الكتاب الأول: (جراح دلمون)

 

ظهرت « جراح دلمون « في العام 1997، وهي مجموعة شعرية ضمت نصوصا سبعينية وأخرى ثمانينية. وهذا يعني أن الكتاب تأخر عقدين من الزمن لأسباب ذاتية وأسباب موضوعية، منها الخوف والتهيب، وقلق الإضافة النوعية من عدمها ضمن ووسط أسماء شعرية وازنة، وقامات في الكتابة والإبداع دونها قامتي؛ ومنها تهوري ولامبالاتي. وعلى رغم علمي بأن الشعرية عربيا ومغربيا، تخطت الترنح والتذبذب والحيرة إلى ترجح الكتابة الشعرية، واستواء عودها، ونضوج وعيها الجمالي، فإنني رميت بمجموعتي الشعرية ذات المناخ والرائحة السبعينية / الثمانينية، إلى السوق الثقافية من باب توثيق مرحلة كتابية لي ليس غير. وإلا، فإنني لو دُعيتُ إلى تقييم تلك التجربة الشعرية، تجربة: « جراح دلمون «، لما زدت عن قولي بأنها لا تمثلني شعريا في التسعينات بالنظر لكون تجربتي في المرحلة إياها، استوعبت التحولات والإبدالات التي اجترحتها وحققتها التجربة الشعرية العربية والمغربية والعالمية؛ إذْ خُضْتُ، إلى جانب ثلة من الشعراء المغاربة المشّائين، مسلحا بوعي لغوي وجمالي، معركةَ الخصوصية والتكريس الذاتي، ومحاولة إرساء وتوقيع الاسم المفارق.
عِوَضَ ذلك، سيكون الكلام ـ بالحَرِي ـ عن النص الشعري الأول الذي بُورِكَ، وثُمِّنَ من قِبَلِ أستاذي الشاعر الرائد أحمد المجاطي، ـ مَدْعاةً لاستدعاء، وإثارة إحساس خاص لعله أن يكون: تثبيت الخطو، وتوسيع الحُظْوة، والانخراط ـ تَبْعاً لذلك ـ في أتون السؤال الاجتماعي، والجمالي، والثقافي العام.
وإذْ أعود إلى الكتاب الأول، فإنني أقول إنه كتاب انزاح عن زمنية ناجزة، سبعينيا، بجراحاتها وأعطابها، وأحلامها، وصراخها، ليتطفل على سياق زمني آخر له شؤونه
وشجونه، وأسئلته، وحرائقه: قصدت أواخر العقد التسعيني من القرن الفائت. ولئن كان الديوان الشعري إياه عاديا في المحصلة، لأنه لا يَدَّعي الفارقية والانقلابية، والرّجّة الشعرية في المشهد الثقافي والإبداعي، وفي بنية التلقي العام، فإنه ـ في الأقل ـ أخرجني من البيات بَلْهَ الموات الذي طال واستطال: ( أذكر أنني غبت عن المشهد الثقافي طيلة الثمانينات إلا في ما ندر)، ما جعل عديد الأصدقاء شعراء ونقادا، وتلاميذ وطلبة، يحتفون به في طول الوطن وعرضه، طالما نطق اسم بعد صمت، وانضم شاهد بعد غياب. ومن العجيب الغريب أن هذا الكتاب الشعري طُرِحَ كَبْروفاتْ بالهاتف، وصححت بعض مقاطعه بالهاتف، ووظِّبَ إخراجيا بالهاتف، ورأى النور بعد مهاتفة مدير الدار الأستاذ محمد البوكيلي بالقنيطرة. ولا أخفي أن إصداره حرّرَني من خَرَسٍ مقيم، وخوف غير مبرر، وحذر محسوب، إذ أطلقت في غضون السنوات اللاحقات للتسعينات من القرن الماضي، جملة من العناوين الشعرية والنقدية: « يتبعني صفير القصب»، « مركبة السنجاب»، « قرابين»، « امرأة لا تحصى»، « خيط أريان». في سعي حثيث ومرتعش، دائما، للانضمام إلى زمرة الزملاء الشعراء، والزميلات الشاعرات، زاعما البحث الشخصي، وتوقيع المفارقة، والخصوصية، والإضافة، وإغناء المدونة الشعرية العامة.
إن الكتاب « الأول « يظل، في تقدير صاحبه أو صاحبته، خالقه وخالقته، بمثابة خفق الروح، ونبض الدم في الجسم والنفس، وكمِثْلِ الدّيمة الحبلى حمَّالة الغيث والغضارة والألق. لكنه، مع ذلك، يظل مُضَرَّجاً بحمرة الخجل كالعذراء المخفورة بنثيث الورد، والمكحولة بإثمد الغزال، ونجالة عينيه، المحمولة على هفهفة النشيد والتغريد، وهتاف الأعماق الضاجّة بالحياة الثانية المضاعفة التي يضفيها الإبداع على الذات، والموضوع ، والطبيعة، إذْ يؤجل الموت أبداً، ويدفعه إلى الخلف بتسديد طلقة الضوء الرحيمة، ودم المعنى، وحبر الروح، واللوح المحفوظ من وراء كتاب وعذاب.
ثم إن الكتاب الأول إعلانٌ عن وجود، وانْوِجاد في الكون والعالم، ما يقود إلى القول بالضرورة والمسؤولية، والحرية الواعية؛ وإلى القول بتبعات ومتطلبات الكتابة والمكتوب من حيثما جئتهما كرسالة التزام، واندغام، وانخراط في الشأن الموضوعي، والواقع المحسوس الحي العام؛ أو كمحض هوى ولعب، ومفارقة للمادة والطين، وهيام واستيهام.
أما النص الشعري الأول الذي أومأت إليه ـ في صدر هذه الكلمة ـ فلا يزال رنين جرسه الحارق الحزين، والعذب الشجي الغامض والبعيد، في أذني، وفي سمعي الداخلي الذي لم يَعْيا من الإنصات إليه خافقا مُدَمْدِماً مرَّةً، وخافتا مُرْهفا مرةً أخرى. وجزْماً، هو الذي أعطاني، وأمَدَّني بما به واصلتُ ووصلتُ. هل وصلتُ؟، ما عرفتُ، فالوصول انتهاءٌ وَحَتْفٌ.

إشـــــــارة

يتعلق الأمر بنصي الشعري الذي عنوانه: ( فاتحة القهر في كتاب الدخول )، الموجود بالعمل الشعري الأول: ( جراح دلمون ).


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 18/12/2020