الكاتب والمخرج: شراكة الأفق (مسودة أولى)

في سياق إعداده لهذا الملتقى، وجه إلينا مدير هذه التظاهرة الهامة المخرج بوسلهام الضعيف ثلاثة أسئلة: الأول والثاني يستدعيان حديثا شخصيا يهم سياق انخراطي الأول في الكتابة المسرحية وعلاقتي بالمخرجين. أما السؤال الثالث فيتوجه نحو صياغة فكرة عامة عن المنجز الإبداعي كما تحققه الكتابة المسرحية في مغربنا الراهن.
أشير، تفاعلا مع السؤال الأول، إلى أن نشأتي المبكرة داخل جمعية الرواد، وضمن قطاع مسرح الهواة بالدار البيضاء، كانت قد وضعتني، منذ عقد السبعينيات، على الضفتين المتقابلتين: خوض تجربة كتابة النص المسرحي، ومغامرة مقاربة المسرح نقدا ومتابعة.
والحقيقة أنني لا أعلم، لحد الآن، هل كان هذا التواجد المزدوج حظا أم عبئا.
كانت البداية مشاركتي ممثلا صغيرا، ضمن هذه الفرقة التي قدمت لي، في ما بعد، نصي «التوازن» سنة 1979، ونصي «الورقة الأخيرة في حياة المسمى الطاهر» سنة 1980.
بعدها نشرت أول نص مسرحي «الوقائع العجيبة في رحلة زيد الحالمي» سنة 1985، بمجلة «آفاق» اتحاد كتاب المغرب، وقد أخرجه فوزي بن السعيدي، الطالب آنذاك بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. كما نشرت، سنة 1988، نص «القبو» وقد قدمته إحدى فرق الهواة بمكناس دائما، وقد نشرته مضافا ومنقحا، سنة 1997، باسم «الحفل التنكري».
ثم كان العمل ضمن مجال الاحتراف عبر مسرح اليوم الذي قدم لي خلال خمس سنوات: «البتول»، «العيطة عليك»، «امرأة غاضبة» و»الجنرال»، إضافة إلى مهمة الاستشارة الأدبية في مسرحية «أربع ساعات في شاتيلا».
أما التوجه نحو النقد فلقد كان بتأثير كتابات الدكتور حسن المنيعي وعبد الله شقرون، وبدروس محمد برادة كما لقننا إياها، أيام الدراسة بشعبة الأدب الحديث بكلية الآداب بالرباط، أواخر السبعينيات، بحيث همت تلك الدروس مقاربة نماذج من الرصيد المسرحي العالمي، خاصة المسرح الملحمي، ونموذج قراءة آن أوبير سفيلد لمسرحية «هاملت».
تفاعلا مع السؤال الثاني الذي يهم العلاقة بالمخرج، سيكون من المفيد أن أتحدث عن هذه التجربة التي سعدت بخوضها ضمن مسرح اليوم، والتي أطرتها روح الصداقة مع عبد الواحد عوزري، وحظ تواجد ثريا جبران بيننا، وهما معا رفيقا طفولة وأفق. ولذلك كلما استعدت تلك التجربة، أؤكد أن ما يصنع الفعل المسرحي ليست فقط فرادة الفكرة وحِرَفِية أو نبوغ المخرج والممثلين والتقنيين وأمكنة العرض، ولكن كذلك سمو العلاقة الإنسانية التي تنظم الأفكار بين الأطراف المشاركة، وتجعل الخشبات رئة ثالثة لمدّ الأنفاس بطاقات جديدة.
سيكون من المفيد كذلك الإشارة إلى المرتكزات التي أطرت عملي مع «مسرح اليوم»، والتي سبق أن عبرت عنها في سياق سابق بهذا الشكل:
« – النظر إلى النص كخطاطة أولى ضرورية في بناء العرض، سواء كان هذا النص معدّا أساسا للخشبات تأليفا أو اقتباسا، أو كان قادما من أجناس أدبية أخرى.
– النظر إلى وظيفة المخرج باعتبار إسهامها في انبثاق فكرة النص، وباعتبار بناء العرض لا يكتمل بدون حوار تفاعلي مع كل أطراف العملية الإبداعية.
– أما المرتكز الثالث فيتمثل في النظر إلى الممثل كقوة اقتراح لها إمكانية اختراق النصوص. ثريا جبران وكل الممثلين والممثلات الذين تعاقبوا على خشبات عبد الواحد عوزري، كانوا حاضرين بسيرهم الشخصية، وبوجودهم كأجساد وكتاريخ واختيارات» (1).
أذكر، بهذا الخصوص، أن عبد الواحد عوزري لم يكن يحمل خطاطات إخراجية أو تدوينات محضرة مسبقا تماما كما لو كان يسترشد حرفيا بخطى بيتر بروك الذي كان يعتبر «أن الإخراج لا يمكن أن يأتي إلا تدريجيا بالاحتكاك بالممثلين، وبأن المخرج الذي يأتي إلى التدريب الأول، وقد سجل كل التحركات، يعد مسرحيا متحجراً» (2).
على ضوء ذلك، كان العمل بيننا يتم وفق حوار مولّد للأفكار.
خلال التداريب كنت أكتشف الحاجة إلى تطوير النص بحيث أضفت شخصية المخرج إلى نص «البتول» (1998) بعد أن اكتشفت الحاجة إلى ممثل كبير مثل عبد الله العمراني، وأضفت شخصية ثانية لمسرحية «العيطة عليك» (1999). كما كنت خلال التداريب أعدل الحوارات ومسار بعض الشخصيات.
تفاعلا مع السؤال الثالث الخاص بقراءتي لواقع الكتابة المسرحية المغربية راهنا.
هنا أورد تركيبات لبعض الأفكار الخاصة بهذا الموضوع كما دونتها في مناسبات سابقة (3) بحيث اعتبرت أن تاريخ الكتابة المسرحية المغربية كان قد عرف، منذ فجر الاستقلال، تعايش نمطين من مشروع بناء النص: منحى التقليد كما عرفته بعض امتدادات «المسرح الشعبي»، وكما مثله المسرح الإذاعي الذي تحول إلى الخشبات بإرادة عبد الله شقرون، ومنحى التجديد كما تمثلته فرقة التمثيل المغربي التي كانت تجاور بين أعمال تقليدية، وأخرى مستقاة من الريبرتوار العالمي.
هكذا نجد أنفسنا أمام اللحظة الأولى في التوجه نحو رهان التجديد من خلال أعمال الطيب الصديقي، وخاصة المرحلة التي تحرر فيها من الاقتباس متوجها نحو الإرهاصات الأولى باتجاه تجديد الرؤى حول النص. وفي هذا السياق «باشر الصديقي العمل، منذ سنة 1965، ضمن مشروع جمالي مختلف عن أعماله السابقة. في تلك السنة أخرج مسرحية «سلطان الطلبة» و»المغرب واحد»، ثم اغتنى المشروع ب»ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب» و»مولاي إسماعيل»، تلتها «الحراز» و»مقامات بديع الزمان الهمداني» و»أبو حيان التوحيدي»… وفي تقديري فتميز ذلك المشروع يكمن في تماسك مقترحه الإخراجي، وفي أفقه الفكري والفني، وكذلك في التأثير الذي مارسه على قطاع مسرح الهواة، وعلى المسرح المغربي بشكل عام.
بارتباط مع ذلك، وفي نفس الفترة ، انتبه الباحثون والنقاد ومبدعو المسرح إلى أن مهرجانات الهواة، خاصة التاسع منها المنعقد بالرباط سنة 1968، والعاشر المنعقد بالرباط كذلك سنة 1969، قد بدأت تعكس حساسية كتابية جديدة من خلال نصوص خارجة عن تيار الاكتفاء بالاقتباس من الريبرتوار العالمي، وبعيدة عن النصوص التي كانت لا تزال تنتج مسرحا يضاهي المحكي اليومي بآليات اشتغال تقليدية».
يذكر في هذا الإطار، واستعادة للكتابات النقدية والمتابعين الصحفية، نص «موت اسمه التمرد» لعبد السلام الحبيب الذي قدمه بالمهرجان العاشر مسرح الطليعة بفاس بإخراج أحمد زكي العلوي، وقد نالت المسرحية الجائزة الأولى لهذا المهرجان،مناصفة مع مسرحية «كبارها عند صغارها» لفرقة العمل المسرحي، بإخراج عبد الهادي بوزوبع.
«لقد كان «موت اسمه التمرد»، باتفاق عدد من النقاد والباحثين المسرحيين المغاربة، من النصوص الأولى المؤشرة على انبثاق وعي جديد بضرورة تأسيس كتابة مسرحية مغايرة، وقد بادرت بنشره مجلة «الفنون» مؤخرا.
ضمن هذا الاسترجاع نستحضر النصوص التي أثثت خشبات المسرح المغربي، على امتداد عقد السبعينيات وبداية الثمانينيات، لجيل جديد من المؤلفين الذين أغنوا الرصيد المسرحي بنصوص تؤكد أن رهان التحول ضمن مسار التجديد والتجريب ليس رهان اليوم، لكنه متجذر في كتابة سجلت نفسها، منذ ذلك الوقت، ضمن سجل كتابي مختلف عن مواثيق الكتابة المسرحية التقليدية.
في منتصف الثمانينيات سيتم تسجيل لحظة ثانية في مسار بناء الكتابة المسرحية الجديدة في المغرب من خلال معطى أساسي: تأسيس المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، سنة 1986، الذي سيعزز مسار التجديد عبر السعي نحو تأكيد المقاربة الأكاديمية للعمل المسرحي، وانخراط جيل الشباب الذي أسس لاحقا فرقا تمثلت رهان التجديد عبر الاعتماد على اجتهادات خاصة في التعامل مع الرصيد المسرحي العالمي، وعلى الارتجال، واستثمار طاقات الممثل الروحية والجسدية، ثم التحرر من «ثقل الخطاب الإيديولوجي» الذي حكم مسرح السبعينيات…
ولقد برز، في هذه الفترة، نفس جديد أثراه تأسيس فرقة مسرح اليوم، ابتداء من سنة 1987. وقد «أرسى مخرجه عبد الواحد عوزري تقاليد مسرحية جديدة، جزء منها ذو بعد تنظيمي مثل الحرص على فكرة عمل مسرحي لكل موسم مسرحي كل سنة، وجزء منها أدبي، فني وتقني. وضمن ذلك الانفتاح على مؤلفين مغاربة وعرب وأجانب، وعلى أجناس إبداعية مختلفة من شعر ورواية ومقالة…، كما تم ضمن التجربة كذلك تأكيد مكانة السينوغرافيا في بناء العرض المسرحي، الأمر الذي لم يكن قد تكرس بعد، بشكل واع ومنهجي، في المقاربة الإخراجية المغربية».
على امتداد عقدي التسعينيات، والعقد الأول من الألفية الثالثة امتدادا الى اليوم، ومع بروز المؤلف – المخرج، تشكلت لحظة ثالثة في مشروع التجديد نعيش نضجها اليوم بعد تواصل تأسيس النص المسرحي الجديد المتميز عبر جيل جديد من كتاب ومخرجي المسرح، بالاشتغال وفق منظور دراماتورجي جديد يمنحنا انفتاحا على الأدب المغربي والعربي والعالمي بموازاة مع استثمار الأشكال الفرجوية كالحلقة، واقتحام الفضاءات العمومية، وتوظيف الوسائط الجديدة (الحاسوب وشرائط الفيديو، وخيال الظل) .
نستحضر، ضمن هذا المنحى، تجارب حاولت أن تسير بالنص نحو تخوم أخرى لعل من أبرزها ما بدا لي صيغة فعالة لحل معادلة المسرح والجمهور، وكذلك ما أحاول تسميته بمنحى « مسرح المؤلف» كما حاولت إبرازه في أحدث إصداراتي «المسرح في المغرب- أفق السؤال» (4).
نخلص من هذه الاستعادة إلى تأكيد أننا نعيش اليوم استمرار رهان التجديد، لكن بقدر ما يجعلني هذا الرهان أسعد بتعدد التجارب والمقاربات التي تثري النص المسرحي، بقدر ما أعتبر أن الكتابة ستظل مهددة بثلاثة تحديات سأحاول صياغتها على هذا النحو:
1- الاقتباس حين يتم اعتماده، لا كمشروع للحوار الثقافي بين نصوص العالم، بل كنوع من تغطية الفراغ لدى بعض المسرحيين الذين لا معرفة لهم بالنصوص المغربية، أو لا قدرة لهم على البحث عن المسرح في روافد أخرى للرواية والقصيدة وغيرها من ذخيرة المتن الإبداعي المغربي القديم والحديث.
وهنا أشير إلى أنني لست ضد التعامل مع النصوص العربية والأجنبي. فلقد مارست الاقتباس لكنني أرى ضرورة أن تكون مثل هذه الممارسة منخرطة في شرطنا الثقافي بالمعنى الذي أوضحته من قبل.
2- التأويل السيء للحاجة إلى إقامة سليمة لمعادلة الفن والمتلقي، بحيث نلاحظ أن بعض النصوص تستسلم لكتابة تلبي فقط الحاجة إلى «السوق».
3- ثم هناك الانصياع لنوع من « المنحى الشكلي» الذي يعني فكرة غياب المؤلف مقابل اعتماد «ارتجال» يضع الصور أو الأجساد مكان الأفكار.
هذا يعني أن النص، في تقديري، قد يكون الكلمات مثلما قد يكون الصور، وقد يكون الصمت أيضا شريطة أن يكون ذلك مؤطرا برؤية خاصة للذات والعالم.

*****
(1) سبق أن حددت هذه المرتكزات ضمن قراءتي لكتاب عبد الواحد عوزري «تجربة المسرح»، الصادر عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء (الطبعة الأولى 2014 . وقد نشرت القراءة بجريدة «الاتحاد الاشتراكي»، بتاريخ 11 أبريل 2014.
(2) نفسه.
(3) أستعيد هنا جزءا من مداخلتي في ندوة «تحولات الكتابة المسرحية من الأدبي إلى المشهدي» التي نظمتها، يوم 27 يناير 2017 بمراكش، جمعية فانوراميك لفنون العرض.
(4) المسرح في المغرب – أفق السؤال، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، 2022

(*)قدمت هذه الشهادة في الدورة 7 من «ملتقى مكناس للكتابة المسرحية» المنعقد مابين 30 نونبر و3 دجنبر 2023.


الكاتب : محمد بهجاجي (*)

  

بتاريخ : 15/12/2023