الحفل الذي حضره حشد كبير من الأدباء والمثقفين والشعراء من مدن مختلفة، قرأ الشاعر محمد زين باقة من قصائد الديوان، كما وقع مجموعة من ديوانه الشعري ووزعها على الحضور، كما وُزّعت شهادات اعتراف وتقدير للشاعر المحتفى به والسادة الأساتذة والنقاد المشاركين وفعاليات جمعوية بالمنطقة.


الكاتب : محمد منير

  

بتاريخ : 01/11/2023