المحمدية تحتفي بالفنان، الناقد والإعلامي شفيق الزكاري

شفيق مشروع فني لا لوحة منفردة

مصطفى الإدريسي

احتفت مدينة المحمدية بالفنان والناقد والإعلامي شفيق الزكاري، بحضور ثلة من الأصدقاء والصديقات تتقدمهم أسرة المحتفى به ، تحت إشراف وتنظيم جمعية الصداقة لكرة الطاولة بالمحمدية، وبمشاركة جمعيات المجتمع المدني وبعض المؤسسات الخاصة ، وذلك يوم السبت 04 دجنبر 2021 بفندق إبيس بالمحمدية.
الافتتاح انطلق ببث شريط مختزل تذكاري بمنجزات المحتفى به، مصحوبا بشهادات لأهله وأصدقائه من المبدعين وممن جايلوه في طفولته وشبابه، وهم :
«الأستاذ بوغالب العسري، الشاعر صلاح بوسريف، الأستاذ مصطفى بنجيمة، الفنانة شمس الضحى أطاع الله، الفنان عبد الكريم الأزهر، الفنان نور الدين فاتحي، وشهادة أخيرة لابن المحتفى به منتصر الزكاري».
اللقاء عرف تقديم شهادات لكل من الشعراء والنقاد: عبد الحميد جماهري، سعيد عاهد، أحمد لطف الله، بنيونس عميروش، الشاعر والجمعوي عزيز زكار، والفنان محمد بومدين، والدكتور الباحث الجمالي عبد الله الشيخ، تلتها قراءات شعرية زجلية لكل من عزيز غالي وعبد الرحيم لقلع ومحمد موتنا السباعي، مع تقديم معزوفات على العود لكل من الفنان عبد المجيد بريش، والفنان مجيد موتنا السباعي نسق فقراتها وقدمها الكاتب والناقد مصطفى النحال، لينتهي الحفل بتقديم هديتين ثمينتين وهي عبارة عن لوحتين من إنجاز الشاعر والفنان عبد اللطيف البطل، ولوحة/ بورتريه للمحتفى به للفنان شبوغ، ليختتم اللقاء بكلمة لشفيق الزكاري.

 

شفيق الزكاري: قماش صداقتنا الباهظ البياض

عبد الحميد جماهري

ظل قماش الصداقة ممتدا طوال عقود ثلاثة وقَطْعٍ من العمر غير يسير، ولم يلطخ بياضه النافع أي خدش أو خبطة طارئة، فالصديق شفيق الزكاري هو الوحيد ربما من بين أصدقائي في الأوساط الثقافية والمهنية والإبداعية الذي لم يحدث بيني وبينه أي خصام ولو من باب الملامة أو العتاب الذي يقويها.
وأعترف بأن المجهود الكبير في الحفاظ على هذه المودة الفائضة والبياض الناصع يعود إليه، هو الذي يتحمل صديقا ورفيقا مثلي غالبا ما تغريه العواصف، وميل لاإرادي في ارتجال الانفعال يميلان به إلى قطائع صغيرة وإن لم تُفقد للود قضية.
شفيق الزكاري هو أيضا روح شاسعة الضياء، روحانية باهظة المودة وسهولها مترامية الأطراف، ولست أعجب أنها فاضت عن هويته كفنان وسارعت به إلى التعبيرات الأخرى كلها، فهو الرسام والتشكيلي والفنان الكاليغرافي والسيريغرافي ، وهو إلى ذلك الناقد الفني المتميز الذي يعطي ليعطي ويضيف.
ولن أستغرب بأن حدودها لن تقف عند الصحافة، لأنها جزء من حاضر المغرب الذي يستهويه سبر أغواره، ولا تستغربوا إن وجدتموه ذات مستقبل وراء الكاميرا أو أروقة الخشبة يبحث عن إضافة أخرى تضيء العالم إضاءة جديدة ..
في الصحافة، للصديق شفيق تاريخ شخصي خاص: فهو أولا قدم لها المادة الخام من خلال اللوحة التي يبدعها، ثم قدم لها المادة التي تغذيها من خلال المتابعات الصحافية للمعارض والتجارب الفنية، كما أنه غذى الصحافة بالنقد التشكيلي الذي تميز به وأغناه بنفس المعنى الذي ميز قسطه من الإنتاجية الفنية.
حدسي فيه، أنه كان يترقب الزمن المناسب، أي عندما ينضج الانتقال كما نضجت التجربة الفنية.
وهو ثالثا قد امتهن الإعلام والكتابة الإعلامية كقفزة ناضجة وخالصة لخدمة الثقافي، هويتها من هويته.
ويمكن، بدون مجازفات تفرضها احتفالية اللحظة، أن أقول إنه استطاع أن يحقق بمهنية عالية ما عجز عنه مهنيون سبقوه إلى هذا الجدع الصلب من الوجود المغربي في الكتابة.
ففي الفن كان يبحث عن الجمال، بما هو قرين للإبداعية التشكيلية والذائقة الفنية عموما.
هكذا يكون عمله الطويل استدراجا لهذه الجمالية التي تقترن بالخيال التاريخي أو بتراجيدياه..
ثم في الكتابة عن الإبداعية المغربية وحقيقة العيش فيها وفي البحث عن جوهرها، أسعفته الصحافة والفن معا في الاقتراب من حقيقة وجود المغربي الحالي، الذي يعيش شرطه الإنساني بقساوة وبقلق…
وفي الكتابة الصحفية، تقاطعت عنده هموم البحث عن الحق وتقديمها كممكن مغربي في سياق عاشه بحدته وطراوته. معا…
هذه الثلاثية التي تموج بها روحه هي التي ترسخت بثلاثية تراجيدية في فهم الفن والكتابة والشرط الوجودي للإنسان المغربي…
وفي الإعلام تميزت تجربته بملامسته لكل الأجناس الصحافية.
أجاد في صياغة العمود الإعلامي وهو أمر لا يقدر عليه كل صحافي، ولا على ديمومة الإنتاج فيه واحترام أدبياته وقواعده، بل والعثور على الفكرة المستجدة التي تغري الكاتب والقارئ معا.كما أفلح في الحوار بما يمليه هذا الجنس الثقافي من »استراتيجية لياقة«، تأتت له من قدرته العفوية والفورية على التواصل وبناء جسور الثقة واختيار الكلمات في نسج العلاقات..أجاد في تقديم الكتب وفي الملفات ذات وحدة الموضوع، بما جعله فعلا من الذين ستظل بصمتهم دالة في تاريخ الإعلام.
وإلى ذلك كله، ينتمي شفيق الزكاري إلى جيل من صناع الانتقال الإعلامي، من صحافة كانت تهيمن عليها الدعوة السياسية والإيديولوجية الوطنية، وأقانيم بناء الثقافة المضادة من زاوية الانحياز الإيديولوجي الواضح، إلى صحافة تعددية نسميها الخاصة أو المستقلة أو غير الحزبية.
وهو عمل تأسيسي ليس بالهين في مجتمع تتسارع فيها المنعطفات وضرورات الانتقال..
إذا حصل وأن جرت بيننا خصومة ما في المستقبل،أود أن تكون عتبة لمحبة مضاعفة.. ومجرد تجريب على قماش سيظل دوما استدراجا للوحة باهظة السعادة!

اغتراب القماشة

أحمد لطف الله *

منذ أربعة عقود، أو يزيد، والفنان شفيق الزكاري يُراكمُ رؤاهُ الجمالية، بدءاً بالخيال الأسطوري، حيث كان الوعي الجمالي في تلك المحطة ثاوياً في تجاويف التراث الإنساني، مُندَسّاً داخل متاهة الأسطورة، هُناكَ حيث يولد الفن من شراسة الوقائع، ويتدفق الجمال من رمزية الأفكار المتعالية.ومن تلك المحطة استرسلَ زخمَهُ الإبداعي بلوغا نحو منبع ورحم الرؤى الفينة الحداثية، والتي منحت أعماله قوّة تعبيرية عن غربة وجودية.
في سياق الاشتغال على الأسطورة، كان شفيق الزوكاري واحدا من أبرز الفنانين التشكيليين المغاربة الذين حوّلوا الأسطورة من موروث حَكَوي وشعري إلى موروث بصَري. تدوين النّفس الأسطوري بصرياً، من خلال «المعالجة الفنية الحداثية للأسطورة، بعيدا عن التصورات الفنية الكلاسيكية التي كانت تروم صيانة الأسطورة، وترميم تموقعها في الذاكرة الجمعية للمجتمعات».
للوحة الفنية عند الفنان شفيق، تماسّ مباشر مع روحه ووجدانه، وأكادُ أعتقِدُ أنه يفكِّرُ في اللوحة بهما، أي بروحه ووجدانه.فمن دون تعمد خلق مسافة ذات طبيعة فكرية قد يفرضها التأمل في صياغة العمل الفني ومباشرة الصباغة، تنخرط فرشاة الفنان في أداء عملها، وكأنها ترسم تداعيات روحه، فتمنح الرائي صورة طبق الأصل عن شخصيته، وسيرورة حياته. زمن اللوحة مطابق لزمن الفنان، وشخوصه مرئيون في واقعه بعينه الداخلية، وهي عينٌ نافذة ناقدةٌ تترجم مرئيها ألوانا وأشكالا.
لم يكن انتقال شفيق من الأسطورة إلى الواقع، تحوّلا جذريا في مساره التشكيلي، بل ظلّ عمله الفني محايثا للأسطورة، غير بعيد عن ضفافها، تؤكد ذلك أجسادهُ المينوتورية، بأعلاها الحيواني وأسفلها الآدمي، كاشفة على أن الواقع أشد غرابة من الأسطورة، وأن التيه أقسى عقاب يتلقاه الإنسان. لم تأت هذه الأجساد على شاكلة الكانتاوور الإغريقي، الذي كان نصفه العلوي آدميا، وأسفله جسم حصان يركض بحرية، ولذلك حوّل التيه إلى منبع للذة.
كثيرا ما توقفتُ بإحساسي ووعيي البصري أمام مخلوقات شفيق، وما أثار حواسي وذائقتي الجمالية في هذه الأعمال، ليس مجرد انتمائها للامألوف، بل تعبيرها عن اغتراب غني الدلالات، فالأقنعة تُغادر وظيفتها المعهودة، والتي هي الحَجْبُ أساسا، لتؤسس لتجربة بصرية جديدة تجعل من القناع أصلا وجِذرا للحقيقة، وجوه لحيوانات وجوارح ونرود وغيرها، هي حقيقة الوجه، «سقطَ القناعُ عن القناع».
تنوع أسناده، من الخشب، والكرتون والقماش، وغيرها وألوانه الصريحة الشفافة غير المحتشمة، وإلمامه بفنون الطباعة والنسخ الفني، إضافة لوعيه النقدي خاصة في ما يتعلّق بترويج العمل الفني. كل ذلك يمنحه مساحة هائلة من التحرر، والإبحار نحو موضوعاته بكلِّ أريحية في الاشتغال.
أنجز شفيق الزوكاري العديد من الشراكات الفنية مع فنانات وفنانين أجانب، خاصة الإسبان، حيث كان يضع يده وبصمته إلى جانب الفنانين الآخرين المختلفين عنه لغة وهوية وأعرافا، لتجسيد أعمال مشتركة تحتفي بما يتقاسمه الناس في بقاع الأرض. دونما أي ملمس للتبعية، أو أي إحساس بالتميز ما بين الفنانين المشاركين الذين يؤمنون بعقيدة أن الفن لغة العالم.
في كتابه «الفن والحلم والفعل» يقول جبرا إبراهيم جبرا: «هناك قوتان: قوة الذاكرة، وقوة الخيال، إذا استطاع الإنسان أن يُقيم الواحدة تجاه الأخرى، ويوجِدَ تفاعلاً بينهما مستمرا، فهو حينئذ في طريقه إلى إبداع شيء يستحق البقاء»، يقيم شفيق الزوكاري هذا التوازن، ما بين ذاكرته الإبداعية، التي راكم موادها من تجاربه وتجواله في العالم، وخياله المفعم بروح جمالية حداثية قوية.
يقول الكاتب حسن بيريش، متحدثا عن هذا المشروع الفني لشفيق: «ثمة من يرسم منطلقا من فكرة لوحة، ومن يرسم مسترشدا بأفق مشروع. الأول يذهب إلى اللون متقدا بجمر الانطلاق، والثاني يلوذ بالقماش مسكونا بحلم الامتداد. شفيق الزكاري مشروع فني لا لوحة منفردة».

(*)قاص وناقد جمالي

 

شفيق الزكاري: تَصْويرِيـــة العُبـــور

بنيونس عميروش (*)

تبدو من الصعب جدا، الإحاطة الدقيقة بإنجازات الفنان التشكيلي شفيق الزكاري، الذي يغطي مساره الإبداعي ما يفوق الثلاثة عقود. بيد أن محاولة متأنية في رصد منطق الاشتغال الذي يقربنا من تَلمُّس خياراته الفنية، تدفعنا للتساؤل عن سر اعتناقه للتخطيط (اعتماد الخط Ligne)، عبر إوالية تشكيلية فريدة، تميل إلى نزوع اختزالي يروم الغوص التجريبي في جمالية الفراغ واللامكتمل. أول مؤشر على ذلك، يعود إلى تأثره المبكر بالفنان اللبناني وجيه نحلة، واهتمامه بالخط العربي، ليس في بُعده المقروء، بل في بعده التعبيري، كعنصر يطعم حركية الفرشاة، وحركية الجسد الفاعل ككُلّ. أثمرت هذه التجربة معرضه الثلاثي الأول بالمحمدية في 1980، رفقة الفنانَيْن زين العابدين الشَّلي ونورالدين فاتحي (حيث دأب الثلاثة على الاشتغال المشترك منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي)، ثم معرضه الثنائي بمشاركة الأخير بالمحمدية أيضا، في 1985.
بعد حصوله على شهادة الباكالوريا في 1981، جهَّز شفيق الزكاري ملفه الفني، متوجها إلى مدرسة الفنون الجميلة بتطوان. بعد اجتيازه الامتحان بنجاح، نادى عليه محمد السرغيني مدير المدرسة وقتذاك، فنصحه بإمكانية ولوج التعليم العالي والاستفادة من المنحة، موضحا أن المدرسة تكتفي بشهادة السلك الأول. إثر ذلك، سيلتحق بكلية آداب عين الشق بالبيضاء (1981-1982)، ليشد الرحال بعدها إلى مدرسة ديجون Dijon الوطنية العليا للفنون الجميلة بفرنسا، وينفق فيها أربع سنوات دراسية (1982-1986)، مُترعة بالمعرفة والاطلاع والكسب العلمي، إذ تٌعرف المدرسة بتوجُّهِها الطلائعي، وانفتاحها على الفنون الحداثية المواكبة لكل جديد. وتماشيا مع تطور تكنولوجيات الطبع حينذاك، انخرط شفيق في البحوث الخاصة بمجال فنون الاستنساخ (Copy-art)، بما فيها من تقنيات مستحدثة في الحفر Gravure والسريغرافيا والليتوغرافيا (الطباعة الحجرية)، مما ضاعف لديه -لامحالة- الإحساس بتعبيرية الخط وقوته، في مقابل التقشف اللوني وإدراك جاذبية الفراغ وطرق استثماره تشكيليا.
بعد عودته من فرنسا، أنشأ ورشة للطباعة الفنية مع الفنان نورالدين فاتحي، فعملا على استنساخ لوحات عدد من الفنانين: محمد القاسمي، ضياء العزاوي، بوشتى الحياني، مصطفى بوجمعاوي، حسن السلاوي، عيسى إكن، عبد الكريم الأزهر، بوشعيب الهبولي الذي انضم إليهما لتكوين خلية «غرافيك»، ليتم تنظيم عدة معارض خاصة بفنون الطباعة Les arts graphiques بمشاركة لطيفة التيجاني، التيباري كنتور، عبد الكريم الأزهر، حكيم غيلان، عبد الإلاه بوعود. كما عملت الخلية على تنظيم أول صالون مغربي مشترك للطباعة الفنية في 1988، بمدن المحمدية والرباط والبيضاء والجديدة. في خضم هذا الاحتكاك الجماعي والعمل المشترك الذي طبع سنوات الثمانينيات، وجب التأكيد على أن الزكاري يعتبر من المساهمين بشكل فعال في العودة إلى التشخيصية Le retour à la figuration (بالمعنى التعبيري المعاصر وليس الأكاديمي)، إلى جانب عزيز السيد وفاتحي والهبولي.
في اتجاه مدّ الجسور بين الأدب والفن، يُقيم شفيق صحبة مُجايِله فاتحي معرضا يقوم على تفعيل علاقة الشعر والتشكيل تحت عنوان «وادي المخازن» في 1992، وهو النشاط الذي شكَّل حدث تدشين المركب الثقافي سيدي محمد بالعربي العلوي بالمحمدية، حيث تم الاشتغال على أشعار ثلاثة عشر شاعرا مغربيا شابا عموما. هذه التجربة التي تم فيها إدماج القصيدة ككتابة وتشكيل ، سرعان ما ستتطور في أفق توسيع دائرة الشعراء، ليتحقق تنفيذ مشروع «ديوان الشعر المغربي الحديث» بشراكة مع بيت الشعر، وبحضور أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وعدد من الشعراء الأجانب. نٌظم المعرض الذي أسفر عن إنجاز حقيبة فنية تضم سبعة وعشرين شاعرا، في الدار البيضاء بقاعة «الواسطي» وفضاء الدورة السابعة للمعرض الدولي للكتاب في 1998. ففي اشتغاله بالخط وعلى الخط، وكذا بوصفه مبدعا غرافيكيا (graphiste)، ما يبرر تفاعله المثمر داخل قطبي الشعري والتشكيلي، بنظرة الفنان، وبأريَحِية المهتم الجيِّد بحقل الأدب.
لوحة «الكرسي المتحرك»(2009)، تمثل أقصى تكثيف لصيغة المقاومة بحسب تقديري؛ مُقاومة الإنسان في تدبير عَيْشه في العالم، حيث العري Le Nu وسيلة لمضاعفة الكشف عن الصراع العضوي العنيف لمحاولة التقدم من أجل الإفلات من التجمُّد والفناء.
هذه المجموعة إذن، تؤلف تشكيلا بلاغيا لتجربة حياتية مَعيشة في المهجر، وفي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية. في فلينسيا بإسبانيا، حيث كان يقيم ويشتغل الفنان بأحد معامل الفليكسوغرافيا (تصميم أغلفة تلفيف المُنتَجات الاستهلاكية)، قام بإنجاز اللوحات كسيرة ذاتية لفكِّ الرتابة وجَبْر الانكسارات النفسية.
تماشيا مع الوضع (المأزوم)، عَمَد شفيق إلى إعادة تأهيل الأشياء المُهملة (Reciclage/ Ready-made). لذلك تم اعتماد الكرتون المستعمل، إذ ينطلق البناء التشكيلي استنادا إلى الأشكال والأرقام والموتيفات المطبوعة عليه مسبقا. فطبيعة السند مهمة عنده ، لأنها تمثل الأساس في تكوين التصور وإنجازه تقنيا. أثناء بحثه عن الكرتون عبر نقط ركام المهملات، كما أبلغني، كان يلتقي مع آخر ينقب عن الخبز (الذي شح على أرض فرانكو)؛ لِكُلٍّ رحلة قِطافها. في هذا السياق، تشكلت لوحة «حاوية القُمامة»(2010)، كوعاء مُحمَّل بجسد شبحي في حالة حركة انزلاقية تشي بضَنَك العيش. إنها المفارقات والتناقضات الاجتماعية والقيمية التي كان لها بالغ الأثر في جعل الأعمال تتبنى موقفا نقديا يقوم على مقاربة وجودية. من ثمة، نَتَحسَّس قصْدية الفنان ونجاحه في وضعنا أمام أسئلة مثيرة ومشتركة: القلق، الموت، الاغتراب، السفر، النصيب، التكافل، الإحباط، التَّشْييء؛ تَشْييء الإنسان وتحويل كينونته الآدمية إلى علامات مُشفَّرة وأرقام. هذه التشخيصية التعبيرية المنبثقة من مُزاوجة الفن والحياة، والموصوفة بالإقلالية (Minimalisme) التي تنتصر لإبراز قيمة الكرتون كلون ومادة وحياكة Texture، إنما تعتبر في الأصل، انخراطا في مسايرة التوجهات التشكيلية الكونية، الموسومة بمستويات الاختلاف في التعبير والتفكير والمحيط. عبر تداخل هذه المستويات تلتقي هذه الأعمال التركيبية بدْرامِية الفنان البولوني فلاديمير فيليكوفيك V.Velikovich الذي عاش قساوة الحرب.
في إيمانه الراسخ بضرورة الانفتاح الثقافي على الآخر، يُوَطِّد شفيق الزكاري تواصله مع ذاته، بقدر ما يوطد مبدأ الاختلاف معها، لإغناء حظوظ التلاقي والتبادل والتقاسم، حيث «ما من علاقة مع الذات وتطابق معها دون ثقافة، إلا أنها ثقافة الذات مثلما هي ثقافة الآخر، ثقافة المُضاف إلى الممزوج، ثقافة الاختلاف مع الذات» بتعبير جاك ديريدا.
ضمن هذا الأفق، ساهم في الكثير من الأنشطة الجماعية مع تشكيليين إسبانيين معروفين، كان آخرها إنجاز مشروع إبداعي، تم تنفيذه في 2010 بمدينة الصويرة تحت شعار «عشر أيادي».
في أواخر لقاءاتي به في فعاليات البينالي الدولي الأول بالدار البيضاء (يونيو2012)، كان مرفوقا بالفنانة الإسبانية سيميون مارطة Simeon Marta التي أقامت في بيت أسرته الصغيرة طيلة أيام الملتقى، كما رافقها في جولة لبعض مراسم الفنانين المغاربة. أثناء الجولة التي كنت فيها بصحبتهما لزيارة محترف الفنان الزبير الناجب بالجديدة، أسر لي أن مارطة انزعجت من كونه لا يسمح لها مطلقا بأية مساهمة مادية، باعتبار ذلك من شروط الضيافة، فعلق مضيفا: «تعلم أخي بنيونس أن الفنان سفير بلده». هو ذا شفيق كما أعرفه دائما: صفاء روحي وكبرياء نادر.
هذا الحس الوطني، يتجسد عنده أيضا من خلال مشاركاته العديدة في العمل الجمعوي الموصول بالمجتمع المدني. أذكر – على سبيل المثال لا الحصر- تجربته الراقية مع نزيلات سجن سلا بتعاون مع جمعية جسور النسائية، داخل إطار برنامج مهرجان الرباط الدولي في بداية الألفية الثالثة، حيث تم عرض أعمال النزيلات «الفنانات»، مع إقامة حفل موسيقي لهن، مما مكنهن من استيعاد لحظات الحبور، ووضعهن أمام يقين إحساسهن بخروجهن الرمزي من السجن عن طريق ممارسة الفن.
لا يمكن الحديث عن إنتاجات الفنان شفيق الزكاري، دون الإشارة إلى كتاباته النقدية التي تعود إلى العام 1986 مباشرة بعد عودته من فرنسا، قناعة منه بالأهمية الفكرية والتنظيرية في الفن من جهة، وبأهمية تطويع اللغة العربية لمواكبة الأدبيات المعاصرة المرتبطة بثقافة التشكيل والصورة بشكل عام من جهة أخرى. وبناء على تراكماته النقدية القيمة المنشورة في مختلف الجرائد والملاحق الثقافية والمجلات المغربية والعربية، يعتبر من صفوة نقاد الفن المغاربة المتخصصين الذين تمتلك كتاباتهم صفة المرجعية. صدر له:»قراءة في التشكيل المغربي الحديث» (ميديا غرب، 2005)، التشكيل المغربي بين الهوية والحداثة»، «سرديات تشكيلية».

(*)تشكيلي
وناقد فني

 


الكاتب : مصطفى الإدريسي / عبد الحميد جماهري/ أحمد لطف الله * / بنيونس عميروش (*)

  

بتاريخ : 10/12/2021