القلق السردي في «وداعا شوبنهور» لعبد السلام الجباري

المبدع والفيلسوف السي عبد السلام الجباري … يعتبر بطلا نيتشاويا ، لما يتمتع به من ازدواج في الشخصية : – القوة والعظمة والتراجيدية … أو العقلنة والعربدة … إن جاز هذا التعبير … من حيث المنطق الإستيطيقي مع اختلاف بسيط ، هو أن الفيلسوف ليس فيه ولو ذرة قبح ، أو حب التدمير والكراهية للآخر … يعني بعيدا عن تلك الإثنية : – إنساني ولا إنساني … خيري وشرير … الفيلسوف مترفع عن كل هذه الدناءات أو التصنيفات ، لأن السي عبد السلام … عالم آخر … شيء آخر … لا أول له ولا آخر … لا بداية له ولا نهاية .. ( أستغفر الله العظيم).

دلالة العنوان

« وداعا شوبنهور « … انطلاقا من عدة اعتبارات براغماتية ، فللعنوان دلالات جيوإنسانية … إن صح التعبير … عنوان يحيلنا على حالة من اليأس والحزن والتشرذم الافتراضي … الوداع … الهجر الأبدي لربما … الهجر المفروض أو المفترض ، والذي يبعث على الحزن … الحزن عما ضاع … الحزن على الفقد والافتقاد … لذلك رفع يده مودعا : – « وداعا شوبنهور «

الدلالات الغرائبية

دلالات فلسفية خارجة عن المألوف ، قوامها الترميز والإيحاء المفتوح على كل التأويلات … فهو يمتلك خصوصيات في الشكل والرؤية الفلسفية إلى الحياة ، من الخلف … من الجانب الغرائبي ، بأسلوب يميل إلى التكثيف والترميز ، بلغة متمردة غاضبة ومحتجة ، وبتعبير حاد متشبع بالعذابات والمآسي ، التي توحي باغتراب الإنسان عن واقعه ، واقع يعريه بأبعاد فنية ودلالات تعبيرية إبداعية:
البعد الدلالي والإبداعي
هي الفلسفة السردية عند فيلسوفنا الجباري … لا أقول عنها أنها هراء، بل هي سرديات مفتعلة، مستخلصة من الخيال الآس، أو من الوسواس القهري كما يسمونه … أو قد تكون فلسفة الماوراء … ما وراء الطبيعة مثلا … أو ما وراء الكتابة ، حتى وإن كانت الكتابة اغتسالا من ذنب الواقع بفوضوية الكتابة ، أو ملاعبة امرأة في بداية الليل أو حتى في آخر الليل … أو بداية القصة … أو نهاية القصة.
من يقول بعد اليوم بأن « الفلسفة لئيمة « فأنا براء منه، لأني اكتشفت أن الفلسفة هي المعرفة الحقة … في شموليتها … خاصة بعدما اطلعت على فلسفة الجسد سواء عند قراءتي لديوان الشاعر المصري المتمرد : محمد آدم : – « أنا بهاء الجسد واكتمال الدائرة « التي سنرى لاحقا … أوإيروتيكية القاصة المغربية : نعيمة القضيوي الإدريسي في : – « مضاجع ملغومة « ، أوعند فيلسوفنا الجباري ، من خلال قصة : – « موروكو مول « وقصص أخرى، خاصة فلسفة الاكتناز أو الامتلاء الجسدي، التي جاد بها علينا من بنيويته الإيحائية، والذي رد الاكتناز والامتلاء إلى عافية الجسد واستعداده لأية ممارسة، خاصة الجسد الأنثوي، الذي يتوفر على قدرة الحمل والتحمل ساعة الإبحار والامتلاء في متاهة اللذة … فالجسد عنده أجساد … هناك من يفتح الشهية على مصراعيها … وهناك من يسدها بألف قفل وقفل، ويحرق الرغبة مهما كانت متأججة.
في قصة « الشركي … ذلك الملتهب « … حيث الثمالة تجعل لساننا يطول بلا حدود، ويتكلم بلا لجام، ويخوض في الأعراض بلا قيود، فتصبح الأعراض مباحة وبالجملة ساعة الهذيان والخروج عن طاعة العقل … إن بقي فيه عقل … وركوب صهوة فلسفة الثمالة ، التي تعد طريقا معبدا إلى التفلسف، وعن طريقها استطاع فيلسوفنا أن يجر للفقيه الشركي لسانه الساقط ، لمعرفة عدة أشياء تخص القيم … في غياب القيم … الحلال … الحرام … الذي يجوز … وما لا يجوز … لكن في عرف الفقيه الذي يخط خطوط بين نهدي امرأة عذراء أو عجوز، كما في عرف النبيذيين كل شيء يجوز … هي الفلسفة هكذا، تجيز ما لا يجوز، وإلا لما سميت بفلسفة.
في قصة : – « ميمي … الشيخ عاد « … فالفيلسوف، أي فيلسوف هو كغيره من البشر، مثلما يحافظ على الفلسفة بتشعباتها … فلسفة الذات … فهو في المقابل يحافظ على فلسفة الملذات، باعتباره إنسانا خارجا عن الذات، خاصة حين استعصى عليه إدراك مفاهيم : – الفوق … والتحت … أو عندما أصابه نوع من الهذيان من فرط مرض الثمالة كما قال وهو يتلصص على « ميمي « وهي تتحرر في خلوتها من كل ملابسها حتى الداخلية لتلبس عريها ، وتمارس الشبق على جسدها الملاطي، وهي تتحسس النهدين وما بين الفخذين بتلذذ ، في انتظار الذي قد يأتي أو لا يأتي، لذا فهي دائما على استعداد بدليل أنها تنبههم : – ( إذا جا حبيبي نوضوني ليه )، رغم الثمالة اللعينة، فهي مستعدة لكي تموت بين أحضان أو فخذي رجل يبادلها العري المطلق … والشبق المطلق … وحتى الولوج المطلق … والمطلق في المطلق ، هو اللامنتهى من اللذة التي تمارس فوق أسرة وثيرة، أو في الطبيعة المتحررة فوق الحشائش والأعشاب، أو حتى وقوفا تحت ظل شجرة ، أو فوق الشجرة ، على غرار : – « أبي فوق الشجرة « … المهم هي الممارسة ، سواء فوق أو تحت … هكذا هي الفلسفة الواقعية ، أو حتى الافتراضية.
في قصة : – « كاميليا « … التي مات زوجها في حادثة سير، عندما لبى لها رغبة قضاء عطلة بالشمال، بحثا عن السعادة اللحظية، لكن الشقاء كان لها بالمرصاد.
الحياة تسير بالمقلوب : ( عكسية ) تماما كما الفلسفة، ويضرب لنا الأمثال ب: – ( ديوجين ) عندما حمل المصباح وخرج إلى الشارع بحثا عن الحقيقة، كانت تلك هي البداية الحقيقية لمشروعه الفلسفي …وعندما تجرع ( سقراط ) السم، كانت تلك بداية ظهور فلسفة العدالة : – الفضيلة علم … والرذيلة جهل … وحين كتب ( أفلاطون ) : « الجمهورية « رأى أن الدولة يجب أن يحكمها الفلاسفة، وأن العدالة قائمة على الطبيعة لا على العرف … والشيء نفسه ينطبق على فلسفة ( أرسطو ) عند كتابته لـ : « الأراغون « . فهو يرى بأن هذه الفلسفة تنطبق على حياة ( كاميليا ) التي تعانق السراب، ( كاميليا ) التي تبادل الآخر النزواة الخارقة ، فيطعمها الموز لحظة الجوع الجسدي، من فوق ومن تحت، وهو يخط على جسدها العاري رسوما وعلامات بالقلم الحبري، أو بماء الغيب.
في قصة : – « المارشال « … يدخلنا متاهة السومة الجسدية كراء أو احتلالا جنسيا ، وإن كان الكل يتفق على النظرة القائلة» عندما تنطفئ الأنوار تتساوى النساء ، لكنها لا تتساوى في السومة الكرائية ، فكل جسد ( وكراه )، والأمثلة ماثلة أمامنا من خلال صاحب الدار « المارشال « … فللعهارة دور مخصص للإبحار وركوب المقدمة أو المؤخرة حسب القابلية والاتفاق، في رحلة جنسية عاهرة ، قد تطول أو قد تقصر، حسب القدرة ، أو حسب احترافية المضيفة التي تستضيف المبحر لرحلة عابرة عبور فجها العميق بثمن بخس دراهم، يكون فيها التزهد : حسب اكتناز الجسم … وحسب نسبة الجمال … وحسب الحرفية للاعبة اللعون والحرون … بل حسب ما تقدمه وما تؤخره من ألعاب مثيرة للهيجان.
أما في قصة : – « العيادة « … قد تكون عيادة مرضى عاديين … أومرضى غيرعاديين … مرضى المجتمع … مرضى التخمة السياسية … المرضى الذين يأكلون حد التفه والتخمة … يأكلون وكفى ، لا يفرقون بين ما يأكلون … الحلال … والحرام … الأخضر واليابس … يأكلون ما تشتهي أو ما لا تشتهي أنفسهم من ملذات، وما تشتهي فروجهم من أجساد لذة للمبحرين في ماء الغيب … إنها الكلاب الآدمية التي تأكل من مزبلة الحياة التي يحكمها منطق الغاب … دون تعفف.
في قصة : – « الخفافيش لا تسير إلا نهارا « … مخالفة للطبيعة والمنطق … لأن الخفافيش سواء الحيوانية أو حتى الآدمية ، لا تطير ولا تسير من حان إلى حان بحثا عن سفر جسدي مرتقب، ومتعة الألحان إلا ليلا، لقراءة رشاقة الجسد وجغرافيته، برسم خط مستقيم يصل السرة بالفج العميق، وإلى عين الظهر في رحلة عكسية ، كما هي الفلسفة دائما … الفلسفة التي تقرأ بالمقلوب على حد قول فيلسوفنا الجباري، الذي يرصد حياة امرأة من الذاكرة … مهما كانت مستعصية.

الدلالات السفسطائية المفترضة

لا أريد أن أصدر أحكاما عشوائية على الفيلسوف لأني أرى وأقر أولا بأنه فيلسوف بالفطرة ، حتى وإن كان يتملص أحيانا من الانتماء إليها أو التبرؤ منها، لذلك فأنا أرى بأن مجموعته : – « وداعا شوبنهور « : كتاب جدل وشغب للوصول إلى الحقيقة … النسبية أو المطلقة … عن طريق الحجة والبرهان والمنطق السفسطائي ، الحجة التي تجعله دائما على صواب وأقرب إلى الحقيقة المبتغاة ؛
ثانيا أتساءل : -لم اختار (شوبنهور) تحديدا كعنوان ؟ .. هل هو تأثر وشغف بهذا الفيلسوف المتشائم الجهم ..؟.. الذي يرى الحياة كلها تعاسة وأحزانا، وأن الوجود كله شر، الشيء الذي دفع به إلى كتابة: – ( وحين يكون الحزن وحده ) سابقا … ثم ( وداعا شوبنهور ) لاحقا
لكن حضور ثلث من الفلاسفة في هذا اللاحق أو ذاك السابق جعلني أحتار لأي منهم أنسبه ..؟
شوبنهور يكره كل الحقائق بتشاؤمه؛
أفلاطون يبحث عن الحقائق وإن لم تكن مطلقة؛
سقراط يعتبر المعرفة هي الفضيلة التي يصبو إليها فيلسوفنا الجباري ، وإن لم يكن لها وجود حقيقي في الواقع المفترض أو إلى الفيلسوف الكلبي ( ديوجين ) الذي بسبب خيباته العاطفية ، أصبح ساخرا وساخطا على كل شيء في هذه الحياة التي حكمت عليه بالعيش في برميل، يقضي يومه حاملا فانوسا بحثا عن الحكمة، التي أبدا لم ولن يصل إليها.
خاتمة
فالفيلسوف السي عبد السلام الجباري ينتمي إلى المدرسة الواقعية ، مدرسة الحياة ، التي تعلم منها كيف يختار الصديق، وكيف يميزه عن العدو، حيث اقتفى من خلالها خطو كل من : – محمد زفزاف ، ومحمد شكري ، وإدريس الخوري ، باعتبارهم أهل العلم والفتوة ( بتشديد الواو… الوسطى )، وباعتبارهم كذلك متمردين على الواقع المحزن دون نفاق أو محاباة
وانطلاقا من مقولة : – فريد الدين العطار : – « لا أفعل الخير الذي أريد، لكن أفعل الشر الذي لا أريد « … نجده يرصد لنا ملامح هذا الواقع ، وينتقده بطريقته المثلى بكل ما أوتي من إبداع ، دون خداع أو نفاق ، مقتفيا أثر : – فريديريك نيتشه، مطبقا مقولته الشهيرة : – « لم يستطع أي ألم ولا ينبغي له أن يحملني على أن أشهد زورا في حق الحياة كما تبدو لي « … مستلهما قصصه من التراث والمخزون المعرفي والثقافة الإنسانية ، معتمدا العبثية في خلق الأشكال الإبداعية الجديدة والمتجددة ، المقتبسة من الحياة العامة ، وحتى الخاصة في أحايين كثيرة.
السي عبد السلام الجباري … هو في حد ذاته قصة لم تكتب ولم تقرأ بعد.


الكاتب : محمد الكلاف

  

بتاريخ : 04/02/2022