المعنى والمبنى و الرؤيا في ديوان «يد لا تهادن» للشاعرة المغربية أمل الأخضر

الكتابة عن الشعر أمر في غاية الصعوبة، فكلما بذل الناقد جهدا ليقبض على جوهر التجربة الشعرية انفلتت منه، وفي ملاحقته لها تضيع منه المفاتيح، ولا يبقى في يده إلا القليل ليفتح مغاليقها. وما يشفع لي شخصيا في هذه المحاولة لمقاربة تجربة الشاعرة هو مواكبتي لهذه التجربة منذ بداياتها الأولى، قراءة ومتابعة.
ويبقى الناقد قارئا مجتهدا يصيب ويخطئ، ينجح ويفشل في الكشف عن نوايا المبدع، ونواة تجربته الشعرية، ووسيطا بينه وبين المتلقي، مهمته في الشرح والتفسير والتأويل للنصوص الشعرية عملا مهما وضروريا للتجربة الشعرية. وهذا ما سأقوم به في المنجز الشعري الثاني للشاعرة أمل الأخضر الذي يحمل عنوان: «يد لا تهادن» الصادر عن مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، من الحجم المتوسط، مكون من 103 صفحات، ويتضمن 25 قصيدة. وارتأيت أن أقارب جانبا من هذه التجربة بالوقوف عند ثلاث مكونات وهي: 1. المعنى. 2. المبنى. 3. الرؤيا.

أولا: المعنى

في هذا الجانب، سنستدل على المضامين من خلال عنصرين هما: العناوين والموضوعات.
1. العناوين
من أهم وظائف العنوان إرشاد المتلقي وتقريبه من الدلالة الكلية للتجربة الشعرية التي يتضمنها النص الشعري، وقد يقوده بحذر لتعرف مكوناتها الجزئية.
إذا قمنا بجرد وقراء سريعة في عناوين الديوان تنكشف جوانب من هموم واهتمامات الشاعرة، هواجس الذات في علاقاتها البسيطة والمعقدة مع نفسها وواقعها الاجتماعي والإنساني، ومع العالم في بعده المتعددة كعلاقة الشاعرة بالطبيعة الحية والجامدة، ورؤيتها للكون.. ومن هذه العناوين: (لست معنية بشيء ـ الشاعر ـ جدار أعزل ـ جدار ـ شجر شجر ـ رأيت فيما يرى النائم ـ صديقتي الأرض ـ سأموت أخيرا…)
2. المضامين
صوتان تهيمنان على تجربة الشاعرة: صوت يشدها ويربطها بالعالم الداخلي/الذات/الأنا، وصوت يدفعها نحو العالم الخارجي/الأخر/الواقع.
هذان الصوتان يخفتان أحيانا وأخرى يضُجان، وبينهما تتموقع الشاعرة على أمل أن تحقق التوازن المفقود بينهما، وهو ما توفقت فيه غالبا.
وشكل عالمها الباطني والجواني، وواقعها والمرئي والخفي مصدر إلهام وفيض لتجربتها الشعرية. وفي ما يلي أهم الموضوعات التي استأثرت باهتمام الشاعرة، وسنلاحظ أن الذات تهيمن في بعضها، وفي البعض الآخر يهيمن العالم الخارجي، وفي أغلب الأحيان يتقاطع الذاتي والموضوعي. ومن بين هذه الموضوعات التي تكشف فيها الشاعرة عن ذاتها وعالمها ومواقفها ورؤاها نجد:
* الانخراط والالتزام بمتطلبات الحياة الاجتماعية والإنسانية رغم تظاهرها باللامسوؤلية- العجز عن فهم بعض الأحداث والوقائع.. التي تمارس على أرضية الواقع – الانشغال بهموم الذات وهواجسها- الايجابية في التفاعل مع واقعها بأبعاده المتعددة- الإحساس بعبثية الوجود وبلا جدولا الحياة – التعبير عن الضعف والعجز واليأس والشعور بالدمار والخراب – الدعوة إلى التمترس داخل الذات لحمايتها – حضور تيمة الموت، والدعوة إلى الانتقام منه بتجريب كل ألوان الحياة – التوحد مع الوجود.
ولنقرب المتلقي أكثر من هذه التجربة نتوقف عند أربعة نماذج:
النموذج 1: الاحتفاء بالشعر
في قصيدة «الشاعر» تقول:
الشاعر صاحب الكمنجات المثقلة بالمجاز وبالموسيقــــى
مر ببالي هذا الصباح، هيأت له مقامي، ورغوة اندهاشي. (الديوان. ص 7)
بعد أن حددت الشاعرة الهدف «الشاعر» لونته بالصفات التي ترتضيها جاعلة منه أكثر من شاعر. فهناك الشاعر المقيم في البلد، والشاعر الغريب عن البلد، والشاعر المستوطن لجميع البلاد، والشاعر المقيم على باب الله.. إنها لا تُعرّف الشاعر بالشعر، بل تُعرف بالحالات والوضعيات التي يعيشها، ويقيم فيها.
النموذج 2: الدعوة إلى الاحتفاء بالحياة
في قصيدة «سأموت أخيرا» دعوة صريحة ومباشرة مفعمة بالحماسة لمعانقة الحياة بجرأة، دعوة للسفر والتوغل في دهاليزها لاستكشاف وسبر أغوارها، تدعونا الشاعرة للتغني بالحياة، وترفض أن تقف موقفا سلبيا وتكتفي بالتفرج عليها، تحثنا على المجاهرة بالرأي، وتصرح بمواقفنا بدون خوف أو تردّد في جميع الأمور السياسية والاجتماعية،.. تشجعنا لنندفع في اتجاه الحياة والمغامرة والتجريب.. ويبقى الشعر في آخر المطاف هو جوهر الحياة، الملجأ والخلاص، يشحننا بالجرأة لمواجهة الموت والخراب، ويمنحها الامتداد في الزمان. تقول في آخر القصيدة:
سأموت أخيرا
لذلك لا بأس أن أقبض وبكثير من الحكمة على ناي
الشعر وأعزف فيه موال عمر طويل. (الديوان: ص 12)
النموذج الثالث: البحث عن الذات واستبطان هواجسها
في قصيدة «دونما خريطة» تسعى الشاعر للقبض على ذاتها، من خلال أسلوب التجريد، فتدخل في حوار ذاتا موظفة جملة استفهامية تتكرر على امتداد القصيدة: «أما زلت أنت أنت « أو «هل ما زلت أنت أنت».
كل المؤشرات تدل على أن السائل عارف بكل تفاصيل حياة المخاطب.. وهي حياة مليئة بالمغامرة والحضور والفعل والحلم والرومانسية… تقول في أحد المقاطع بأسلوب يذكرنا بابتهالات جبران خليل جبران:
أما زلت أنت أنت
ترددين النشيد الأوبرالي على مسمع الكـــــــــون،
حولك الجوقة، الكورال، ترانيم ملائكية، والفضاء
الواسع، سقوف القلب خفيضة يعتصرها النــــــدم. (الديوان: ص 29).
ثانيا: المبنى

المبنى هو الوعاء الذي تصب فيه التجربة الشعرية، ويتشكل وفق خصوصية التجربة. وأهم الظواهر البارزة التي شدت انتباهنا وأسهمت في بناء التجربة ومنحتها خصوصية وتميزا هي:
1. الإطار أو القالب
يلاحظ وجود شكلين اثنين صافيين ومختلطين:
1. الإطار الحر الكلاسيكي المعروف القائم على نظام السطر الشعري الذي يطول ويقصر حسب النفس الشعري وطبيعة التجربة الشعرية كما في النموذج التالي:
سأحكي عن البحر أسٍرّ له
بما لم يقله لأحد
عن المرأة العاقر تحلم
بوجه مدور لوليد ملاك.
(قصيدة: كرسي يوم الأحد. ص 33).
2. الإطار المدور الذي هو تطوير وتنمية طويلة النفس للشكل الأول كما يتمثل في النموذج التالي:
الصراصير السريعة تحت ركام الخردوات، العنــاكب
ترقص رقصة الحب البهلوانية ثم تموت القبرات تهيم
مسبحة في سماء الحقول، العصافير الهزيلة التي تنتحر
النمل الغزير جدا بالعتبات المهجورة، مملكة النحل… (قصيدة: لست سليمان. ص 19).
يوجد حوار شكلي لكنه جمالي بين الإطارين، هذا الحوار يكشف ويفصح عن جدلية مواقف الشاعرة إزاء الذات وقضايا المجتمع والوجود بصفة عامة. وهو دليل على أن الشاعرة لا تزال تبحث عن الإطار الأمثل والقالب الملائم مما يشي أن تجربتها الشعرية في نمو وتطور ورقي مطّرد.
2. التكرار
من أهم وظائف التكرار الاستعادة والتجاوز حيث ينقل الجملة الأولى جملة البداية إلى مستويات مختلفة من الدلالة.
وارتأيت أن أقف قليلا عند هذه الظاهرة اللافتة للانتباه لأنها شكلت الدعامة الرئيسة التي اتكأت عليها الشاعرة في بناء القصيدة والارتقاء بها إلى مستوى من الإبداع الممتع والأنيق، وصبغتها بالتميز والفرادة وأغنت شاعريتها.
وإذا تتبعنا مظاهر وأشكال وأساليب وأنواع التكرار، سنلاحظ أنه تمثل في جميع مستويات ومكونات اللعة، في الأفعال والجمل والحروف. ولم يخل نص من النصوص من هذه الظاهرة وإنْ بنسب متفاوتة. وليلقي المتلقي نظرة عامة عن هذه الظاهرة أكتفي باستعراض بعض الإحصائيات:
* قصيدة: «الكلام الذي لم يقل بيننا» تكررت مفردة «كلام» (41 مرة)
* قصيدة: «رأيت فيما يرى النائم» يتكرر فعل «رأى» (26 مرة).
* قصيدة: «كرسي يوم الأحد» يتكرر حرف «عن» (57 مرة)
هذه التقنية تستمد مشروعيتها الجمالية والفنية من خصوصية التجربة الشعرية التي تتفتق داخل الذات الشاعرة وتعلن عن نفسها في شكل إيقاعات وأنغام تثري موسيقية النصوص.وتعمد الشاعرة من خلال هذه التقنية إلى إعادة صوغ أشياء العالم الخارجي برؤية جديدة تمنحها إمكانيات لرؤية الموجودات من زوايا وبألوان مختلفة فتظهر الأشياء التي تعودنا استعمالها بأشكال وصور غير مألوفة، فتقلب الصورة، وتصبح هي من يستعملنا ولسنا نحن. فهي الثابت ونحن العابرون.
ليستمتع المتلقي بجمالية وجاذبية هذه الطاهرة وهي ماثلة في جسد التجربة الشعرية، نورد نموذجين مختزلين جدا:
النموذج الأول: قصيدة «الجدار»:
هذا الجدار.. له مسامات كما الطين تمتص كل شيء..
غضب العابرين، لعاب الأطفال، مخاط لاعبي الورق ونكاتهم الفاجرة، بكاء المنهارين..
هذا الجدار.. وشمه العشاق بأسماء حبيباتهم، والثوار بشعاراتهم، الصغار بخربشاتهم (الديوان. ص 62)
تستمر الشاعرة في تعداد الوظائف التي يؤديها الجدار في صور متلاحقة ومدهشة محملة بأبعاد دلالية عميقة وغريبة وفريدة، ويتحول الجدار إلى شاهد على من مروا وعبروا أو أقاموا ثم رحلوا ووسموه ببصماتهم.
النموذج الثاني: قصيدة «شجر شجر»
تفاجئك الشاعرة بشجرتها الأسطورية التي تمتد أفقيا وعموديا في كل الاتجاهات متجذرة في تربة ذاتها الإنسانية. تقول:
شجر للنعاس، شجر للغدو، شجر للرواح،
شجر لغفوة القيلولة، شجر لسهام الحب القصيرة المدرجة بدماء
العاشقين
شجر لأسماء الحبيبات القديمات، شجر لدفن الذكريات البعيدة (الديوان. ص 67).
تتشابه التقنية الموظفة في كلا القصيدتين، ومعظم قصائد الديوان.. وإن كان العنصران اللذان شكلا موضوع التجربتين الشعريتين مختلفين في المظهر والجوهر والطبيعة والوظيفة، فالجدار قد يكون اصطناعيا أو طبيعيا، لكنه في كلا الحالتين فهو جامد وميت، في حين أن الشجرة عنصر طبيعي وحي.
2. التداعي الحر أو تداخل التشكيلي والشعري
التداعي هو شكل من اشكال حركة التحول فتتشكل لوحة متعددة الأطراف. وهو أيضا نسق إيقاعي يتحلق حول جملة واحدة فتتفجر تداعياتها، تتجمع في كلمة أو جملة وتتبعثر في اتجاهات متعددة، ولاحظنا أن التداعيات في الديوان تمظهرت في الأفعال والحروف والجمل.
وبالعودة إلى النماذج التي سقناها، سنكتشف هذه التقنية التي تتقاطع مع الفن التشكيلي وهو التلوين، حيث تعمد إلى العنصر ـ موضوع التجربة ـ فتصبغ عليه صفات كثيرة ومتنوعة، فيظهر بأحجام وأبعاد متفاوتة. فيغني نظرنا وخيالنا ويشبع عواطفنا..
3. التوازي
التوازي ظاهرة إيقاعية محضة، وهو بنوعيه، اللفظي والتركيبي يسهم في إغناء موسيقية القصيدة فترتقي إيقاعيا ونغميا وجماليا.
ومن نماذج هذه الظاهرة قصيدة: «كرسي يوم الأحد» تقول الشاعرة:
وعن مملكة الأرواح سأكتب
الأرواح الأثيرة، الأرواح الرشيقة، الأرواح الغليظة
الأرواح الشفافة، الأرواح الحانقة، الأرواح القانعة،
الأرواح المتعبة، والأرواح الجذلى، والأرواح القريبة (الديوان. ص 35)
نجحت الشاعرة في استثمار الطاقة الإيحائية للتكرار والتداعي الحر، أو التلوين، والتوازي والقوافي الداخلية والخارجية لتبدع نصوصا بإيقاعات متناغمة ساهمت في غنى وجمالية الجانب الشكلي كأحد أهم مكونات التجربة الشعرية.
4. الصورة الشعرية
تتميز الصور الشعرية في الديوان بالسلاسة والعفوية والتلقائية، لا يظهر عليها تصنع أو تكلف، إضافة إلى طاقاتها الإيحائية التي تجعلها قادرة على تبليغ المعنى بجزئياته وظلاله بفاعلية وجمالية وبالتالي إحداث الأثر المبتغى لدى المتلقي.
اعتمدت الشاعرة في بناء صورها على الاستعارة والمجاز والتشبيه والكناية.. وكنماذج ارتأينا ـ كنموذج ـ أن نمثل بالصور الواردة في قصيدة «كما في الخشبة» مثل: (أتصيد أحلاما دائخة ـ تشتعل أصابع اللغة ـ تينع دموع الحضور ـ تئن الأجساد بين أنياب الألم ـ يحترق المجاز ـ ذهول راحة اليد..(الديوان. ص 15).
والصور الشعرية في الديوان سواء كانت مركبة أو مفردة، جزئية أو كلية، متداولة أو أصيلة تتابع لتخلق مساحات وفضاءات متعددة داخل القصيدة تغنيها بصريا، ودلاليا.

ثالثا: الرؤيا

يزخر الديوان بالغنائية والرومانسية والتأملات الوجودية والمواقف الإنسانية، والأحاسيس الوجدانية، ومن خلال هذا التنوع انبثقت رؤى الشاعرة الحالمة والواقعية وتراوحت بين التفاؤل والتشاؤم بحسب مقتضيات اللحظة الوجودية التي عاشتها، وما يتولد عنها من هواجس ورغبات وطموحات وآمال..
1. الرؤيا التشاؤمية: عندما تجد نفسها محاصرة بالدمار والخراب، تتحول الحياة إلى كابوس، ونفق بلا مخرج، أو ليل بلا فجر فلا تملك الشاعرة إلا الاستسلام للغياب والاندثار.. تقول في قصيدة «صوت قديم»:
بعد أن استأنست بكل الأصوات، أصوات الأغاني، والمهللين والدراويش
تهب ريح فاجرة
يجفل الصوت الحبيب
يتعثر بقيامة الزوابع
يضمحلّ.. يصغر.. ثم يزول. (الديوان. ص 41)
هكذا ينتهي كل شيء ويبقى الفراغ سيد المكان والزمان، إنها رؤيا جدباء فارغة وميتة.
2. الرؤيا التفاؤلية: هي نظرة الشاعرة الحبلى بالأمل والحياة، تستشرف غدا حافلا بالعطاء والتجدد. تقول في قصيدة «جدار» معبرة عن انبثاق الحياة من الموت، وتمددها أفقيا وعموديا كخروج حواء من ضلع آدم:
هذا الجدار.. نزت جروح
فنبتت من شق ضلعه الأيسر لبلابة خضراء
كلما غرفت من أسراره
وغرقت في رغوة صمته
تنخر جسده الصلد
وتستطيل.. تستطيل..
تلك اللبلاب الرشيقة الخضراء. (الديوان. ص 64)
تفصح النصوص عن شاعريتها من خلال كل مركب من عناصر متعددة حاولنا أن نشير إلى بعضها لكي نلقي الضوء على تجربة شاعرة رهنت نفسها للشعر وراهنت عليه ليلون حياتها ويمنحها معنى ترتاح إليه، وجمالا تستمتع به. وهذا ليس بعسير على من يمتلك خيالا خلاقا، وعيا متيقظا، عاطفة متوثبة، إحساسا دافئا وذوقا راقيا، ورؤية شفافة..


الكاتب : المصطفى فرحات

  

بتاريخ : 09/09/2022