المشهد الصوفي 28 : المحبة النَّبوية من خلال الإشراقات الشعرية للشيخ عبد القادر العلمي

إن القراء اليوم المولعين بـ «تراث فن الملحون» الأصيل يريدون أن يتعرفوا – بدورهم – على بعض الجوانب الخفية من حياة فرسان الزجل بالمغرب، وهي جوانب جد هامة ومفيدة، ظلت مخزونة بين ثانيا الصدور، ومحفوظة في الذاكرة الشعبية زمانا غير يسير، وعلى تعاقب الأجيال المغربية ؛ وقد رصدنا من أجل توثيقها مجموعة من اللقاءات والمهرجانات الفنية أزيد من خمسة عقود خلت.

 

يرى الشيخ سيدي عبد القادر العلمي – رحمه لله – أن فساد أخلاق الناس، وانحرافهم عن الجادة، وعن الصراط المستقيم، إنما قد حصل ذلك – مع توالي الأيام من خلو القلوب من محبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، نعم، فبالمحبة الصادقة تنتقل القلوب من الضلالة إلى الهُدى، ومن الشقاء، إلى السعادة، ومن الكفر، إلى الإيمان الخالص، ولولا المحبة لبقي الإنسان ضالا يتيه في صحراء الجهالة ، مندفعا نحو حياة يسودها الحقد والضغائن، ويقودها الظلم والجبروت، وبهذه الصفات من الأخلاق الرذيلة، يُشَوِّهُونَ معالم جمال حياتهم ، فيقطعون أنفها المعنوي، ويعبثون بها، حتى تغدو أمامهم ناقصة الخلق، مشوهة التصوير. وسئل يوما العلمي عن الجليس الصالح، والجليس السوء، فقال – رحمه الله : بالمحبة يتحول جليس السوء ، إلى مريد طائع، وصالح لمعاشرة الناس، وبالمحبة – أيضا – يتحول الجليس الصالح، إلى السالك الواصِل. وسئل العلمي – وهو بين مريديه وأتباعه بزاويته -: لماذا ذكرت اسمك في قصيدة الشافي؟ فقال : «مَن ادْخَـَل الـَحَرْمُو، وَاجَبْ يَعلنْ عن اسمُو»، فالحَرم النـَّبوي عند العلمي، محبَّة، وصفاء، وفي الصورة الشعرية السابقة إشارة إلى معالم هذا الحرم النبوي العظيم ؛ نعم، فهو حين يمدح الذات المحمدية الشريفة، في قصيدة الشافي بمجموعة من الصفات الأخلاقة العظيمة، فهو يدعو أتباعه أن تتمثل هذه الصفات في أخلاقهم، وسلوكهم، لينتفعوا بأسرارها؛ ومن الصفات الأخلاقية الحميدة التي دعا إليها العلمي من خلال إشاراته إليها، وهي من أخلاق الأنبياء والرسل ما يلي:
1 – خـُلق آدم – عليه السلام – :
كان خـُلقه نـُور الله وصفاته …
2- ولسانُ إسماعيل – عليه السَّلام – :
طبعه الصدق، والوفاء، والطاعة لله تعالى …
3- وبهاء يوسف الصديق – عليه السلام –
كان مجالا للامتحان، واختبار هوى النفس الجامحة …
4 – ومحبة سيدنا دنيال – عليه السلام – :
بها تسمو النفوس ، فتنقاد – عن طواعية – ذليلة لله تعالى …
5 – وزهد عيسى – عليه السلام -:
به تتخلق النفس بأخلاق الرب العظيم، وبه تنحو ناحية الخلق الكريم …
6 – وخلَّة الخليل – عليه السلام -:
خـلـة كلها وفاء، وصفاء، ووحدانية لله تعالى …
7 – وشجاعة نوح – عليه السلام -:
إنها شجاعة في الرأي، وبسطة في الجسم، وقوة في الروح والهِّمَّة …
8 – وشدَّة مُوسى الكليم – عليه السلام- :
شدة في لله، وفي اتباع أوامره، واجتناب نواهيه، وخوفه الشديد …
9 – ورضا إسرائيل – عليه السلام – :
هو رضا الرّب، وتفضل، ووفاء بوفاء …
10 – وفصاحة لوط – عليه السلام – :
فصاحة قوي بها الحق، أمام الخلق، وزهق بها الباطل …
11 – وصوت داوود – عليه السَّلام -:
صوت عذب جميل، يحرك مكامن النفوس الضالة، فيهديها إلى لحظة اليقين
12 – وعصمة يونس – عليه السلام -:
عصمة من الكـُفر، ومن التـِّيه والضَّلال…
13 – وطاعة أيُّوب – عليه السلام -:
طاعة تجعل كلَّ ابتلاء واختبار من لله، امتحانا واختبارا على تحمل مرارة الصبر …
14 – وزهد يُوسع – عليه السلام -:
زهد يسمو بالروح إلى مقام السالكين الواصلين …
15 – وعلم سيدنا شئت – عليه السلام -:
علم فتح به آفاق المعرفة، وساح به سياحة في عالم الملكوت، فوصل بعلمه إلى معرفة خالقه، وقهر نفسه، وكبح جماحها، فأرشدها إلى الحق مع الخلق ؛ نعم، فإلى جلائل هذه الصفات، يشير العلمي بإشاراته المعهودة، إنها إشارة الشَّرارة التي توقد نار محبته، فيستمر في هيامه باستمرار وقودها، ولا تتاح أمثال هاته الإشراقات الربانية في ظاهرها، وباطنها -، إلا لذي معرفة واسعة، وصاحب مواهب وملكات.
فلقد شاع من قديم ، قول المشايخ في مهمة الشيخ المقتدر على تربية المريدين والأتباع، فجرت على ألسنتهم القولة الشهيرة:
«الشيخ المربي زنبيل أو قنديل، أو منديل» ؛ فإذا لم يتطهر منه المريد المُربَّى في كنفه وحماه، فهو «شيخ هْبل» ، وهم يريدون أن المريد له أسراره وحاجاته مع شيخه، وهذا الشيخ ينبغي أن يحافظ على هذه الأسرار، ويعين على هذه الحاجات، كما يحافظ الزنبيل على ما بداخله، وقد يضطرب هذا المريد اضطرابا نفسيا، وأخلاقيا، فيخرجه اضطرابه عن الجادة والصواب، ففي مثل هذه الحالة يجب أن يكون الشيخ فيها إلى جانب مريده، فيقوم مقام القنديل، الذي يضيء الطريق، ويهدي إلى التي هي أقوم، بل يزيل من هذه الطريق الحوائل، والموانع حتى يصل مريده إلى المبتغى المنشود ؛ ومرة يعاني الشيخ المربي الشدائد من أجل ترويض نفوس الأتباع إلى الخير، والفضيلة ، فيثورون في وجهه مرة ، ويبتسمون مرات، ومرات، وهو في مثل هذه الحالة أشبه بالمنديل للتجفيف والمسح عليه، ويريدون به سماحة الشيخ، وعفوه وسعة صدره، والتعالي عن مقابلة السئة بالسيئة ؛ نعم، فإذا لم يتوفق الشيخ في تربيته ويغلبه هواه في أمره، فهو عندهم «شيخ هْبيل»؛ فالطريقة جسر للعبور إلى مسالك الفضل، والخير، وهي مصباح منير يضيء السبيل للضالين المُستهدين.
وفي سياق المحبة النبوية وما يستمد منها المريد حكوا أن الشيخ عبد العزيز التباع أحد الرجال السبعة بمراكش ذهب عند شيخه الجزولي صحبة الشيخ الصُّغَير أحد مريدي شيخ المادحين بن سليمان الجزولي رضي الله عنه إلى مدينة أسفي فباهر الشيخ التباع ما رآه من المريدين والأتباع المتلفين حول الجزولي فتقدم نحوه وألقى عليه الأسئلة التالية:
بماذا وصلت؟ وماهي غايتُك؟ وماهي وسيلتك؟
فربَت الشيخ على كتفه وحملق في وجه فرأى نورا يسطع بين معالم محياه فعلم أن هذا الرجل سيكون له شأن عظيم مستقبلا ثم قال له: وصلت بالحب وغايتي الحب ووسيلتي الحب، فأدرك أن الرجل لم يدرك معاني الكلمة وما تهدف إليه، ثم قال مرة أخرى:
ألفه: ألفةٌ ومُؤانسةٌ مع الله، ولامه: لذَّة في حضور الذات الإلهية، وحاؤه: حِلْمٌ وتغاضي عن أخطاء الناس، وباؤه الأولى: بِرٌّ ومعروف مع عيال الله، وباؤه الثانية: براءة من الشك والشرك، فإذا تحلّت نفسُك بهذه الصفات فقد تصل إلى ما ننشد الوصول إليه، فأنت خليفتي في مراكش من أجل هذه الخلافة جاء الشيخ بن عيسى إلى مراكش ليأخذ الإذن في قراءة كتاب: « دلائل الخيرات»
يتبع …


الكاتب : عبد الرحمان الملحوني

  

بتاريخ : 06/05/2022