المفكر والفيلسوف محمد سبيلا .. فارس الحداثة وحارس الأنوار 07 :

الثورة البيوتكنولوجية المعاصرة وآفاقها الفلسفية
الترانس: تكنوفاشية جديدة وإعلان حرب ضد النوع الإنساني 3/1

 

رحل عنا المفكر الكبير، والمناضل الاتحادي الأصيل، محمد سبيلا . وبرحيله، يفقد النضال الديموقراطي الذي أعطاه الفقيد أزهى أيام عمره والفكر الحداثي الذي اهداه عصارة عقله وتفكيره فارسا شهما دافع باستماتة عن أفق إنساني رحب وقيم كونية في خدمة المغرب الحر ، منذ فجر الاستقلال، كما يفقد المغرب والعالم العربي أحد المفكرين الكبار ورائد من رواد الحداثة بالمغرب.
انشغل الراحل، على نحو شامل، بأسئلة الحداثة وما بعد الحداثة، و»عقلنة» الخطاب الديني، وقضايا الدولة المدنية والفرق بينها وبين الدولة الكهنوتية، وما تطرحه الحركات الإسلامية في هذا الصدد. كما كان يرى أن الانتقال الفكري والثقافي هو انتقال بطيء وعسير، أو بعبارة أخرى أن الزمن التاريخي وزمن التحول الاجتماعي يختلف عن الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن بطيء، والانتقال إلى الديمقراطية -الذي يعد رهان العالم العربي- دون الانتقال إلى ثقافة الحداثة، لأن هناك اقتباسا فقط لجزء من الحداثة، هو الحداثة السياسية.
وقد كتب محمد سبيلا عددا من الكتب والمقالات والدراسات في حقل الفلسفة والفكر، ونشرها في صحف ومجلات مغربية وعربية، منها: مجلة «أقلام» و«آفاق الوحدة» و«الفكر العربي المعاصر» و«المستقبل العربي». كما ساهم في الترجمة في التأليف المدرسي والجامعي، ومن مؤلفاته المنشورة «مخاضات الحداثة» و«في الشرط الفلسفي المعاصر» و«حوارات في الثقافة و السياسة» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«الأصولية والحداثة»، وترجم كتاب «الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» للويس ألتوسير، فضلا عن «التقنية – الحقيقة – الوجود» لمارتن هايدغر، و«التحليل النفسي» لبول لوران أسون، و«التحليل النفسي» لكاترين كليمان.
في ما يلي، نعيد نشر مجموعة من المقالات والحوارات التي أنجزها الراحل، ونشرها في مجموعة من المنصات المغربية والعربية، وأيضا بعض المقالات التي كتبت عنه وعن فكره..

 

 

لعل سر اهتمام الفلسفة (والفلاسفة المعاصرين) بمسألة التحولات العميقة التي تحدثها التكنولوجيا الحديثة، وبخاصة منها هذا التحول الجذري والنوعي المتمثل في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الكائن الحي، هو ضرورة التفكير في التحولات المشحونة بالدلالات الفلسفية والميتافيزيقية التي يتعين التفكير فيها على الحدود الفاصلة بين العلم التكنولوجي والفكر الفلسفي.

أولًا- الثورة الصناعية في العصر الحديث أو معجزات العلم الحديث

السيطرة الشاملة للعلم/ التقني على الحياة الإنسانية هي سيطرة حديثة بدأت تتضح معالمها منذ القرن 19 مع بداية الثورات الصناعية، والانتشار التدريجي والمتسارع للمنتجات التقنية عبر العالم. ورغم التباينات الواضحة بين مؤرخي العلم حول عدد الثورات التي شهدها العالم المتقدم، فإن المتعارف عليه السائد هو أن هناك على وجه العموم ثلاث ثورات علمية/ تقنية كبرى حدثت في الغرب منذ القرن السابع عشر، وانتشرت تدريجيًّا عبر العالم. وحسب التحليل الذي قدمه الباحث الأميركي جيرمي ريفكين (G.Rifkin) فإن الثورات الصناعية الكبرى المؤثرة تلازمت فيها ثلاثة عناصر أساسية: الطاقة والإنتاج والتواصل. فالثورة الصناعية هي مجموعة اكتشافات علمية تقنية تيسر شكلًا جديدًا من أشكال الطاقة التي ستكون هي المصدر المحرك الأساسي للإنتاج الاقتصادي، كما سيرتبط بها شكل جديد من أشكال التواصل. فالثورة الصناعية الأولى (نحو 1750م) تمحورت حول استخدام الفحم كطاقة أحفورية ارتبط بها اختراع الآلة البخارية التي ستصبح محرك الإنتاج الاقتصادي والتواصل بالقطار. وقد استفادت الطاقة الجديدة ونمط الإنتاج المصاحب لها من اختراع سابق هو المطبعة التي يعود اختراعها إلى القرن الخامس عشر. وشكل التواصل الذي طوره النظام التقني- الإنتاجي الجديد هو تعميم الطباعة وتعميم التعليم ونشر المعرفة، مع ما صاحب ذلك من تخطيط المدن وتعمير وتمركز وسائل الإنتاج جغرافيًّا وبشريًّا.
أما الثورة الصناعية الثانية فحدثت نحو سنة 1850م ومحورها الأساسي هو اكتشاف الكهرباء والبترول كمصادر جديدة للطاقة، تلاها اختراع المحرك القائم على الاحتراق الداخلي أو المحرك الانفجاري. وتعد الثورة الصناعية الثانية لحظة أساسية في تشكل النظام الرأسمالي الغربي الحديث وانتشاره عبر العالم. وقد رافقها ظهور عدة اختراعات تقنية شكلت ذراعها التواصلي: الهاتف، والتلغراف، والسيارة، والراديو، والتليفزيون، والطائرة كلها في وجهيها المدني والعسكري.
شهدت الثورة الصناعية الثالثة ابتداء من عام 1950م تقريبًا تحولات نوعية هائلة تميزت أولًا باستدماج واستجماع كل أدوات ونتائج المرحلتين السابقتين وثانيًا بتسارع متزايد لوتيرة تطور الاكتشافات وثالثًا بالجدة النوعية المتواترة. هناك قدر من الارتباك في تصنيف هذه الثورات بحيث يتحدث البعض عن ثورة رابعة وآخرون عن خامسة، إلا أننا سنتابع التصنيف الذي قدمه جيرمين ريفكي في كتابه «الثورة الصناعية الثالثة» الذي تبناه لوك فيرى في كتابه «la revolution transhumaniste» (Plan 2016) وإن لم يكن موافقًا على التأطير النظري والأيديولوجي (الطوباوي) الذي تبناه المؤلف.
ثانيًا- الثورات البيوتكنولوجية من رحم الثورة الثالثة

نشأت الثورة الصناعية الثالثة مع ظهور موارد جديدة للطاقة: الطاقات الحيوية الخضراء المتمثلة في الطاقة الشمسية والطاقة الهوائية والطاقة الإلكترونية، وهي طاقات تنضاف إلى طاقات منحدرة من المرحلة السالفة كالطاقة الذرية كما أنها ذات أبعاد وأذرع أخرى من بينها ارتياد مجالات الكون اللامتناهي. صاحب هذه المرحلة الثالثة ابتكار أدوات تواصل جديدة هي عصارة وخلاصة تجديدية تتمثل وتستعمل معطيات الثورات السابقة المتمثلة في الذرة والإلكترونيات والتواصل، ومن أبرزها المركب NBIC:
1 – النانوتكنولوجيا أو التكنولوجيات اللامتناهية الصغر (النانو جزء على مليار من المتر)، التي استُخدِمت في الجراحات وفي صناعة الإنسان الآلي المتناهي الصغر.
2 – البيوتكنولوجيا أو تكنولوجيات الحياة التي بلغت اليوم ذروتها مع تطور البيولوجيا التركيبية (B.Synthetique) التي دشنت مرحلة الصناعة التكنولوجية للحياة مثلما حدث في صناعة الكائنات الوحيدة الخلية من طرف البيولوجي الأميركي Creig Venter(1).
3 – الإعلاميات والمعلوميات وقاعدتها التحتية الأساسية هي الشبكة العنكبوتية Internet التي يعدها ريفكين البنية التحتية للتحولات التكنولوجية الجديدة وهي آلية متعددة الوجوه والاستعمالات:
– إنترنت التواصل والمعرفة وتخزين المعلومات الضخمة (Big Data) ومثالها غوغل وشبكات التواصل (GAFA).
– إنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد (Int 3D)
– إنترنت الطاقة المتمثلة في توفير الطاقة لمجموعات كبيرة صناعية أو سكنية أو وظيفية وتنظيمها شبكيًّا والمرتبطة بما يدعى الاقتصاد التعاوني.
4 – علوم الدماغ (S.Cognitives) وتتعلق بالذكاء الصناعي وبكيفية معالجة تخزين ونقل مليارات المعطيات والمعلومات في الزمن الواقعي. كل هذه المكونات العلمتكنولوجية تتكاثف اليوم في اتجاه ما يطلق عليه Transhumanisme أي تطوير النوع الإنساني وفق وتيرة تطوره الطبيعية بمساعدة التقنية وPosthumanisme أي مجاوزة النوع الإنساني عبر استخدام التقنية وتهجين الإنسان بها. الخلفية الفكرية المضمرة في كلا الاتجاهين هي أن تطور العلم والتكنولوجيا بوتيرة متوالية هندسية سيتجاوز التطور الطبيعي للإنسان وسيتخطاه وهو ما يعنيه مصطلح التفرد أو الفرادة Singularité المتعارف عليه في هذين الاتجاهين.
وما يمكن أن يستنتج من هذين التصورين هو أن التطوير Trans من جهة والتخطي Post من جهة أخرى كلاهما استجابة لتطور التقنية ولمتطلباتها التي بدأت تفرض نفسها كضرورة على الإنتاج بشقيه التقني والبشري. فالترانس هو لحظة أساسية ضمن تطور التقنية التي بدأت تتطور بسرعة هندسية مذهلة، بحيث لم يعد العقل البشري ولا الجسم البشري قادرًا على مواكبتها. ومن هذه الزاوية لا يجوز عدّ الترانس تعبيرًا عن إرادة الإنسان المتقدم ورغبته في تطوير العلم/ التكنولوجي، بل إن الوجه الآخر الخفي في العملية هو أن هذا التطور – الذي يبدو أحيانًا على أنه تعبير عن استقلال نسبي للتقنية وزواج بين التقنية ورأس المال- هو لحظة عضوية ضمن هذا التطور الموضوعي:
– تقوية الذكاء، الذاكرة.
– القضاء على الشيخوخة والموت والهشاشة
– تطويل العمر( إكسير الحياة).
ثالثًا- مشروع الترانس: الإنسان المستزاد
يقول راي كورتسفيل أحد أنبياء الترانس techno-prophete «نود أن نصبح أصل المستقبل، نود أن نغير الحياة، نود خلق أنواع جديدة من الكائنات، أن نساهم في بناء البشرية، أن نختار مكوناتنا الحيوية، أن ننحت أجسامنا ونفوسنا، أن نروض جيناتنا، أن نلتهم ملذات تحويل خلايانا الجينية، أن نهب خلايانا الجذعية، وأن نبصر الألوان ما تحت الحمراء، وأن نسمع الموجات الصوتية الرفيعة وأن نستشم جيناتنا، وأن نستبدل خلايانا العصبية، وأن نمارس المتعة الجنسية في الفضاء، وأن نجاذب أناسنا الآليين أطراف الحديث، وأن نمارس الاستنساخ إلى ما لا نهاية، وأن نضيف لنا حواس جديدة، وأن نعيش قرنين وأكثر، وأن نستوطن القمر، وأن نخاطب المجرات…». هذا النداء الذي لا يخلو من نفس شعري- بشائري هو إلى حد ما برنامج عمل وخطة للترانس. وكان فرنسيس بيكون سباقًا في القرن السابع عشر الميلادي إلى تسطير ما يماثل ذلك: «تطويل العمر، استعادة الشباب، تأخير الشيخوخة، الإشفاء من الأمراض المزمنة أو المستعصية، مضاعفة قوة الحياة، الرفع من القدرات الذهنية، نقل الجسم إلى جسم آخر»(2).
العناصر الأساسية لهذا البرنامج هي:

– تطويل العمر البشري.
– إقصاء الأمراض والآلام.
– إبعاد الشيخوخة.
– إبعاد الموت وتضبيب العلاقة بين الحياة والموت أو قتل الموت بتعبير L.Alexandre وكذا الشروع في صناعة الحياة.
– تقوية الذاكرة باستنبات شرائح إلكترونية.
– تقوية الحواس (السمع- البصر- الإحساس) ومضاعفة عددها.
– تقوية العقل والذكاء عن طريق الشحن أو تطوير قدرات التخزين أو تنشيط الدماغ بالتيار الكهربائي.
– تسريع وتقوية حركية الجسم.
– تطوير تجارب خلق كائنات حية وحيدة أو متعددة الخلايا. ويضيف البعض: شحن أو تقوية الإحساس بالسعادة. هذه المهام هي محاولة لتحقيق إكسير الحياة الذي حلمت به الإنسانية من أجل إطالة العمر والإشفاء من الأمراض، أو لتحقيق «ينبوع التشبب» (Fontaine de Jouvence) المؤثت للحلم البشري بالخلود، مع فارق أن الإكسير والينبوع هما مجرد أحلام وتخيلات في حين أن مشروع الترانس هو مشروع علمي تكنولوجي فعلي يحيا بدعم فكري وسياسي وبتمويلات فعلية من طرف غوغل وكثير من الشركات تحت عنوان الإنسان المعدّل (Amélioré) أو المقوّى أو المستزاد (Augmente) إما بالتحسين أو التهجين.
رابعا- مواقف الفلاسفة من الترانس
تعرض هذا المشروع لكثير من التهجمات والانتقادات بل الشتائم. فقد اتهم بأنه داروينية جديدة خطيرة وبأنه تكنوفاشية جديدة، وإعلان حرب ضد النوع الإنساني، ويوتوبيا تقنية حالمة وهذيان، ونوع جديد من السحر، وكابوس، بل ذهب البعض إلى التصريح بأنه أخطر من الانتراكس الجمرة الخبيثة ومن داعش ومن طاعون التطرف الإسلامي(3) وقد ذهب أحد الرهبان المسيحيين إلى تشبيه الترانس بأنه محاولة يائسة لجعل الإنسان إلهًا. حتى مواقف كثير من الفلاسفة اتسمت بنوع من الحذر والتحفظ وأدرجوا في خانة المحافظين البيولوجيين، وذلك منذ ظهور البوادر الأولى لمحاولة الإنتاج الصناعي للحياة(4) أو قبلها في تجارب الاستنساخ (Clonage)، أو أبناك المني، أو تطوير آليات تحسين النسل (Fugenisme) أو تركيب قلوب صناعية أو حمل الأجنة في قوارير زجاجية، أو مع اكتشاف الخرائط الجينية للكائنات الحية وضمنها الإنسان، وتقطيع الجينوم، والاستعادة الجزئية للبصر أو للسمع أو الحركة للمشلولين إلى غير ذلك من الاختراقات ومعجزات العلمتكنولوجي الحديث. فقد نصب الفلاسفة أنفسهم كمدافعين عن لُغْزِيَّة وقُدسية الحياة الإنسانية وعن النوع وعن الطبيعة والكرامة الإنسانية، وعن تميز الإنسان عن كل المخلوقات الأخرى. فقد سبق لفرنسيس فوكوياما أن عدَّ «فكرة مجاوزة الإنسانية transhumanisme هي الفكرة الأخطر في العالم»؛ لأنها فكرة تتهدد مفهوم الطبيعة الإنسانية الذي هو أمر أساسي من حيث إنه يقدم أساسًا مفهوميًّا أو تصوريًّا صلبًا لتجربتنا من حيث إننا نوع. وهذه الطبيعة هي بجانب الدين ما يحدد قيمتنا الأكثر أساسية. فتعديل المعطيات البيولوجية الأساسية لأفراد النوع معناه «نهاية الإنسان». لذلك فالترانس تشكل تهديدًا وخطرًا مهولًا ولا مرد له للنوع الإنساني من حيث هو نوع أخلاقي (فيري ص98). فالغايات الأخلاقية «ثاوية في الطبيعة»، مرسومة في كينونة الأشياء أي في النظام الطبيعي للكون. إن «نتائج الثورة البيوتكنولوجية: المعاصرة حسب فوكوياما تتهدد الإنسان المعاصر أي النوع الإنساني لأن مآلها الأقصى هو «نهاية الإنسان». يمكن عدّ آراء الفيلسوف والسوسيولوجي الألماني هابرماس أقرب إلى النزعة البيولوجية المحافظة (Bioconservatisme) فموضوعه الأساسي هو التفكير في حدود ومشروعية الانتقال من طب علاجي إلى طب استضافي. يطرح هابرماس مسألة حدود حرية الآباء مقابل حرية الأبناء. فإعطاء الحق للآباء في التصرف في حرية الطفل باختيار الكفاءات والإضافات التي يرونها مناسبة سيكون بمثابة مساس بحرية الطفل أو بعلاقته الانعكاسية تجاه ذاته. ينطلق هابرماس من فكرة عدم قابلية الطبيعة الإنسانية للمساس وهو المعنى الملموس لقدسيتها. فقد يرفض الطفل، عندما يبلغ، هذه التعديلات التي أدخلت على تركيبته الجينية ووجهته نحو رغبات واختيارات رياضية أو فنية أو فكرية أخذت تبدو له غير ملائمة. فلا حق لأحد في أن يفرض اختياراته الاجتماعية على المكونات الطبيعية لفرد آخر (فيري ص 140-117).
يرد لوك فيري على اعتراضات هابرماس قائلًا بأن هذه الاعتراضات على تعديل أو استعمال الخلايا الجينية على أساس أنه متعارض مع الأمر القطعي الكنطي بعدم جواز معاملة الآخر كوسيلة بل كغاية، قائلًا: إن الخلايا الجينية ليست آخر بل هي مجرد خلايا مجمعة غير واعية، وهو الأمر الذي يرفضه هابرماس، مستعملًا حجة الكنيسة(5) حول وجود احتمالي أو ضمني لكائن إنساني في هذه الخلايا. فهي ليست شيئًا أو مجرد خلايا مجمعة بل هي كائن إنساني مفترض (فيري 121).