المشهد الصوفي 26 : المدينة الإسماعيلية: في عهد شاعرها الكبير الشيخ عبد القادر العلمي

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.

 

فقد عرفت المدينة الإسماعيلية مجموعة من العلماء، والفقهاء، والأدباء، والفنانين، ومجموعة أخرى من المصلحين، وأهل العقد والرأي ؛ ومع مرور عقود تاريخية من التأسيس وإلى اليوم – تلقت أجيالها ألوانا شتى من التراث المغربي الأصيل، بحكم موقعها الذي جعل الناس يقبلون عليها من كل حدب وصوب، وطائفة من الرحل الذين كانوا يعبرون منطقة المغرب العربي كدعاة للطائفة العيساوية التي نبتت جذورها فوق تربة مكناس الطيبة، وهؤلاء الدعاة قد جابوا البلاد شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وعرفوا السكان بأنشطتهم الدينية، والاجتماعية إلى حين؛ وفي تاريخ الأتحاف لابن زيدان المكناسي الكثير مما يشفي الغليل، عن متابعة وتوثيق ما يمت إلى هذه المدينة بصلة في مختلف وجوهها التاريخية والحضارية، ويوم كانت عاصمة للمولى اسماعيل – طيب لله ثراه-؛ وعندما نستقرئ مجموعة مختارة من النصوص التراثية من خلال ديوان العلمي، ولاسيما ما كان يتعلق بالجانب الصوفي، والاجتماعي منه، فإننا نتتبع أثر حضارة هذه المدينة في روائع ما أبدعه العلمي من إبداعات: إنه إنتاج أدبي، فني ضخم، فيه سمو كبير، وعليه سمة بارزة من سمات عبقرية الخالدين، تتضوع أريجا وعطرا في كل أفق من آفاق هاته العبقرية، وهذا الخلود الأصيل الذي يعكس وجدان العلمي الذي كانت شاعريته تتدفق – من حين لحين – فيغدو الأثر الأدبي عنده لغزا من الألغاز، يستعصي حلها على الدارس والباحث، كما تصبح رمزا من الرموز، تدور حوله الصورة الشعرية بين ظاهر ألفاظها، وبين ما تؤديه هذه الألفاظ من المعاني والدلالات المرادية ؛ فالصورة الأدبية عند العلمي تقترب من القارئ بوجهين: تحمل في الوجه الأول ذلكم الانفعال النفسي الحاد، حين يغضب الشاعر ويصارعها ويتمزق داخليا لحدته وعنفه ؛ وفي الوجه الثاني تحكي للقارئ عن خواطر العلمي إذا حز به أمر سيء تسمو نفسه وتتحاشى عن فعله، أو إذا داهمه هاجس من الهواجس، حين يخلو إلى هذه النفس المعذبة وحينها يعتزل الناس إلى حين !! وقد تطول هذه الحالة أو تقصر، حتى قال بعضهم : إنه لا يجود بالأروع من شعره وحكمه إلا حين تعتريه هذه الحالة النفسية الحادة فهي نوع من المخاض لدى ولادة الشعر؛ وبعدها يكون هادئ المزاج، حسن المعشر، يقربك إليه ببشاشة وجهه، وسعة صدره، وجود كرمه وسخائه؛ وهذه الأحوال هي التي تجعل الناقد والمتتبع لشعره، يومن بأن القصيدة الزجلية عند العلمي، جاءت متسقة النقلة في الظاهر – كما يقال – مضطربة الأحوال والدلالات في الباطن، وهذا خلاف ما يتصوره القارئ العادي الذي يكتفي بنموذج واحد، أو بنموذجين للشاعر في بعض أغراضه الشعرية ، جريا على العادة المألوفة عند شعراء الملحون؛ ولا بأس – في هذا الصدد – أن نورد هذه الصورة الشعرية التي يبتعد فيها الشرح اللفظي المعتاد، عن الشرح المُراد للمعاني المتجلية من خلال الكلمات التي لا توفي بحقها بالقدر المطلوب؛ نعم، فأبياتها أقرب عند القارئ إلى الاتصال منها، إلى الانفصال، أي اتصال المضمون بالظاهر، بما يتبادر إلى الذهن عند القارئ العادي ؛ وهذا مما يجعل الصورة الشعرية – في إطارها العام – تتخذ طابعا صوفيا يفرض نفسه على القارئ ويقترب منه من خلال السياق العام !! .
إذن، لنتأمل هذه الصورة الشعرية من ديوان العلمي – رضي لله عنه-، ولنأخذها – مثلا – لما سقناه من افتراضات، وهي كالتالي:
أنَا يــا سيــدي ** عَشقتْ الجمالْ طَبْعْ غْريزْ افمن هُو الْبيبْ
دِيمَا مْعَاه ْنَعتْ حْبيبُــو ** كَالمَـــسكْ الـــــــــذّْكي في جـِـيـبــوُ
متعاهَــدْ النّْسِيمْ بْطِيبُو ** وَالــوَجْــدْ ريـــــــــحْ غـَـلاَّبْ
مَتـْرُوكْ فِيهْ لـَعـْـــتـَابْ ** مُـــــولْ الشـْــــــــرابْ
يُعـْذارْ في حَالْ الـْـغـِبا دَايَمْ هـْـوَاهْ ** يْـمّـيــــزْ دَاهْ امنْ دْوَاهْ
****
نعم، ففي هذه الصورة الشعرية، أثناء قراءتها، قد نحس بفرط الحساسية وغلو ما يبدو من خلال السطور من استعارات، ورموز ذات دلالات صوفية استخذمها الشاعر ليلقي في روعنا ما يصبو إليه من معان، وأفكار، ربما كانت بعيدة الفهم والإدراك عند القارئ العادي، فالأدوات البلاغية التي يحسن سمكها، والتعامل معها، قد تتحول في الباطن عند الشاعر إلى دقائق التعبير التمثيلي، أو التخييلي الذي لا يجود بالمعطى المقصود من الصورة الشعرية إلا بعد عسر عسير؛ إذن، قد نجد العلمي يتغزل، ولكن ليس على نسق شعراء الملحون في عشاقياتهم، ويمدح، ولكن على غير معجم الشعراء ومعارفهم إزاء المَمدوح، وهذا يجعل الدارس، والباحث في ديوان العلمي – من أول وهلة – يسترعي انتباهه لما يكمن وراء السطور عنده، لأن هذه القراءة المتأنية تذكي عناصر الإلمام بسيرته وأخباره، وتقرب الصورة الأدبية في جانبيها : التجريدي والحِسِّي، وفي مظاهر الألفاظ المستخدمة، وذلك على مستوى اللفظ في ظاهره، أو على مستوى المراد، حين ركب الشاعر على متن المجاز، أو الاستعارة من ضروب البيان في الزجل الشعبي المغربي الملحون ؛ ومن لا يسبر غور هذه الصور الشعرية ولا يدرك خفايا باطنها ، فإنه – عند نقاد شعر العلمي – يكون من دعاة محو أسرار البديع فيها محوا تاما، جاهلا لحقائقها الفنية، والأدبية الصوفية، والاجتماعية؛ وفي آفاق ميراث الذاكرة الصوفية مما تحكيه أجيال مدينة مكناس – على تعاقبها – تبدو للدارس والباحث مجموعة من الأخبار، والمرويات، وكلها تتعلق بحياة سيدي قدور العلمي – رحمه لله – وعن طريق هذه الأخبار، وهذه المرويات – من جيل لجيل – يرصد الباحث لهذه الشخصية الأثيرة ما خفي منها ، وما غفل عنه التاريخ المكتوب زمانا غير يسير، أو ما قد نسيه في فترات ما، أو تناساه..
نعم، ففي هذا الصدد، تذكر الحكاية الشعبية التي رواها المستعرب «بوري» الذي أعد بحثا «بيوغرافيا» عن أخبار، وأعمال العَلمي، وما وضع تحت يديه من إنتاج الشاعر مغربلا دقيقا؛ وهذه الحكاية الطريفة يرويها هذا الباحث نفسه، مفادها أن العلمي كان حاضرا في أحد الأعراس بمكناس، وقد رغب بعض المدعوين في الاستماع إلى قصيدة «طامُو أبْهيجْ الخدَّادَة»، ولكن المنشد لم يجرؤ على تلبية هذه الرغبة، لأنه كان يعلم أن صاحب القصيدة حاضر ضمن المدعوين، وأنه لا يليق إنشاد قصيدة غزلية في حضرته ؛ وعلم العلمي بالأمر، فأذن للمنشد بإنشادها، مؤكدا أنه لا يعرف (لا طامُو) ولا (فطومة)، ويذكر هذا المستعرب – مرة أخرى – أنه قد عثر في «كناش» يضم قصائد العلمي، يقول كاتبها :
«إن السلطان المولى عبد الرحمن، أراد يوما أن يعرف إن كان العَلمي – في أواخر حياته – ما زال يقرض الشعر، فبعث له وزيره سيدي محمد بن ادريس، يطلب منه بعض قصائده تبركا، وقابل الوزير أول مرة، تلميذه محمد غريط، فأكد له أن العلمي لم يعد يعني بالنظم بالمرة، وكذلك قال العلمي بنفسه للوزير، ولكي أبدي استعدادا لتلبية رغبة السلطان التي اعتبرها أمرا مولويا تجب طاعته، فطلب من تلميذه غريط أن يكتب ما يمليه عليه، وأخذ يرتجل القصيدة التي أولها : «عشقت الجمالْ طَبْعْ غْزيرْ افمَن هُو الـْبِيبْ … «.
وفي هذا السياق – أيضا – ذكر الشيخ اسماعيل الدكالي المراكشي أنه سمع أحد المتصوفة بداخل ضريح سيدي عبد العزيز التباع – رضي الله عنه – يقول جهرا أمام الناس : «سِيدي خـاذْ التـَّمْرَة وَافـْـلـَحْ» ، فقيل له من هو ؟ فقال : صاحب الأبيات التالية :
أنـَا يـَا سِيدِي بحْر الهَوَى اْرْكـُوبُو فِيهْ السَّرْ الـْعجيبْ * امعَ افـْراتـَنْ وكـْلامْ * وزلازَلْ وهُولْ ارْيَاحْ * وَاصّوا عقــُوو عـَد اصْيَاحْ * يأتِي انـْسِيمْ لـَفـْراحْ * بنـْعَايَمْ إلـَى رَاحْ * بـَابْ الصّْلاحْ * مَنْ دُونْ كـُلْ اغْريبَا * يَلقـَاهَـا مَنْ جـَاهْ * مَن اوصَلْ قـَصْدُ طـَالْ اَهـْـنــَاهْ …
لقد تمت الإشارة إلى الشيخ إسماعيل الدكالي عميد الزجل في وقته وعليه تتلمذ الشيخ الحاج محمد بن عمر الملحوني رحمه لله ، وقد كشف تلميذه المذكور عن مجموعة مؤهلات، تجليها قصائده المتنوعة، وخصوصا منها ما جاء في المجال الصوفي – رحمه لله – ؛ نعم، فهو في تصوفه وزهده – كما يقولون عن العلمي -: لم يكن من الذين تفرغوا للصلاة والعبادة بالمسجد، وتخلوا عن كل نشاط دنيوي، وإنما كان ذلكم المتصوف الذي جمع في حياته بين الدين والدنيا، فبالدين وصل إلى درجة عالية من السلوك بين معاصريه أشياخ الملحون، وبالدنيا كان على علم بما يحيط به في مجتمعه، مدركا لزاده المعرفي الذي استفاد منه الكثير، مريده محمد بن عمــر المراكشي – رحمه لله -؛
ويذكر هذا الأخير أن الشيخ اسماعيل الدكالي كانت له قصيدة في التغزل نالت إعجابا كبيرا من لدن رجال الملحون بمراكش، فاستوفت شروطا لم تسبق في غيرها؛وحين سئل عن معشوقته ، قال : هي في مكان يستحيل الوصول إليها، تقربه برؤيتها إلى من هو أبهى وأجمل منها : إنها نجمة الصبح، حقا لا يستطيع الوصول إليها، إلا الجادون، والمثابرون على رؤيتها ومن سلكوا بتهجدهم مسالك العارفين، الواصلين …
وقد تساءل الكثير ممن وقفوا على ما سقاه المستعرب بوري أو ما نسب إليه ما الغاية مما تضمنته هذه الحكاية ؟ ولعل ما هو قريب إلى الأذهان أنه يريد أن يُشكك في صحة ما وصل إلينا من تراث العلمي وخصوصا تغييب الإشارة في أواخر قصائده إلى اسمه، لا تصريحا ولا تلميحا، على خلاف ما هو مشهور في عادة شعراء الملحون منذ القرن العاشر الهجري، السادس العشر الهجري وإلى اليوم.
****
يتبع …


الكاتب : عبد الرحمان الملحوني

  

بتاريخ : 02/05/2022