«المشي على الريح» لعبد الحميد البجوقي : استحضار النسيان بالتذكر

عبد الحميد البجوقي، اختار الكتابة حول الهجرة، ليعطيها بعدها الآخر، أي عندما تصير نفيا، بدافع سياسي، هناك تتشابك مع مصائر أخرى، لم تكن لها الدوافع نفسها، فتتجمع خيوط المأساة لتشيد لنفسها تاريخا خاصا، تندرج في سياقه تيمات، من قبيل العلاقة بالغير وصورته ، بماهي علاقات محكومة بالثقافة والتاريخ وحتى نفسيات المجتمعات بأفرادها الرافضين لهوية تتقاذفهم رياحها وأمواجها في الوقت نفسه.
«المشي على الريح» رواية لها أبعاد لا يمكن حصرها، بما أثارته من تيمات تستحق استحضار عوالم الثقافة وحتى الأسطورة، فقد حضر الإفريقي هذه المرة برؤيته للعالم، وليس كطقوس سحرية كما اعتبرها الغرب إبان الاستعمار والاستعباد.
الثقافي

كان في شكل شذرات، من قبيل، أن الأشجار تتشابك في السماء لكنها تتعانق تحت التراب، وهي صيغة معبرة عن التراث الإفريقي العميق رغم ما شاب تاريخه السياسي من صراعات، كما أن أم المهاجرة قبلت بأن يتزوج المسلم من مسيحية، لأن الله رب الديانات جعلها واحدة والبشر تفرقوا بها، وغيرها من الصيحات التي احتلت برمزية معبرة محكي «المشي على الريح»، بدون أن نغفل إشارات أخرى لتعامل البطل نفسه مع الخمر بحيث لا يقربه، أما النساء فلا يستطيع عنهم بعادا، وهي حكاية تستحق الانتباه لها، ينضاف إلى ذلك، ملاحظة النيجيرية للرجل المصلي والعابد لله، لكنه يساهم في المتاجرة بالنساء الهاربات من جحيم القهر والفقر.
هذه العوالم حقيقة تثير قضايا ثقافية، مما يفرض عليك أحيانا عدم التصريح بأسمائها، حتى لا تثير التفاوتات بين دول إفريقيا في ما يتعلق بوعيهم بما هو تراثي قديم في حضارتهم، وتمثلاتهم للإسلام الذي وصل
إليهم، وكيف منهم من كيفه مع حضارته ومنهم ،كدول، من زاده انغلاقا، فتعثر بتفاصيله وكثرة تعاليه به على حساب عمق ثقافته وصيرورتها التي توقفت غصبا وقهرا.

السياسي

أثارت الرواية التفاوت في قيم الحصارة حتى داخل المجتمعات الأروبيةوخصوصا إسبانيا، فكيف لعشاق الحرية أن يحن بعضهم لزمن القهر والتعصب للعرق رغم الصراعات التي عاشوها دفاعا عن الحرية والمساواة؟، بل كيف لهم التفكير في طرد المهاجر الذي طالما عبرهم قبل أن يعبروه وقاتل إلى جانب قواتهم المحررة والثائرة؟
تلك الأسئلة رغم كونها كانت على لسان البعض، فهي ليست بريئة، فالشخوص أفكار، لها حضورها في تاريخ البلد أو تاريخ المجتمع وتاريخ حتى المهاجرين الذين استقرواعلى أرضه ،عاملين كل ما بوسعهم لفهمه وخدمته أحيانا بدون التفكير في ذلك، لكن من هناك مروا وهناك كانوا. وتصل ذروة المفارقة عندما نجد إسبانيات مرحبات ومتفهمات للآخرين، بل حاضنات لهم،اعترافا بأن الحكومة هي سلطة أغنيائهم وليس فقرائهم، وهي ربما إشارة إلى أن الحرب الإسبانية ، لم ينتصر فيها إلا الأثرياء، أما المدافعون عن المساواة فقد انهزموا، لكن المفاجأة تأخذك بعنفها عندما تكتشف أن السلطة ،أي الحكومة، كانت اشتراكية ولم تكن يمينية، هنا ندرك أن عالم الرواية كانت له أوجه، بغايات مختلفة ، لا تحاكم لكنها فقط تثير.

الغير كلون

عادة يتم الاعتراف بالغير كمختلف، دينا أو لغة، لكنه في لحظات التهمة بالاغتصاب، ربط اللون بفحولة اعترفت بها المدمنة لتبتز بها الإفريقي، بل دفعته ليربط لونه بقدرة جنسية متوهمة، لكن في الأخير، ندرك أن الأمر ليس إلا وليد تمثلات عامة، في الشرق وحتى الغرب، ليبرر بها البعض تميزهم، وهي حيلة انطلت على بعض سكان المهجر، الأقل ارتباطا بماهو ثقافي ومعرفي، لكأن الرواية تنبه إلى أن الأمية، كجهل، اتسعت دائرتها لتمتد حتى للغرب نفسه رغم قدرة مواطنيه على الكتابة. أعتقد أنها فكرة تستحق أن تثار، لكن في الأخير تتراجع المدعية تحت تأثير الدفاع وربما حتى التعاطف مع إفريقي مهاجر ورطه تجار المخدرات في ما لا علم له به، ولم تكن له القدرة على الرفض حتى لو علم، فهو عاشق يبحث عن عشيقته التي وعدها باللقاء ، فيكتفي في الأخير بالعودة إلى شجرة الأموات ،المحكومة باعتقاد أن الأرواح إليها تعود بعد الموت أينما كانت.

الرواية ورهاناتها

تراهن الرواية بتداخل المحكي فيها، على إعادة التفكير في تيمة الهجرة، لربطها بالنفي واعتباره هجرة إذعان بما يخلفه من جراحات، وبما يكشفه في الكائن من ضعف تجاه عالم دفع إليه دفعا، ليجد نفسه عالقا فيه، بل صنع به هوية أخرى،لا يعرف أيهرب منها أم يعود إليها، فإن هاجر وجد نفسه يبتعد عن عالم كاد يفقد فيه تصالحه مع ذاته،، وإن عاد شعر بأن هناك ما يذكره بما كانه، مناضل يدافع عن المهاجرين لتنصفهم دول المهجر وتعترف لهم بحقهم في الإقامة والحب والعيش الكريم.
إنها رواية تشد الذات المهاجرة لما تريد أن تكونه، وتحاول استحضار النسيان بالتذكر.

كاتب روائي


الكاتب : حميد المصباحي

  

بتاريخ : 06/01/2021