الكتاب الأول في تجربة كاتبه: الخروج من سفر الظل .. نافذتي الأولى

 

للتجربة الأولى، في أي مجال من مجالات الحياة، طعم خاص ووقع لا يتكرر أبداً. هي لحظات وأحداث ووقائع ومواقف تصنع منا، مع الوقت، بعض ما نحن عليه الآن. أذكر هنا، على سبيل التمثيل لا الحصر، اكتشاف لحظة البلوغ الأول. تلمس زغيبات الشارب والذقن الأولى الناعمة الحرير. تجربة الحب الأول، برسائلها المتوسلة وقلوبها المطعونة بسهام على جذوع الأشجار، تلك التجربة التي عادة ما تكون نتائجها تراجيدية وقاسية. لسعة القبلة الأولى الحارة التي تشبه صعقة كهرباء مفاجئة. تدخين عقب أول سيجارة رديئة وتذوق حموضة ما بقي في قاع أول كأس مريبة. نشر أول نص أو مقال متعثر في ارتباكه المتردد الخجول. الحصول على أول وظيف وأول أجرة وأول قرض بنكي لملء فراغات بقية الشهر. احتضان أول مولود ينضاف إلى انكشارية العائلة. حيازة النسخة الوحيدة لكناش الحالة المدنية – بجملته القاسية « وفاة صاحب الكناش» المثبتة في صفحته الأولى – الذي سيستضيف أسماء رعيتك الصغيرة بعد هِمَّةٍ إنجابية طويلة.. إصدار أول كتاب يلخص تاريخا صغيرا خاصا من التعثر والسقوط والنهوض والمحو والتشطيب وعدم الرضا. شراء أول بيت وأول دراجة هوائية أو نارية أو سيارة مستعملة. اكتشاف أولى أعراض السكري وضغط الدم والنقرس. وصولا إلى لحظة اقتناء أول عكازة وأول كرسي متحرك أو كتابة وصيتك بعد استشعار دنو ساعة المغادرة…
إن القاسم المشترك بين أغلب هذه المواقف واللحظات الفردية الخاصة هو طبيعتها الإنسانية شبه العمومية. غالبية الناس تحب وتتزوج وتنجب وتتملك الأشياء وتمرض وتشيخ، والجميع يموتون في نهاية الحكاية. قلة قليلة منهم تتعاطى الكتابة أو ترسم أو تحترف الفن، هذا الاستثناء هو ما يشكل الفارق التاريخي والوجودي بين الكثرة التي تنتج الثروة وتعيد تدويرها، وتلك القلة التي تحتل جغرافية الممارسات الرمزية المخاطبة للعقل والإحساس والوجدان وتجيش العاطفة. ولعل هذا الطابع الاستثنائي لفعل الكتابة، مثلا، هو ما يجعل حدث ظهور الكتاب الأول لحظة فارقة لا تنسى في حياة صاحبه.
2 –
بخصوص إصدار كتابي الأول وهو ديوان «لا أحد في النافذة» الشعري، أتذكر الآن هذا الحدث البعيد، بعد مرور أكثر من عشرين سنة خلت، بغير قليل من النوستالجيا اللذيذة، منذ بداية عملية تجميع شتات النصوص المنشورة في الجرائد والمجلات، وإعادة قراءتها وتنخيلها والاحتفاظ بما ينسجم مع اقتناعاتي الفنية والإبداعية «الناضجة»، مع ترتيبها وفق نظام خاص قبل الانخراط في ماراطون البحث عن ناشر يقبل بمشاركتي هذه المغامرة بأقل الأضرار المالية الممكنة. فعلى عكس نظام النشر اليوم، الذي صار في متناول الجميع، كان الأمر، في نهاية التسعينيات، شبيها بتسويق بضاعة لا تحظى بالجاذبية والإغراء، كما أنها لم تكن تشجع القلة من الناشرين المعروفين، آنذاك، على ركوب موج هذه المغامرة. ولعل هذا الأمر هو ما يفسر لجوء غالبية الكتاب والشعراء والمغاربة، بكل سعادة وبعينين مغمضتين، إلى أقرب وكالة بنكية لاقتراض مبالغ مالية من أجل إصدار كتبهم الأولى.
على أن كل هذه الصعوبات سرعان ما كانت تختفي بمجرد ولوجك دهاليز مطبعة السحب، واطلاعك على أولى النسخ وهي تغادر جوف الماكينات الحديدية الهائلة التي تقذف بالملزمات متفرقة قبل أن يتكفل عمال عابسون وغير عابئين بسعادتك الغامرة، بلصقها جنبا إلى جنب وحشوها في جوف غلاف صقيل يلمع فوقه اسمك العائلي.
يا لتلك الرائحة الغريبة الخاصة؛ رائحة الورق الطازج، الممزوج بعطر المداد، الخارج، توا، من جوف الآلات. ويا لحرارة تلك اللمسة السحرية الأولى التي تستشعرها حين يسلمك المسؤول عن عمال المطبعة أول نسخة من كتابك المتحول إلى هيأة جديدة ناضجة ومحترمة. وقبل أن تغادر، تتوسل إليه، مثل طفل صغير، أن يمنحك نسخة واحدة لتحتفل بها مع أصدقائك المنتشرين في مقاهي وحانات المدينة.
وها أنت تحلق فوق الغيم.. تحضن تلك النسخة اليتيمة مثلما يحضن أمير القصص السعيد جوهرة التاج.. تذرع الشوارع والجادات.. تتمنى لو بالإمكان أن تستوقف المارة لتطلعهم، واحدا واحدا، على محتوياتها.. أن تقرأ عليهم القصيدة الأولى والثانية والثالثة، بل الديوان كله.
(…)
ثم تمر السنوات مثلما يمر قطار ليلي على ضَيْمِ محطة مهجورة في خلاء بلا معنى. تكتب قصائد جديدة.. تنشرها في الجرائد والمجلات قبل أن تجمعها في كتب أخرى جديدة. وبعدما أفَقْتَ من خِدْر هذه اللحظات الشعرية الجميلة، تكتشف أن لك كتابا واحدا فقط، ذلك الكتاب الأول، الذي ورطْتَ نفسك وأسرتك في دين كبير لتجد له مكانا صغيرا في قبو تاريخ البلد. ومع أنك اكتشفت باكرا أن الشعراء مجرد جيش من الحالمين في عالم لا يصدق كوابيسهم النهارية، بقيت مصرا على تكرار التجربة وركوب نفس المغامرة ولو بعضلات مترهلة وشجن أقل وحماس فاتر، مكتفيا بمفعول تلك الكيمياء الغريبة التي لا تزال تتسلل إلى عظامك، كلما تذكرت أنك كنت الوحيد الذي لم ير – في القرن الماضي – أحدا في النافذة.

*شاعر وفنان
تشكيلي


الكاتب : عزيز أزغاي *

  

بتاريخ : 18/12/2020