اللّوحة الفزّاعة : قراءة في بيانات تحرير الجسد على لوحات الفنان عبد الله بلعباس

ألج عالم الفنان التشكيلي عبد الله بلعباس بالأبيض والأسود؛ والألوانالأخرى مؤجلة إلى حين.تحوطني كل المواقع من كل الجهات، عادة ماتكون النظرة طريقة أولية لقراءة الصورة، ولكن أنا الآن لاأمتلك هذه الحاسة، ومعناه أنه لايمكنني أن أبدأ بالنظرة. وأنا قبالة الصورة/ اللوحة المسألة معقدة وصعبة،إلا أن فضولا ما يدفعني بقوة لخرق المواقع. بين النظرة وبين النظر، مسافة يتوسطها الوسيط. هذا الأخير سيكون العين الأخرى لي ، وكأني أرى بعيني. هي ،إذن، مشكلة تترصدني، وتحدّ جوانيّ يُهيج مفعول الفضول لخرق هذا الذي تواضعنا حوله في تاريخ النظرة le regard .
أتذكر الآن أني كتبت عن رسومات هذا الفنان في أواخر ثمانينيات القرن الماضي في مجلة ‘’اليوم السابع’’، حين جُلت خلسة في أوراقه المتناثرة برسومات على الورق المقوى أو على صفحات الجرائد، وكأن الرسم على هذه الأخيرة كتابة على كتابة،أو بالأحرى خرق للكتابة، عبر تشتيت النقط، وتجميع بعضها في شكل جمل أو طائر أوماشابههما … وفي ما بعد استهوتني بلاغة الجسد عبر تشكيله بكافكاوية بديعة، وهو عمل برع فيه الفنان بكثير من القلق والتوتر .
قد تكون موضوعة الجسد رسما يحيل على هذا الارتباك في ثقافتنا المغربية .هذا ما تحصلت عليه متابعتي لأعمال هذا الفنان الذي أسره بحر المدينة وبجعها، كما لو كان يرسم الجسد في البحر، والبحر في عريه. هي مرحلة مازالت الذاكرة توقظ تلافيفها إلى حدود اليوم، فالأمر مختلف تماما حيث الفضول مهماز المغامرة، وحيث المغامرة مخاطرة أوسع وأكبر من الحواس كلها . لا أريد هنا الدخول في متاهات نيتشه وبورخيس، ولكني أنطلق من حسن النية في هذا الوسيط الذي يربطني بهذه اللوحات. سأعتبره صادقا وأكتب، سندي ما وصفته لي عيناه. لن أربك قارئ هذا المقال، ولن أضعه قاب قوسين أو أدنى من مواضعات رسخها التاريخ في دواخله، وإنما في اقتناص لحظة الرسم، ورسم اللحظة، لحظة الحجر الصحي الذي فجر سؤال الوجود بشكل علني في الغرب. وبصمت بارد في الشرق، ولأن الصمت كلام، فاللوحة/ الرسم الذي دأب الفنان بلعباس على متابعته في يوميات الحجر الصحيّ يعلن سؤال الوجود، وما يفجره هذا السؤال من تضاعيف وأسئلة أخرى تهم الكائن والكينونة، الحرية، والديمقراطية، وما شابه ذلك.
في لوحة/ رسم تبدو الكمامة فزاعة قبالة أجساد متداعية، ومتقاربة، وحاملة لجرحها التاريخي. وكأن الكمامة سلطة قامعة ترعب الآخر مثلما تقلقه إلى درجة الانفصام. عادة ما تودّ السلطة تطويع الجسد إما بالمراقبة وإما بالعقاب ، ولا أحد من الأجساد يستطيع التبرم من هذه الفزاعة المخيفة والمرعبة . لايتعلق الأمر بوباء كورونا والمضاعفات التي تركها في الاجتماع والاقتصاد والثقافة … وإنما في وضع الجسد قبالة مراياه ، وقبالة الفزاعة التي تراقبه وتعاقبه إذا لم ينصع إلى قوة السلطة .
أثارتني هذه اللوحة وكأنها تعبر عما نسكت عنه، أعني الأوامر الخارجة من الكمامة/ الفزاعة (في تلك اللوحة). يتعلق الأمر هنا بخضوع الجسد إلى الأوامر عبر زرع الموت بين عينيه ، وبالمحصلة يجد الجسد نفسه غريبا عن ذاته لاحقّ له في مصافحة، ولا قبلة على عجل، ولاحتى وضعه في معركة حميمية في غرفة النعاس، ولا حق له في الرغبة، فنتحصل على غربة الجسد. ولأن اللوحة تلك تبدو واحدة في يوميات الحجر الصحي، فإنها مع ذلك تشكل اللحمة الشفيفة بين جميع الرسومات.
هكذا يكلم بلعباس صمت اللوحة وغربة الجسد، والأسئلة التي يحفظها في الهامش، أوفي هامش الهامش، إنه يقول ولايقول، يتكلم ويصمت يملأ ويفرغ، يحضر ويغيب. وبين هذا وذاك يقف الوسيط مرتبكا في الوصف. وكأنه يعني ماوراء اللوحة، أوما فوقها ، أو ما تحتها؛ أي أنه لايصف لي إلا ماهو مؤطر أما خارج الإطار فيدعه لي ، وللبجع واللقالق التي تجوب البحر بفرح.
أأنا داخل الإطار أم خارجه؟ العهدة على الوسيط الواصف. بيد أنني أتلمس الخطوط المنفلتة بين هذا وذاك لإعادة سؤال الحرية للجسد المقموع والمشروط بممنوعاته، وبالفزاعة التي ترعبه مراقبةً ومهددةً بالعقاب. في هذا المنفلت تطل علينا الحرية طبقة سحيقة من الجسد. لقد حاول هذا الفنان المشاكس تظهير جسده(نا)بالأبيض والأسود، وكأنه يخفي الألوان تحت نخلة أو شجرة أو بحر. هو الآخر يقف بين المراقبة والعقاب لخلخلة الفزاعة/ الكمامة التي تمنع تسرب الوباء إلى الجسد. تلك هي يوميات رسومات هذا الفنان على جداره الفيسبوكي، هذا الفضاء الافتراضي المخترق _ بقليل من التحدي _ خطاب الفزاعة من حيث هو مراقبة وعقاب .


الكاتب : د. حسن إغلان

  

بتاريخ : 09/04/2021

أخبار مرتبطة

الأثر الطيب والتأثير المستدام   نظمت حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، لقاء لتقديم كتاب بعنوان « محمد الحيحي.. ذاكرة حياة»

بايعوه و باعوا له كل شيء وقف جندي بزيه المضمخ دما ليس ليقول : أنا واحد من المليون شهيد بل

أعلنت جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية التي تنظمها وزارة الثقافة الفلسطينية عن الروايات المرشحة للقائمة الطويلة بدورتها الثالثة للعام 2024،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *