المعلومة بين الانتقاء والتدبير والعرض : الإخبار في الفيلم السينمائي

غالبا ما نراقب الشريط السينمائي من زواياه التقنية و محتوياته الفكرية بحثا عن ما يؤمن لنا إدراك الحقيقة المنفلتة بين سطوره، و نحاول قدر الإمكان فك رموز العلاقات الضمنية بين الدال و المدلول لجزيئاته و مركباته في سياق فهم تشابك مجمل علاقاته و تداخل رموزه لعلنا نقبض على جزء من ماهيته، حتى نستطيع إنجاز خطاب رديف مشكك في يقينيته، لكن قلما ننتبه إلى طريقة تصريف أساليبه السمعية و البصرية للإخبار بما يريد لنا سماعه أو رؤيته، وهي عملية لا تقل أهمية عن الأسلوب الجمالي للفيلم، نتحدث هنا عن طريق تصريف و توزيع المعلومات على مسار الشريط بين الشخصيات و الجمهور.

 

نعلم أن ركائز المعلومات العامة حسب الوحدات الكبرى للشريط السينمائي محددة بفعل ما يشبه القواعد العامة، سواء تعلق الأمر بالزمان أو المكان أو الشخصيات، ونعلم أن الشريط يحمل معلوماته على شريطي الصوت و الصورة بكل التنويعات و التعددية فيهما، محاولا أن لا يترك مجالا للارتباك بالحشو الزائد في اللغات المتعددة للصوت و الصورة، لكن المنفلت في كل هذا هو فهم أهمية المعلومة لذاتها و أسلوب تصريفها، ومدى اندماجها في سياق سردي متين و متراص لإيصال المعاني عبر كل ما من شانه ان يؤدي وظيفته من مكونات المسموع ( الحوار – الموسيقى – الأصوات الخارجية -….)، و ما توظفه الصورة من علامات و رموز إيحائية ( الأكسسوارات – الملابس – الألوان …..)، هذه المكونات التي تخلق في تشابكاتها المركبة، معلومات محددة سواء تطابقت على نفس الحامل ( اللقطة) للتأكيد على معلومة ما، أو توازت للإحالة على نفس المعلومة.
من الصعب تحديد مفهوم المعلومة في السينما قياسا أو اعتمادا على تعدد معانيها في القواميس، لأن مجال سياق توظيفها هو ما يشرعن معناها، و من ثمة و بما أن السينما هي فرعا من فروع التواصل فإنني أميل و الحالة هذه بتوصيفها بالمعلومة الإنجازية، المرادفة للإخبار و التحقيق، وكل ما يؤدي إلى كشف الحقائق و توضيح الأمور، أي المعلومة التي يحصل الإنسان (المتلقي في هذه الحالة ) من خلالها على مفاهيم و حقائق تساعده على الفهم و إتخاد القرار.
لقد أكدت السينما على دورها التواصلي الناجع، بل و استطاعت أن تحتوي العديد من وسائل التواصل الأخرى من خلال الإمكانيات الهائلة و الغير المسبوقة في تفاعلها مع الإخبار و طريقة تقديم المعلومات، لدرجة اعتبر البعض الفيلم هو ( فن تقديم و توزيع المعلومات)، وهذا ما سوف نحاول الإحاطة ببعض من جوانبه، لكن ولضرورة منهجية لابد من توضيح مستويين من التواصل الإخباري في كل عمل سردي بين السارد و المتلقي حسب طبيعة النص المعالج:
المستوى الأول يهم علاقة المعرفة المشتركة بالنص(كل المعلومات) حيث ( الحاكي يعلم و المتلقي يعلم) ، ونحدد هنا بالضبط الأفلام المقتبسة عن الأعمال الأدبية و الأفلام التي تعتمد الأحداث التاريخية وعاءا لها، أو حتى الأفلام التي تنهل من مواضيع و قضايا اجتماعية او سياسية أحداثها مشاعة و معروفة بين الطرفين، إن الأفلام الروائية التي تستنند على هذه النصوص المرجعية تضع نفسها دائما أمام المقاربة مع الأصل من زاويا التحريف و التزييف، الإضافة أو النقصان حسب زوايا المعالجة من خلال حجم المعلومات وطبيعتها التي يعرضها السارد، أما المستوى الثاني و هو الذي يعنينا هنا هي تلك الأفلام حيث (الحاكي يعلم / المتلقي لا يعلم) اعتمادا على سيناريو أصيل حيث المتلقي ينطلق من خلفية صفر في معرفته بالموضوع ، ولا يملك للمعرفة سوى ما يريد السارد إخباره به أو حجبه عنه، مثله مثل شخصيات الشريط التي لا تعرف عن مصائرها ومآلاتها سوى مع تطور الأحداث، نعنى ذلك المستوى الإخباري الذي يمد المتلقي بالمعلومات التي تساعده على تتبع السرد، فكل سرد سينمائي كما يرى الكثيرون هو في نفس الوقت فن توصيل المعلومات للمتفرج على مستوى الفعل و الشخصيات في فضاء زمكاني محدد، وهي المعلومات التي تخلق لها في السينما عدة قنوات سمعية/بصرية من صميم اللغة السينمائية، وهذا ما يجعل من السينما فنا معقدا من حيث تصريف المعلومات و تدبير وسائل اللغة السينمائية المناسبة لإعطائها .
إن كل مشهد سينمائي هو أرضية لتقديم معلومة واحدة على الأقل أو عدة معلومات، بل إن المشهد لا يكون مثيرا إلا بحجم المعلومات التي يتضمنها الحدث من أجل و ظيفة محدد على منحنى السرد، ذات الوظيفة التي يرى» بيير جين» أنها ترمي إلى تحقيق إحدى الهدفين: من جهة هدف إخباري بالمعنى الضيق أي السماح للمتلقي بالانخراط في السرد من خلال إعطائه المعلومات التي تساعده على فهم ما يجري ومن جهة أخرى من أجل التحفيز و إثارة الانتباه، يقول في هذا الباب:
( يبدو واضحا أن إعطاء المعلومات مرتبط بالوظيفة السردية في الوقت الذي ينتمي فيه الفعل إلى مجال التحفيز)، معتبرا أن قضية تدبير و إعطاء المعلومات تتم من خلال ثلاثة أشكال من التبئير:
1 – تبئير داخلي يتم فيه إعطاء المعلومات عن طريق الاستنتاج تبعا لما هو مبرمج في لاوعي المتلقي من قبيل ( نظرة- حركة…)
2 – تبئير منعدم (صفر) يتم فيه إعطاء المعلومات بواسطة الراوي حيث المتلقي يعرف المعلومات دون لبس
3- تبئير خارجي حيث الحدث يعرف خارجيا من خلال اعتماد المظهر كمصدر للمعلومات لاستنتاج أفكار الشخصيات و التعرف عليها.
إن ما يصطلح عليه التبئير ليس سوى تلك العمليات التقنية والفنية لتوزيع المعلومات بين الشخصيات و الجمهور، أي مادا على الشخصيات أن تعرف عن بعضها البعض، ومادا على المتلقي أن يعرف عن هذه الشخصيات و في أي وقت من الزمن السردي، وذلك خارج كل سبب منطقي، بل استجابة للرغبة العاطفية للمتلقي الذي يكون أقل وعيا بحاجته الإخبارية من رغباته في التأثير و الإيهام، لذلك يرى البعض أنه إدا كان السارد مجبرا على إعطاء معلومة ما، فيجب إعطاءها بشكل لا يشعر معه المتلقي أنها هنا لأن السارد يحتاج إلى ذلك، لأن المتلقي لا تعنيه الحقيقة بقدر ما يميل إلى الاقتناع بأن كل ما يجري وما يحدث لا يمكن أن يجري بالضرورة إلا كما هو عليه و كما هو معروض، و الجواب عن السؤال لمادا يقع هذا في لحظة زمانية بالضبط، لا يعنى المتلقي المبرمج مسبقا باستراتيجية تنظيم المعلومات و التماهي سيكولوجيا مع معطياتها، بقدر ما يهم السارد الذي يرى أن ما يقع و الإخبار عنه بهذه الطريقة أو تلك هو جزء من التسلسل المنطقي للسرد، وبالتالي فإن السارد السينمائي هو الذي يمتلك أو يجب أن يمتلك كل المعلومات، أي الوحيد الذي يحدد مادا على الشخصيات معرفته، وماذا على المتلقي إدراكه و الإخبار عنه بواسطة ما يصطلح عليه « ميشيل شيون» التقسيم اللامتكافئ للمعلومات بين الشخصيات الحاكي و الجمهور، وهو نفسه ما يأخذ مفهوم توزيع المعرفة عند « فال»، وبما أن الإخبار و تقديم المعلومة و إظهارها في السينما يمر عبر ميكانيك تداخل أوجدلية المرئي و المسموع سواء تطابقت العلاقة بينهما ( ما يسمع يوافق ما يرى) أو تنافرت ( ما يعبر عنه لا يتطابق مع ما يشاهد)، فإن السارد السينمائي هو الوحيد الذي يجب أن يحدد ما يجب أن يسمع بدلالة ما يجب أن يرى، هذا و بالرغم من أن كثير من المعلومات يستنبطها المتلقي بشكل ضمني، هذه الضمنية التي يلتجأ لها السرد السينمائي في غالب الأحيان من أجل إثارة المتلقي إلا أن ذلك لا يعني العرض العشوائي للمعلومات ، فإظهارها او إخفاءها بل و كثافتها وطريقة توزيعها هو جزء من عملية هندسية دقيقة ومعقدة وذلك لعدة أسباب:
1 – إن كل معلومة ناقصة أو غير واضحة معطاة قبل أوانها أو بعده تخلق سلسلة من العواقب التي تدخل السرد عموما في مرحلة فراغ.
2 – إن كل معلومة بمجرد عرضها تصبح أساسية لدى المتلقي، وتخلق بعض علامات الاستفهام حول جدوى كل جزيئة من معطيات الصورة التي تحمل تلك المعلومة، خصوصا إدا كانت غير مفضوحة ومبهمة من بعض جوانب الإخبار فيها حتى تدفع المتلقي إلى المساهمة في التنبؤ ، وتبقى هذه المعلومة ثابتة حتى تغيرها معلومة أخرى، لقد اعتبر صلاح أبو سيف استمرارية المعلومات حول الحدث مبدأ هاما مادام لم تخضع لمعلومة جديدة تدعمها أو تعوضها بشكل مخالف.
3- تكرار المعلومات الهامة كي يحتفظ بها المتلقي، مادام الكثير من هذه المعلومات ينمحي و ينصهر بسهولة مع تتابع الصور، لكن مع تغيير طريقة عرضها، اي التعبير عن نفس المعلومة بوسائل مختلفة، حتى تمتلك تأثيرا جماليا آخر في التعبير.ويجعلها تحتل المستوى الأول في السرد وهو ما أومأ إليه «بييرجين» بالقول (نلاحظ في السينما أنه ضروري ليس فقط تحديد المعلومات، ولكن أيضا انتقاء الأهم فيها من أجل تكرارها حتى يحتفظ بها المتفرج).
تطرح هذه الأسباب مجتمعة معضلة مركبة ما بين عمليتي الانتقاء وطريقة التبليغ لتقديم المعلومات و الإخبار في الشريط السينمائي، خصوصا و أن كثيرا من المعلومات التي تظهر و بشكل مطلق أنها أساسية لأنها تحدد عنصرا من عناصر القصة أو الشخصية ما هي في الحقيقة إلا معلومات ضائعة، من ثمة يمكن فهم لمادا يعتبر البعض أنه كلما كان الشرح أقل كل ما كان ذلك مفيدا للسرد،وهو ما عبر عنه «ميشل شيون» بالقول ( من وجهة نظر السرد السينمائي يمكن حجب زماني للكثير من المعلومات، ليس الهامة منها في القصة فقط، بل حتى بعض جزئياتها من أجل إعطاء بعدا دراميا للقصة).
إن التركيب السردي في السينما – حتى وإن اعتبرنا أنه لا وجود لقواعد لفن التركيب – يرتكز على استراتيجية كشف المعلومات بصريا أو سمعيا، وترتيب العلاقات الظاهرية منها و الباطنية بين ما يرى و ما يسمع لتقديمها عبر قنوات متعددة، فالفيلم السينمائي ( الروائي على الأخص) يختزل الزمن الحقيقي للقصة بالضغط عليه و القفز عن العديد من أحداثها و أزمنتها، أي أن الفيلم يحكي جوهر القصة بعرض أجزاء منها، وذلك بانتقاء بعض الحقائق و الحكي عنها ، وإلغاء أي عنصر منها لا يبدو ضروريا من وجهة نظر السارد،بل وترك بعضها مفهوما بلا عرض، من خلال انتقاء لحجم وكثافة المعلومات وطريقة توزيعها بما يخدم مطالب السرد و من زاوية وجهة نظر السارد، إدن فالعملية لا تخضع لقوانين ولا لقواعد درامية، بقدر ماهي اختيارات ذاتية للسارد السينمائي الذي يمتلك كل صلاحيات الإظهار و الإخفاء، وصلاحية توزيع المعلومات باستعمال وتوظيف مفردات اللغة السينمائية والتنسيق بين مكوناتها في ظل الشعار الثابت ( لا يجب أن نسمع ما يرى، ولا نرى ما يسمع) من خلال طريقتين مركزيتين: كان الإزدواج باستعمال وسائل مختلفة للتعبير عن نفس الشئ قصد زيادة في التوضيح من أجل التذكير بمعلومات سابق، أو كان التنسيق بتناقض المعلومات للتمويه بما يخدم التحفيز ( المتلقي) خدمة لفكرة درامية وهدف محدد من مثل (إمراة بملابس رثة تسوق سيارة فخمة).
إن ما يصطلح عليه التوزيع اللامتكافئ للمعلومات بين الشخصيات الفيلمية من جهة، وبين الشخصيات و المتلقي من جهة أخرى حسب ما تعلمه الشخصيات عن بعضها البعض، وما يعرفه المتلقي عن هذه الشخصيات، غالبا ما يورط المتلقي في المساهمة الوجدانية في السرد بمحاولة ربط المعلومات بعضها ببعض و فتح باب التأويلات، يبدو هذا التوزيع ذو أهمية بالغة أثناء اللجوء للقيم الدرامية حسب وصفات متباينة كل منها تؤدي إلى إحساس معين من قبيل
الجمهور يعلم المعلومة و الشخصيات لا تعلمها ما يعلق السؤال في ذهن المتلقي ويفسح مجالا للتشويق
الجمهور يعلم المعلومة من خلال علم الشخصيات بها ( الشخصيات لا تعلم/ الجمهور لا يعلم) ما يفيد بإثارة الشعور (الدهشة-التعجب – الفزع) وقد يؤدي إلى المفاجئة
المفارقة الدرامية حيث الشخصيات لا تعلم كل شئ عن الشخصيات الأخرى في حين ان المتلقي يعرف كل شئ عن كل الشخصيات
الانقلاب الدرامي من خلال الوصول إلى نقيض المعلومة
تضعنا هذه النماذج المختلفة لبعض وضعيات توزيع المعلومات أمام حقيقة شاخصة وهي أن السرد السينمائي ليس مجرد متتالية بنائية لأحداث ووحدات معينة، بل هو أيضا هندسة معمارية لأدوات الإخبار وطرقة تراص المعلومات في الزمن و المكان الفيلمين، لذلك كنا نتحدث عن السارد السينمائي بقصدية عدم توريط لا السيناريست و لا المخرج في تحمل مسؤولية توزيع و إظهار المعلومات، لأن كل منهما مسؤول في جانب من الجوانب.


الكاتب : عبد الجليل لبويري

  

بتاريخ : 25/07/2020