المتخيل الميثولوجي في رواية «الرقيم الأخير» لعبد الإله الرابحي

 

تسعى هذه المداخلة إلى بيان كيف استطاع المؤلف وبقدرات فنية عالية الدقة أن يشتغل على توظيف المتخيل أو المحكي الميثولوجي داخل هذا النص الروائي بهدف صياغة رؤية جديدة لتاريخ الإنسان، وإلقاء أضواء جديدة على الحاضر ومايرافقه من تحولات وانعطافات متعددة الأبعاد، وأجمل ما في هذا النص هو قدرته على تماهي السارد مع بعض النصوص الميثولوجية الكبرى في الفكر البشري والتي سجلت مظاهر المغامرات الأولى للعقل البشري. إن توظيف المؤلف للمتخيل الأسطوري يعبر عن رؤية محددة ومتقدمة للأسطورة التي طالما تمنعتها بالخرافة والتفكير غير المعقول. فقد أكدت الدراسات الأنثروبولوجية المعاصرة على تنوع العقل البشري حسب السياق الحضاري لكل ثقافة، فليس هناك فكر متحضر يقابله فكر متوحش أو اسطوري يعكس مرحلة بدائية من التطور الحضاري كما كان رائجا في الفترة التي ساد فيها البراديغم الوضعي في القرن التاسع عشر، حيث تم اعتبار التفكير الأسطوري كصنف من أصناف التفكير يعكس مرحلة سابقة تم تجاوزها بعد ظهور التفكير العقلاني ثم العلمي. وقد أكد العالم والمفكر الفرنسي كلود ليفي ستروس في كتابه «الفكر التوحش» أن هذا الأخير ليس فكرا سابقا على العقل والمنطق، بل هو جزء من نسق ثقافي مستقل عن النسق الحديث، يملك نفس المؤهلات المنطقية التي تجعله موازيا للفكر الحديث، كذلك ينبغي التعامل مع هذا الفكر من منطلق النسبية وعدم الاعتقاد بوجود عقل كلي واحد، والذي عبر عنه المنطق الأرسطي. فهناك مستويات أخرى للعقل البشري تعرضت للإقصاء والتهميش من طرف الأنثروبولوجيا الغربية الكلاسيكية لأغراض إيديولوجية واستعمارية.
تنطلق أحداث رواية «الرقيم الأخير» من مشهد استدعاء عميد الكلية للأستاذ الغرباوي لاجتماع بالمختبر، بحضور رئيس الشعبة ، حيث قدم له شخصا أجنبيا هو السيد ماكس مالوان، أستاذ باحث في علم الآثار، والذي عثرت المجموعة التي ينتمي إليها على كنز أثري عبارة عن رقيم طيني يحتوي على رقيع وثلاثة عشر لوحا طينيا، خلال رحلة ببلاد ما بين النهرين بأحد التلال الأثرية. أخذ الغرباوي معه الرقيم إلى بيته قصد فك شفراته وأسراره والتعرف على ما يحتويه من عناصر قد تفيده في بحثه الأركيولوجي، وهناك بدأت رحلة الحكي في الرواية ومرافقها من أحداث سافر بنا من خلالها السارد إلى جذور الحضارة البشرية .
في هذا الاتجاه استثمر المؤلف/السارد ملحمة الخلق البابلية «إينموما إليتش»أحد أعظم النصوص الميتولوجية التي أنتجها العقل البشري في العصور القديمة، وهي عبارة عن أساطير سومرية موضوعها هو البدايات والتكوينات الأولية لأشياء العالم، وقد تميزت بأساليبها الشعرية الراقية وبحبكاتها السردية الفذة. تبدأ إينوما إليتش بالمشهد التالي: عندما في الأعالي، لم يكن هناك سماء ، وفي الأسفل لم تكن هناك أرض. ليس هناك شيء يولد من عدم ، أما تشكل العالم قد انبثق من شكل سابق، حيث في البدء كان الثالوث الأول :أبسو وتعامة وممو، أبسو هو الماء العذب، وتعامة زوجته هي الماء المالح، أما ممو، فهو الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها. وعن هذه الكتلة المائية الأولى التي كانت بمثابة عماء وسديم انبثقت بقية الآلهة والموجودات، والصراع بين هذه المكونات الأولى هو الذي أدى إلى كل مظاهر الوجود في هذا الكون، حيث تم الانتقال من العصر الأمومي إلى العصر الأبوي الذكوري الذي تميز بالسيطرة على الطبيعة في حين تميز العصر الأمومي بالانسجام والوئام الطبيعي، ومن امتزاج عناصرها ظهر كل شيء. للإشارة فإن أسطورة الخلق اكتشفها عالم الآثار البريطاني أوستن هنري لايارد سنة 1849 بمنطقة نينوى بالعراق وتوالت بعد ذلك التحقيقات والشروحات التي خلفت تراثا ضخما لايزال الناس إلى اليوم مولعين بالاطلاع عليه.
في «الرقيم الأخير» يظهر عسي الذي خلق السهول والجبال والهضاب لاحتواء السلالة القادمة، فجاءت الأنثى مارينا، ومن تمازجهما ولد نبيه وعقيل وعقيلة، وفطين وفطينة ونزيهة، وهي العناصر التي بدأت تتصارع في ما بينها فتولدت الرغبة في التملك والتفرد والسلطة والهيمنة. تطور الصراع فبدأت الفروع تقضي على الأصول..سالت الدماء في الأعالي وتحولت مع مرور الزمن إلى حبر لكتابة تاريخ البشرية في تلك العهود السحيقة.
أثناء قراءته لألواح الرقيم الأخير وجد الغرباوي أن العالم لم يتكون من عدم، هناك أشياء قد سبقت حركة الوجود. كان هناك شلال عذب قادم من الغور السحيق، عنه انبثق «عسي» أدرك بأنه موجود عندما اشتغلت حواسه، لكن أدرك أيضا بأن وجوده وحده لايكفي فهذا السهل به متسع لاحتمال ثقل السلالة القادمة.بعدها ظهرت «مارينا» التي ستقاسمه هواء الكينونة كما تقاسمت معه رغبة إخراج السلالة من القوة إلى الفعل «أي نعم سيظل الشلال موطننا الأصلي. من الماء قدمنا وللماء عودتنا» (ص30).هكذا بدأ أفراد السلالة يطلون واحدا بعد واحد، كان المولود الأول يحمل اسم نبيه الذي كان كثير الحركة، لكن حركته وحده غير كافية لملء صمت هذا الفضاء الشاسع، فتتالت أصوات فطين وفطينة وعقيل وعقلية ونبيهة. ازداد اللغط مع ازدياد أفراد السلالة وبدأ عقيل يفكر في كيفية السيطرة على السهل بعيدا عن سلطة الأب الأول «تزايد الصراخ، تشابكت الأيدي وتنافشت الشعور. انقلبت الأظافر إلى مخالب. «لأول مرة يرى نبيه دما يجري على الأسطح الصقيلة..وجم الجميع وصار الزعيق صنو الدم» (ص35). أدركت السلالة أن عسي يريد تدمير الجميع لأنه ماعاد يحتمل لعبهم الجميل، فهو يريد أن يكون السهل له وحده دون غيره. قرر نبيه القضاء على عسي لأن السهل بدونه سيكون أجمل. تم إذن القضاء على عسي وبعده وارث سره نبيه، فرقص الشلال منبئا السلالة بعهد جديد يقوده العقيل الحكيم وتناسلت أفعال العنف والانتقام والتخلص، وتعددت الحكايات التي تسرد وقائع الأصوات التي قد تزعزع عروش السيادة على تلك الضفاف والسهول..ظل عقيل يبسط سيطرته على الشلال ويوزع المهام المنوطة بكل واحد من هذه السلالة حسب قدرته على التكيف مع الوضع الجديد إلى جانبه عقيلة سيدة الجسد التي تحول سريرها إلى ما بين السرير السامي والسرير المنزه، وستسهر على الأسرة المنزهة التي ستأوي الشبيهات السبع.(94). أما فطينة، سيدة الغضب، ستلحق عسي ونبيه ومارينا لتسكن وحدها القعر الثاني من اللج المظلم، عقابا لها على ما جناه عليها فيض الخاطر الملعون، حتى تظل عبرة للآخرين..(95). يتماهى السارد في «الرقيم الأخير» مع النص الميثولوجي «أسطورة الخلق» البابلية في وصف جمالية المكان أو الفضاء الذي يلعب دورا فنيا في تشكيل البناء السردي للأحداث المروية. فقد بدأ الكون في حضن المياه الأولى التي كانت بمثابة المادة الأولى التي انبثقت منها كل الموجودات، وقد تميزت هذه المياه بالاضطراب بسبب اختلاط العنصر الحلو مع العنصر المالح وكان ذلك بداية للذكورة والأنوثة وهما الإلهان الأولان اللذان كانا السبب في ظهور الآلهة الموالية، يقول السارد في الصفحة 26 «صمت رهيب، شلال فوار، ضباب كثيف ينبعث من فقاعات الماء المنساب. شبه رذاذ من زلال لا لون له، كتلة سديمية، لامكان ولازمان الآن، لا صوت إلا لماء».. يتميز الفضاء في «الرقيم الأخير» مثله مثل أجواء الميثولوجيات البابلية، بالانفتاح على أعالي السماء الشاسعة ومفازات الأراضي السفلية مما يمنح للشخوص السردية الشعور بالاطمئنان والراحة، ويدفعها إلى التصرف بحرية والمساهمة في خلق الأحداث وتكسير الحواجز بينها وبين مختلف الفضاءات المفترضة. يقول السارد في الصفحة52 «اصطف الأهالي تباعا، وعلى أنغام التجويف اللولبي رقصت الأجساد تسبح في عوالم لا علاقة لها بواقع الحوش والشلال، حلقوا بعيدا واستغرقتهم لحظات متعة لا عهد لهم بها»…..ويضيف السارد في الصفحة53 ، حيث يخاطب عقيل ابنه منزوه «ها أنت ترى عمل الأشباه الكبار والصغار، تهيء لك السهل حتى في غيها الجميل، وما كان لها أن تبلغ ما بلغته لولا أسئلتي الأولى، وتطلعي لما وراء الشلال. وها أنت تراني قد كبرت ووهنت..وماعليك إلا أن تتعلم صعود الشلال لترى مابعده». عديدة مثل هذه المشاهد الجميلة التي تؤثث فضاءات الرقيم الأخير والتي لعبت دورا فنيا في إضفاء حركية حكائية للفضاء الميثولوجي، وجعلته أكثر انفتاحا لاستيعاب مكونات هذا النص من شخوص وأبطال أسطورية وأزمنة أسطورية، وأحداث ساهمت بشكل كبير في جمالية النص السردي بصفة عامة.
ينقلنا السارد من هذا التاريخ السحيق التي يؤرخ لتلك البدايات إلى الحاضر، مستأنفا حكاية الغرباوي الذي أخذ على عاتقه كشف أسرار الرقيم وفك ألغازه، لكن هذه المرة في رحلة إلى الضفة الأخرى حيث أرض الرافدين التي كانت مسرحا للكثير من أحداث ما تم تدوينه في الرقيم الأخير. وجد الغرباوي نفسه معتقلا في زنزانة داخل قبو بحدائق إيغودان بعدما تم اعتقاله عند مدخل حديقة الوركاء التاريخية. اعتقل بسب الشك في أمره من طرف عيون الإمارة المحروسة، حيث اعتقدوا أنه جاسوس قادم من بلاد عدوة. وأثناء محاكمته اكتشف القاضي بأن الغرباوي شخص مهم ينبغي الاحتفاظ به بسب اطلاعه على أسرار تلك الحضارة العظيمة من خلال ألواح الرقيم «سأمنحك –خاطبه القاضي- منصبا في المعبد، على أن تظل بقربي في دار القاضي» (172). ومنذ ذلك اليوم والغرباوي يحظى بالحفاوة وحسن الضيافة باعتباره شخصا قادما من زمن آت. تم تكليف الغرباوي بمهام كثيرة منها مبعوث إمارة الجنوب عند ضيوفه، بل أصبح مستشارا خاصا لدار القضاء نظرا لهذا الوضع الاعتباري الذي حظي به لكن بقي دوما تحت مراقبة عيون الإمارة المحروسة، إلى أن جاء اليوم الذي انقلبت فيه النعمة إلى نقمة .. شكوا مرة أخرى في نواياه وقدموه للمحاكمة بتهمة المس بالأمن التاريخي للإمارة المقدسة، والتحريض عليه، والتآمر مع جهات معادية لتحريف تاريخ إمارة السيدة العظيمة إيغودان. ومعنى هذه التهمة هو اطلاع الغرباوي على أسرار الأجيال القادمة التي ستكون ضحية التاريخ المزور الذي سيكتبه المنتصرون من اجل السيطرة على المنهزمين القابعين في المدن السفلى. ففي نظر حكام الإمارة أن اطلاع الغرباوي على أسرار الرقيم هو اطلاع على تاريخ الظلم والطغيان، وفي نفس الوقت هو تحريض على العصيان الثقافي وزرع أرض الإمارة بالألواح والأرقم واللقى الملغومة . حكمت المحكمة في تلك البلاد البعيدة على الغرباوي بالموت رميا في جوف النهر عقابا على اطلاعه على هذا التاريخ السري المنتصر للمظلومين، وسعيه إلى استنهاض الذاكرة الجمعية الإنسانية لكتابة تاريخ جديد مضاد لسرديات التسلط والقهر والهمينة على الأرض والبشر.
ما يمكن استنتاجه في نهاية هذا العرض هو أن توظيف الروائي للمادة الميثولوجية كخلفية لإنتاج خطاب تخييلي كان بهدف مساءلة هذا الحاضر الإنساني الذي لايزال يجتر المآسي الناتجة عن الصراعات التي تحدث باستمرار، حفاظا على المصالح الخاصة أو على سلطة تسعى إلى الهيمنة. وبذلك، فإن استعادة هذا البعد المتيولوجي هو قراءة لهذا الراهن طالما أن الصراع في الأسطورة هو صراع إنساني يفصل الوضع البشري عن اصوله الطبيعية ليلحقه بما تنتجه الثقافة من مآسٍ . على المستوى الفني فالأسطورة هي بمثابة مرجع جمالي وفكري يتغذى منه الأدب بصفة عامة باعتبارها عنصرا فعالا في بناء الرؤية الفكرية والإبداعية للروائي، لذلك فاستعادة الأسطورة في عمل إبداعي سردي هو ضرورة فنية من خلالها يعمل المؤلف على استعادة جذور السرد عند الإنسان، وهي الجذور التي احتفظت بها هذه النصوص الخالدة..ومن جهة أخرى فعملية التوظيف هاته تؤدي إلى تغيير هوية الأسطورة بحيث تتحول إلى إطار يحتضن القضايا التي يسعى المؤلف إلى طرحها عبر خطابها الروائي. فقد تحولت أسطورة الخلق في «الرقيم الأخير» إلى نص آخر له بعد معرفي جديد ينضاف إلى تاريخها العريق، وكمعين لاينضب للأفكار المبدعة، وكشكل سردي متكامل ينطوي على سارد وحكاية ومسرود له..وهذا دليل على أن السرد المعاصر لا ينفصل عن جذوره في الأشكال التعبيرية القديمة، خصوصا الأساطير والملاحم التي شملت تصورات عن علاقة الإنسان بذاته وبالآخرين.

ـ إحالات مرجعية

*- عبد الإله رابحي، الرقيم الأخير، دار القلمالعربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القنيطرة 2022
*- مصطفى الورياغلي، فكر المتخيل في الروية المغربية، سليك خوين، الطبعة الأولى ، طنجة 2022
*- كلود ليفي ستروس، الفكر البري ، ترجمة وتعليق نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشروالتوزيع، الطبعة الثالثة ، بيروت2007


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 24/05/2024