الكاتب والباحث المصطفى اجماهــري لـ«الملحق الثقافي»:

ورش الكتابة عن التاريخ المحلي ورش مفتوح، يحتاج إلى مجهود مؤسسي

 

الباحث والكاتب المصطفى اجماهري، بيضاوي المولد، لكن حنينه أبدا لآخر منزل: الجديدة، والتي لا يمكن تجنب اسمه، عند ذكر هذه الحاضرة، وقد كتب فيها وعنها أزيد من أربعة وعشرين مؤلفا باللغة الفرنسية. من أهمها: «ببليوغرافيا تاريخ الجديدة»، و»حاضرة مازغان»، و»القنصليات الأجنبية بالجديدة»، و»دليل الجديدة ونواحيها»، و»ميناء الجديدة .. التاريخ المجهول»، و»الطائفة اليهودية للجديدة»، و»مازغان، قرنان من التاريخ القنصلي»، و»الوقائع السرية لمازغان 1850-1950»، و»ذكريات مغربية .. الجديدة زمن الحماية»، و”مازغان، تراث عالمي للإنسانية»، و»الفلاحون الأجانب بدكالة». وآخر إصداراته « الجديدة، «شذرات حياة»(2020)، بالإضافة إلى أعمال أخرى في القصة والرواية.
في هذا الحوار يكشف لنا المصطفى اجماهري عن سياق مشروعه التطوعي البحثي، ضمن سلسلة «دفاتر الجديدة»، منذ 1993 ، وعن دور عبد الكبير الخطيبي في التأطير والتوجيه له، كاتبا في سوسيولوجيا المدينة، والتاريخ المحلي والذاكرة الحضرية للجديدة/مازاغان، نافيا أية نزوعات انكفائية، عن اختياره، مسوغا حقه في انجذابه إلى هذه المدينة واهتمامه بالبحث عن الهامشي في تاريخها ومجالها، وهنا يلتقي مع الخطيبي في الالتفات إلى الهامش والهامشي, وبحكم الصداقة الفكرية التي جمعته بالخطيبي، فقد تداولا في بعض الشخصيات الفرنسية التي كانت تربطها علاقة صداقة مع «الرايسي» جد الخطيبي وقد أفاد هذا الأخير في روايته «حج فنان عاشق» من معطيات وفرها الباحث اجماهري, أضاء لنا المحاور، جملة من التفاصيل في الفكر والإبداع عند الخطيبي، مثل إبداع الكتاب لقرائه، واندراج الكتابة في مشروع، والفرنكفونية واللغة العربية، وإصلاح التعليم …وزوايا أخرى من حياته كالسباحة وكرة القدم.

 

الباحث المصطفى اجماهري، صدر لك مؤخرا كتاب بعنوان:» الجديدة، شذرات حياة»(2020) استحضرت فيه شخصيات وعائلات منحدرة من عاصمة دكالة. وهو الكتاب 21، ضمن سلسلة «دفاتر الجديدة» التي كان من ورائها عبد الكبير الخطيبي. الجوانب التي كتبت عنها: الشهادات، الببليوغرافيا، الطب، زمن الحماية، الصحافة، المقاومون، الفلاحة، الميناء، التاريخ القنصلي، الطائفة اليهودية…ماذا تحضر في هذا الورش المفتوح وزادك التطوع؟

مشروع «دفاتر الجديدة» هو ورش بحثي تطوعي أطلقته سنة 1993. وقد جاء التفكير فيه، بعد مشاركتي في محترف للكتابة نظمه الراحل عبد الكبير الخطيبي بالجديدة سنة 1990، في محور «الكتابة والجهة». وكان الراحل هو من شجعني، على الانخراط في مجال البحث المحلي، واستمر التواصل مع الراحل بعد ذلك، إلى قبيل وفاته.
أما بالنسبة لكتابي الأخير «الجديدة، شذرات من الحياة»، فيشتمل على أكثر من ثلاثين مقالة وشهادة سبق نشرها متفرقة في الصحافة المغربية خلال العشر سنوات الأخيرة، وتتعلق بشخصيات وعائلات مغربية وأجنبية، تنتمي لمدينة الجديدة. تعرض هذه النصوص، مسارات وتجارب حياتية، لا تخلو من طرافة، كما تكشف عن وقائع ومعطيات عن المدينة، في الأزمنة السابقة، خاصة في بداية القرن العشرين. وقد جاء نشر هذه الباقة من النصوص استجابة، من جهة، لرغبة مجموعة من القراء المغاربة والأجانب المهتمين بالتاريخ المحلي وبالذاكرة المشتركة، ومن جهة أخرى، اعتبارا لكون جمع هذه النصوص في إضمامة واحدة، سوف يحفظها من الضياع.
وبطبيعة الحال، فهذا ورش مفتوح، يحتاج إلى كثير من اليد العاملة، والجهد المادي والمعنوي. وكما سبق أن قلت في عدة مناسبات، فهذا النوع من البحوث المتعبة، لا يشجع الإقبال عليها، ويبقى أمر إنجازها محصورا غالبا، في باحثين يتصفون بالصبر والتحدي. أما مشروعي القادم، فيتعلق بكتاب على نفس منوال الكتاب السابق، سيضم شهادات لشخصيات مختلفة، حول المدينة كل منها تضيء جانبا من الجوانب.

يتجدد لقاؤنا حول الكتابة والتجربة عند عبد الكبير الخطيبي، وقد قيض لنا سويا أن نشارك ضمن كتاب جماعي: «الكتابة والتجربة» حول مشروع عبد الكبير الخطيبي الفكري والأدبي، أشرف عليه الشاعر والباحث مراد الخطيبي (جمعتنا دكالة، وإن كنت دكاليا فقط من جهة والدتي).
التخصص في الكتابة عن مازاغان/الجديدة، ألا يكون هذا الاختيار مجرد تعبير عن جهوية ضيقة؟

أظن أن البحث في الشأن المحلي، وفي سوسيولوجيا المدينة أمر نبيل، ولا ينم بتاتا عن أية جهوية ضيقة. ذلك أن من شأن الاهتمام بهذا المجال، إغناء معرفتنا بالمحيط القريب، في ارتباطاته بالوطني والدولي، وكذا الحفاظ على شذرات الذاكرة الجماعية من الضياع والتلاشي. وبالنسبة لمدينة الجديدة، علينا ألا ننسى النداء الذي أطلقه سنة 1981 بهذه الحاضرة، العلامة محمد المنوني، في المهرجان الثقافي لدكالة، والذي أوصى فيه بكتابة تاريخ المدينة، وجهة دكالة، مع إنشاء خزانة توثيقية لدعم الباحثين. لكن للأسف، ظلت توصية العلامة حبرا على ورق. كما يجب القول، بأن البحوث في هذا المجال ضرورية لفهم ودراسة تاريخ مدننا وجهاتنا. وتتوفر المكتبة المغربية على بحوث متميزة في مضمار الذاكرة المحلية، بالعربية والفرنسية، كمثل أطروحة بول باسكون حول حوز مراكش، والعربي مزين حول تافيلالت، وأحمد التوفيق حول يهود دمنات، والمختار السوسي حول سوس، ومحمد بنهلال حول كوليج آزرو، وإبراهيم كريدية حول آسفي، وعبد الكريم الجويطي عن تاريخ تادلا، وأحمد لعيوني حول تاريخ امزاب. لكن، في المجمل، تـبقى هذه الأعمال قليلة ورهينة، في الغالب، بالمبادرات الفردية والمجهودات الشخصية في غياب مؤسسات حاضنة.
3 بالنسبة للخطيبي، على كل باحث الاطلاع على المعلومة المفيدة لإثراء عمله، وعليه في كل الأحوال، ألا يشعر بالتضايق من الإيديولوجيا التي يبطنها مؤلفها؛ لأنه في النهاية، كل واحد له إيديولوجيته الخاصة به. هل الموقف مسوغ، وأنت الذي تبنيت مقترحه؟
ينبغي أن نلاحظ أنه في مقابل أهمية الكتابة التي تعنى بالذاكرة الحضرية وبالتاريخ المحلي، تقف إزاءها تحديات عديدة، مادية ومعنوية. ويظل أكبر تحد يعترض الباحث في الشأن المحلي، بعد تحدي التمويل، هو غياب الأرشيفات المحلية أو صعوبة الولوج إليها. إضافة إلى تحد آخر وهو أن الباحث مضطر لبذل جهد متواصل للاطلاع على الكتابات والمراجع الضرورية المتوفرة، غالبا، في أمكنة متفرقة ومتباعدة. وحتى أجيب عن سؤالك أقول إنه في غالب الأحيان، في الدراسات الميدانية المنجزة حول المدن يجد الباحث نفسه مضطرا، للاستفادة من المراجع التي كتبها الباحثون الفرنسيون، في الفترة الاستعمارية، وهي ضرورية غالبا، لعمل الباحث، ولا غنى عنها، كما يرى الباحث نجيب بودربالة. ولم يكن عبد الكبير الخطيبي يمانع في إمكانية الاستفادة، من بحوث سوسيولوجيين ومؤرخين، ولو كانوا معروفين بتبنيهم لطروحات استعمارية، مع شرط الحرص على مناقشتها، وعدم تبني وجهة نظرها، أي ينبغي ضرورة التمييز بين المعلومة الخام والإيديولوجيا الثاوية فيها.

 حينما نتحدث عن كتابة التاريخ المحلي لـ «مازغان» لا يمكن تجاوز باحث اسمه المصطفى اجماهري. لكن ما يثير الاستغراب أن لديك انجذابا Aimance (كما ترجمها الخطيبي مفضلا تلك المفردة على مفردة التحاب في ترجمة أدونيس) لمدينة الجديدة في الماضي والحاضر، والحال أنك بيضاوي المولد. أي سر في ذلك؟

سأفاجئك، إن قلت لك، إن علاقتي بالدار البيضاء، تتلخص فقط في شهادة الميلاد. فأنا أنتمي قلبا وقالبا، لمدينة الجديدة، ووالداي ازدادا معا بالجديدة، وكانا يقطنان بساحة عبد الكريم الخطابي، حينما كانت تسمى ساحة الجنرال غاليني. إنما الذي حصل، أن والدي، إبان الحماية الفرنسية، وفي بحثه عن عمل، وجد شغلا بسيطا في الدار البيضاء لدى شركة فرنسية، وبالتالي اضطر للسكن في الدار البيضاء وهكذا ازددت هناك بالصدفة. ومع بداية الاستقلال، سرعان ما رجعت العائلة إلى مدينة الجديدة، حيث دخلت المدرسة الابتدائية مباشرة. وبالجديدة درست الإعدادي وجزءا من الثانوي، بينما درست الجامعي بالرباط، كما عملت ملحقا صحفيا بمؤسسة عمومية بالجديدة إلى حين تقاعدي. بل ساهمت كأستاذ زائر، طيلة سنتين دراستين، في تكوين طلبة بالإجازة المهنية في الصحافة، بكلية آداب الجديدة. وإذن فعلاقتي بالجديدة مستمرة ومتواصلة.

عطفا على ما قاله الروائي فؤاد العروي، في تصديره لمجموعتك القصصية» تين وعقاب، قصص مازاغانية» الصادرة بالفرنسية سنة 2016»، اجماهري ليس مجرد حكواتي، فهو أيضا ذلك الـ «المؤرخ المحلي» لدكالة، والجديدة تحديدا. وهذه الفئة من المؤرخين بدأت تؤخذ، شيئا فشيئا، مأخذ الجد: فمن الآن فصاعدا، نضع في الحسبان، أنه ليس في نشر الفكر، أو في التوليفات التاريخية، حيث يقصى الإنسان، توجد حقيقة الأشياء. لا حقيقة إلا في وجود الناس، وفي وجود كل واحد منهم، ومن هذا المنظور، فهذه «الحيوات المصغرة» التي نكتشف منها بضع شذرات، هي أهم من حكاية الامبراطور. هذا يوضح جيدا، أن القاص ينتج منجزا مهما دون أن يبدو ملامسا له» الالتفات إلى الحيوات المصغرة هو اعتبار للهامش، وبحث عن الهامشي (دراستكم عبد الكبير الخطيبي: بحثا عن الهامشي ضمن كتاب لقاءات فرنسية-مغربية)
ألا يؤطرك ذلك ضمن الأنثروبولوجيا أكثر من غيرها؟ وبحثك في الهامش Le marginal وإيلاء حجم أكبر للكلام على حساب الفعل، تبدو قريبا من استراتيجية الكتابة عند الخطيبي، أليس كذلك؟

عن طريق عبد الكبير الخطيبي، انخرطت في الدراسات الثقافية وسوسيولوجيا المدينة والذاكرة الحضرية، هذه محاور قريبة جدا من اهتمامات الخطيبي المتعددة. والعمل في هذه المحاور، كما قال لي الراحل، ينبغي أن يتأطر داخل مشروع، وهو ما دفعني لإطلاق «دفاتر الجديدة» كسلسلة كتابات تعنى بالفضاء المحلي من زاوية المونوغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع. ومن هذا المنطلق، خصصت وقتا طويلا، لدراسة المجموعات الاجتماعية المكونة للنسيج البشري، والمتمثلة في قدماء الساكنة، مغاربة وأجانب، نساء ورجالا. مثل هذه الدراسات تكون مفيدة أيضا في دراسة العقليات. فضلا عن ذلك خصصت كتابات لتاريخ الطائفة اليهودية، وللتراث البرتغالي المحلي المصنف كتراث عالمي، وأيضا للذاكرة النسائية في ممارساتها الاجتماعية، خلال الفترة الانتقالية بين نهاية الحماية وبداية الاستقلال، وهو العمل الذي تم بتأطير من الباحثة الراحلة فاطمة المرنيسي. وربما ينبغي التنويه بدور هذه الدفاتر في الكشف عن مجموعة من «الوقائع السرية» التي كان بعضها موضوع كتاب خاص.

 أنت مدين لثلاثة مثقفين لامعين في سلسلة كتاباتك: عبد الكبير الخطيبي، غي مارتيني Guy Martinet ونيلسيا دولانوي ، فيم أنت مدين به لهؤلاء الثلاثة؟ هل في المنهج أم المعلومة أم التأطير أم المواكبة…؟

فعلا، تطلب مني مشروع «دفاتر الجديدة» كثيرا من الوقت والجهد المادي والمعنوي. وينبغي أن أنوه هنا بالكتاب والباحثين، الذين ساعدوني بالتأطير والنصح والمراجعة، وعلى رأسهم: عبد الكبير الخطيبي، الذي وجهني إلى الكتابة عن المدينة باعتبارها، في نظره، من المواضيع المهمشة، والمؤرخ البيضاوي المعروف غي مارتيني، الذي راجع وقدم كتاباتي الأولى، فضلا عن مرافقته لي في لقاءات مشتركة، ونيلسيا دولانوي، الجديدية الأصل، أستاذة التاريخ سابقا، بجامعة باريس العاشرة. هذه الأخيرة ما زلت أتواصل معها لاستشارتها في المجال الذي يهمني. هذا دون أن أنسى كتابا آخرين راجعوا أو قدموا أعمالي مثل محمد الناجي، فاطمة المرنيسي، فؤاد العروي، الدكتور مصطفى أخميس، مصطفى الكثيري، محمد بنهلال، بوبكر بوهادي، والمازغاني جان لوي موريل. بمعنى آخر فالمشروع يقوم أيضا على شق جماعي.

 في شهادة عن الخطيبي (مذكورة في الكتاب الجماعي المشار إليه سابقا) قلت ما يأتي:» كان لا يحب أن تلصق به الصفة الفرنكفونية. في بداية التسعينيات، استدعي الخطيبي من طرف مندوبية الشؤون الثقافية بالجديدة؛ لتقديم محاضرة، نظمت في قاعة الكنيسة البرتغالية سابقا. كان هذا اللقاء من بين اللقاءات النادرة، التي تحدث فيه الخطيبي باللغة العربية. أنجزت تغطية لفائدة يومية العلم، غير أن المحرر أضاف، في مقدمة الخبر، أنها المرة الأولى التي يتوجه فيها العارض إلى الحضور باللغة العربية. علم الخطيبي بالأمر، وهاتفني طالبا مني التدخل لدى رئيس التحرير؛ لينشر تصويبا يفيد أن الأمر لا يتعلق بتجربته الأولى، في مخاطبة الجمهور بالعربية»
لكن مع كل هذا الحرص فإن جمهوره من القراء المغاربة يقرأه بالفرنسية أكثر. علاوة على ذلك، فإنه معروف أكثر في بلدان: فرنسا، السويد، واليابان وأقل في بلده. هل هو كاتب مظلوم أم هو تقصير منه للانفتاح على قراء العربية؟

عبد الكبير الخطيبي يتقن اللغة العربية، كما الفرنسية على حد سواء. لكن لغة الكتابة لديه، والتي عرف بها وألف بها، ويستريح لها هي اللغة الفرنسية، بحكم تكوينه وكذا لاعتبارات البحث الأكاديمي والعمل الجامعي. وقد استمعت إليه مرات وهو يتدخل بالعربية. ولا أعتقد أنه كاتب مظلوم؛ لأنه هو نفسه لا يقبل أن يكون في موقع المظلوم وبدليل اعتراف المثقفين والقراء والهيئات العلمية مغربية وأجنبية، بنبوغه وسبقه في عدد من المنجزات الفكرية والأدبية.وليس الأمر تقصيرا من طرف الراحل الخطيبي؛ لأنه كان يطلب من القارئ أن يتحمل مسؤوليته في فعل القراءة وأن يجتهد في قراءته، ويرتفع إلى مستوى النص. وهي ذات الفكرة التي سبق أن عبر عنها صديقه رولان بارث. كذلك لا أعتقد بأن اللغة الفرنسية تطرح مشكلة على القارئ المغربي، ما دام المغرب قد اختار الازدواجية اللغوية، والفرنسية منتشرة في المغرب سواء في المدرسة والجامعة، أو في الإعلام والإدارة، وفي كل مرافق الحياة الاقتصادية. بل حتى اللغة اليومية أصبحت تطبعها، خاصة لدى الشباب، تعبيرات باللغة الفرنسية، تزيد يوما عن يوم وهو ما أسماه البعض «العرنسية». وأعتقد أن العرنسية هي تشويه للعربية والفرنسية على السواء.
مازلت أذكر أنه ذات يوم من شهر يناير 1992 اتصلت بالخطيبي في المعهد الجامعي للبحث العلمي، كنت وقتها أنجز رسالة للحصول على دبلوم الدراسات العليا في الصحافة وأردت أخذ رأيه، في استمارة استبيان موجه لقراء الملاحق الثقافية. كانت الاستمارة مكتوبة باللغة العربية. قرأها الراحل بتمعن. ثم ناقش معي فكرة الكلمات المفاتيحية التي فكرت في رصدها بأعداد الملحق الثقافي لجريدة العلم. ولاحظ الخطيبي أن هذه الكلمات ستكون قليلة في النصوص الأدبية الصادرة بالملحق. أما بخصوص اعتماد تحليل المضمون، فأوصاني ألا أعتمد عليه كثيرا، بطريقته الأمريكية، حيث من الأفضل، بالنسبة إليه، تحليل المادة كما هي.

لما كان الخطيبي بصدد إعداد روايته «حج فنان عاشق» الصادرة سنة 2003، طلب منك إمداده بنسخة من ببليوغرافيتك حول مدينة الجديدة. أراد من ذلك إثراء رصيده التوثيقي ببعض التفاصيل والمعطيات الدقيقة لعائلة Delanoë، هذه العائلة الفرنسية القادمة إلى مدينة الجديدة سنة 1913، والتي كانت لها علاقات صداقة مع جده، من جهة أبيه. في هذه الرواية استدعى الخطيبي شخصية الدكتور Delanoë Pierre تحت اسم مستعار DAUMAL. أليس من الغريب ألا يشير الخطيبي إليك وأنت وافيته بتفاصيل حول هذه العائلة الفرنسية. ما رأيك؟

حين كان الخطيبي، بصدد كتابة روايته «حج فنان عاشق»، جالسني فعلا في الجديدة، حيث احتسينا قهوة، في إحدى المقاهي الشعبية بشارع محمد الرافعي بوسط المدينة-لم تعد اليوم موجودة-، وكان الراحل هو من اختار تلك المقهى. هناك حدثته عن عائلة دولانوي المعروفة بمدينة الجديدة، وعن حفيدة العائلة وهي نلسيا دولانوي، أستاذة التاريخ بالجامعة الفرنسية آنذاك. هذه الأخيرة كتبت رواية سيرية عن جدتها، تحت عنوان «امرأة مازغان». وبعد أن أنهينا الجلسة التحقنا قليلا بمكتب ذ. مصطفى الناصري، المدير السابق للمحافظة العقارية بالجديدة، وكان قد تقاعد، وفتح مكتبا خاصا للتأمين، حيث تبادلنا الحديث حول هذه الذكريات.
بالعودة إلى سؤالك، لربما قد تبدو ملاحظتك وجيهة، من أن الخطيبي لم يشر إلى كوني وافيته شفويا بمجموعة من التفاصيل حول هذه العائلة، إلا أن ذلك قد يعود في رأيي لسببين اثنين: الأول أن الرواية، وهي في 248صفحة، لا تدور كلها حول العائلة الفرنسية المذكورة، بل تتحدث عن جد المؤلف. ثم إنه من الممكن، أن هنالك شخصيات أخرى قد ساعدته، في جانب من الجوانب ولم يشر إليها الراحل. فمن خلاله علمت مثلا، أن مسؤولا بالمكتبة الوطنية بالرباط، قد وفر له الاطلاع على مؤلف الطبيبة أوجيني دولانوي؛ لأنه صدر إبان الحماية، ولم يعد متوفرا في السوق.

 تضمن كتابك» Souvenirs marocains « «ذكريات مغربية» شهادات لبعض قدماء الجديدة، عن فترة الحماية، وهي شهادات أحيانا صادمة في جانب حنينيها لفترة الحماية، خاصة في ما يتعلق بقطاعي الإدارة والتربية. كانت للخطيبي قراءة فلسفية لهذه الشهادات؟

كتابي «ذكريات مغربية»، عمل بحثي وتوثيقي، قدم له الدكتور عبد الحنين بلحاج، نائب رئيس جامعة شعيب الدكالي، اخترت في هذا المؤلف التطرق لموضوع يهم الذاكرة المغربية، من خلال معايشتها لحقبة من الحقب المصيرية في تاريخ المغرب المعاصر، هي فترة الحماية بالجديدة. وقد تـمت إضاءة هذا الحيز المادي من خلال شهادات شفوية، تطوعية، قوامها اثنان وثلاثون مغربيا من قدماء سكان المدينة والإقليم. وتطرقت الشهادات في مجملها، فضلا عن المعلومات الشخصية والعائلية، إلى الحديث عن مختلف مظاهر الحياة في المدينة وضواحيها، في تلك الفترة، وإلى الإدارة المحلية للحماية والعلاقة بين المغاربة والفرنسيين، كما حفلت بمعطيات أخرى ذات طبيعة اجتماعية وإنسانية واقتصادية.
فعلا، قد يحس القارئ من خلال بعض هذه الشهادات، بأن من القدماء من عبر عن سخطه أو انتقاده لتفشي بعض السلوكيات السلبية في أداء قطاعات إدارية وخدماتية مثل التعليم أو الصحة. إلا أن مثل هذه الآراء لا يمكن أن نعتبرها «صادمة» بل ناجمة عن مقارنة بين زمنين. وفعلا، عرضت هذه النقطة، التي أثارت انتباهي على الراحل الخطيبي، ووجدت أنه تفاعل معها بشكل هادئ، بل تفهمها واعتبرها منطلقة من إحساس بالغيرة الوطنية؛ لأن بعض التصرفات الإدارية بدل أن تتطور نحو الأحسن، أصابها التراجع. ثم لا ننسى أن الخطيبي كان مهتما بمسألة الإصلاح، وقد نظم، حينما كان مديرا للمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط في 22 أكتوبر 1998، يوما دراسيا جعل محوره «زمن الإصلاح». حضرت هذا اللقاء شخصيات علمية، ومسؤولون على رأسهم وزير التربية الوطنية، إسماعيل العلوي، الذي قدم مداخلة تناولت بالأساس مشكل التعليم. وقد جاء في الكلمة التقديمية التي ألقاها الخطيبي بمناسبة افتتاح اليوم الدراسي: «إن المغرب ملزم اليوم بمواجهة رهانات كبرى: التأهيل التنافسي للنسيج الإنتاجي، التضامن الاجتماعي، تحديث القضاء والإدارة وملاءمة النظام التعليمي مع متطلبات المرحلة… «. ولذا فالخطيبي لم تكن لتفاجئه تلك التصريحات الصادرة عن بعض قدماء المدينة، بل كان على علم بأسبابها ومسبباتها.
ومن المعروف أن الخطيبي كان له رأي سلبي تجاه الجهاز الإداري. وقد ضرب المثل عن ذلك بورش التعليم، الذي خبره الراحل، بحكم اشتغاله فيه طيلة حياته، معتبرا بأنه لم يشهد أبدا إصلاحا حقيقيا، بل ظل دوما عبارة عن «ملف ورقي». بمعنى آخر إن التعامل الارتجالي مع إشكالية التعليم، حسب الخطيبي، هو ما عرقل تراكم التجارب وجعل المغرب، في كل مرة، يبدأ من جديد ومن الصفر.

سي المصطفى سبق أن كتبت، أن مدينة الجديدة كانت دائما مدينة للخطيبي، لكونه عرف بها للقراء الأجانب. ألا تعتقد معي أنك تقوم بذات الدور تقريبا، خاصة وأنك صنعت وأبدعت قراء (العبارة من إنشاء الخطيبي) لهم علاقة قريبة أو بعيدة بالجديدة؟ وهل استراتيجيتك في الكتابة عن الجديدة امتداد أم تقاطع مع استراتيجية الخطيبي؟

كنت أكتب القصة القصيرة، وأنشرها متفرقة في الصحف والمجلات، أو على شكل مجاميع، وهو مجال أصبح محدودا على مستوى الرواج والمقروئية. لدي كثير من الأصدقاء القصاصين، الذين يصرفون من جيوبهم لطبع مجموعة قصصية ثم ينتهون بتوزيعها غالبا مجانا على قراء غالبيتهم لا يقرأونها. وهو وضع مأساوي حقا.
أما بعدما التقيت بالخطيبي فقد نبهني إلى أهمية الكتابة من خلال مشروع، ولو متواضع مثل الذي أقوم به، وقد شعرت بوجاهة رأيه، سنين بعد ذلك، حينما حققت هذه الكتابات بعض التراكم، وهذا ما استفدته من الراحل، فبدل أن تكتب لجمهور واسع لا تعرف ملامحه، من الأجدى أن تكتب لجمهور محدد يطلب معرفة معينة. هنا تلتقي رغبة الكاتب، في ممارسة اختياراته البحثية والكتابية، مع تطلع القارئ إلى مجال معرفي يلبي احتياجاته الوجدانية أو الفكرية. طبعا الفكرة الجوهرية عند الخطيبي أنه على الكاتب أن يخلق أو بمعنى أدق أن «يبدع قراءه». وتتأتى أهمية فكرة الخطيبي خاصة في الظروف الحالية للنشر والكتابة، التي تتميز بتدني الرغبة في القراءة، وضعف شراء الكتاب، والإدمان على الوسائل الرقمية.

 احتفى الخطيبي بالجديدة منذ سيرته الذاتية «الذاكرة الموشومة» (اعتكف على كتابتها ما بين 69-،70 وقد طالت لحيته كما حكى لي الصديق أحمد المتمسك أحد طلبته آنذاك)، وسيتعزز هذا الاحتفاء في روايته «حج فنان عاشق» ب «مازاغان». هذه الرواية قريبة منك في بعض شخصياتها وتفاصيلها وعناصرها إنها تكلمك. أليس كذلك؟

سي المصطفى، تعرف أن الخطيبي هاو لرياضة كرة القدم، لما كان طفلا، كما أن السباحة ظلت رياضته المفضلة، إلى حين وفاته. وهذا مقطع يسر فيه إلى صديقه حسن وهبي، هذه التحية إلى شاطئ الجديدة. ما تعليقك؟

مما لا شك فيه أننا نملك ذاكرة متعددة. ذاكرتي المائية كان لي فيها نعمة. فهناك حيث يتملكني إحساس قوي جدا، باندماجي في الطبيعة، كما يقول الصينيون واليابانيون. دونك، هذه الذاكرة تعيدني إلى بعض القراءات بالنسبة لي حاسمة، كنت أنجزتها على الشاطئ. وأنا يافع، قرأت دفعة واحدة «هاملت»، لأول مرة. ارتعدت، وارتجفت. أبسبب الشمس؟ وضربة شمس خفيفة؟ لا، بل سأقول إن شكسبير كان من راء هذا الارتعاد. نقل شعور. وفي مرة أخرى، على شاطئ الجديدة، وأنا في الثانية والعشرين من عمري، ارتجف أيضا جسدي كله، قارئا «معذبو الأرض» ل»فرانز فانون» الكتاب الصادر حديثا، ومن تصدير سارتر. إنه لتعرف على فانون، هذا العقل الحر والفالح في مقاومة كل أشكال الهيمنة. فدائما ليس هناك إلا العبارة البحرية، هكذا أسميها، فهي تسم عددا كبيرا من نصوصي. تصاحبني إلى أن أغرق في الحياة. يا له من إحساس بالمتعة والتطواف!
من المعروف عند قدماء مدينة الجديدة، أن عبد الكبير الخطيبي كانت له علاقة وطيدة وقوية بشاطئ المدينة، حيث كان يمارس رياضة كرة القدم والسباحة مع مجموعة من رفاقه مغاربة وأجانب. هي علاقة وجدانية ربطته بالشاطئ كفضاء يشكل الهوية الأصلية للمدينة، هذا فضلا عن كونه الفضاء الذي كان يتيح له القراءة والتأمل، خاصة حين يعود من مراكش إبان فترات العطل. ولربما أقول إن جيل الخطيبي وجيل نهاية الحماية كان يعتبر شاطئ البحر بالجديدة مجالا حرا وشعبيا للتلاقي والاستجمام، ومتنفسا من ضغوطات البيوت الواطئة ورقابة الآباء. أما على مستوى الكتابة فقد تحدث الخطيبي، مثلا، عن البحر والشاطئ في سيرته “الذاكرة الموشومة” وأيضا في روايته “صيف في ستوكهلم”.

 

باحث في الفلسفة والتربية


الكاتب : حاوره: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 12/02/2021