«المقر الجديد لبائع الطيور» أو الاستقرارمؤقتا في القصيدة الجديدة

قراءة في المنجز الجديد للشاعر عمر العسري

 

مؤشرات تقودنا إلى المقر الجديد: الولوج إلى حداثة الشعر، وإحداث القطيعة مع ماهو تنميطي ومألوف، يتطلب مغامرة قصوى، وركوب أهوال المجهول، لقراءة صفحات البحر وقت هيجانه حتى الغرق، ليمر شريط الذكريات من الطفولة إلى المحطة العمرية التي ترسو عندها التجربة الشعرية، لأنه لا عمر لها، فهي دائما مع الطفولة لزرع الدهشة والوحشة في آن.
يحق لنا أن ندرج في هذا المقام اعترافات، نرى لزاما البوح بها مغربيا، لنعود من جديد إلى صف القارات الشعرية، بعد غياب نسجناه، وسجنا أنفسنا في خيوطه، لأننا اكتفينا بترديد القول حول الرواد، مع الاحترام لهم وللنقاد، فهم أنفسهم لا يحبذون ذلك، لأنا بفعلنا هذا، نحكم على الإبداع بالعقم.
هذه الدونية غطت على خصوصية الإبداع الشعري المغربي، وغمطته حقه في الوجود الكوني، وخلق الإضافة في دنيا الإبداع، لذلك ينبغي أن نعود بروية وصبر، لقراءة هذا المنتوج الجديد، دون فرض مقياس عمري لقراءة الأعمال، حتى نخلخل أشجار الفاكهة، ونجمع الناضج ونترك الفج، دون تعصب؛ فكل واحد مثل نهر، يغسل كل ما يمر به، للطالح أن ينبهه، وللجميل أن يشجعه.
هكذا تعود الأمور إلى مجراها، وتحقق التآلف والانسجام، دون الانزواء والاحتقار، آملا ألا تكون نفخا في بئراليأس.

لقراءة العمل الشعري الجديد لعمر العسري»المقر الجديد لبائع الطيور»، لا بد من طرح السؤال: من أين سنبدأ؟ وما هي الطريقة الملائمة ؟ وأول ما يسترعي الإنتباه، هو هذا العنوان:»المقر الجديد لبائع الطيور» فهو عنوان المجموعة، ويندرج ضمن المرتبة الخامسة من مجموع القصائد، البالغة إحدى عشرة قصيدة، إذن فهو يغطي المجموعة، ويرافقها في آن، مما يتطلب القراءة الشاملة والخصوصية، إضافة إلى تسمية كل نص، واشتماله على مقطوعات شعرية، والغاية من هذا النثار، توضيح الطريق للمتلقي، لتسهل مصاحبة الشاعر إلى أماكن الدهشة المؤطرة بالخيال، وبأريج المشابهة والمجاورة، مع تطوير اللغة الإيحائية في هذا الباب.
البدء من الوسط: وحسب تقسيم الشاعر، فهو يبدأ من رقم « 33 إلى 49”، حيث يتخلق النص من كتابة غرابية، على حائط قديم، من كتابة تراثية، بيراع من قصب:”على جدار عجوز وسم داكن غرابي خطه يراع متعجم “، وهذه البداية، مؤشر على أهمية اختيار العنوان، فهو ينتقل إلى عنوان جديد (المقر الجديد)، للتغريد، وفق طريقة جديدة.
ميزة عمر العسري، في هذا العمل أنه يضرب عصفورين بحجر، فالطائر الذي يغني للعابرين، هو طائر ألف الشاعر وألفه، وهذا هو المعتقد الراسخ في ذهن القارئ للوهلة الأولى، ولكنه الشعر الأليف للشاعر في السراء والضراء، بدليل شروق الحروف، من قديم إلى الآن، حيث مكانة  الشعر وقيمته. يقول الشاعر:

«طائر الجدار
هو الآن صديقي
أهرس الحبوب بين قبضتي
وكلما لاح الشارع فارغا
أطعمته حفنة من نسيم الحبوب «ص، 55.

هل التقيا بعد فراق طويل، حيث تجف بئر الشعر – أحيانا- ويعسر الترقب، ولكن ماء الشعر يندفع  بعد جفاف، وهذه خبرة الشعر والشعراء،»الذرق يكون أحيانا شكلا فظيعا من أشكال الحزن «59، وهذا يذكرني بالحالات النفسية، التي يكون عليها أي واحد، حسب مزاجه، فهناك من يأكل كثيرا دون شبع، وهناك من يشرب الماء، وهناك من يغرق كثيرا.
هذا النص المتعلق بالكتابة وتغييرها، مبنى ومعنى، تبعا لصيرورة وسيرورة الحداثة، يكون منبع كل النصوص التي أتت قبله وبعده.
يتخلق النص من غرافيتي على جدار أو سور، نقرأه ونمر، ولكن الشاعر يسترعي اهتمامه، ويتأمله بعمق، دون تحديد صاحب النقش أوالكتابة. يقول:

«(…)
أحد ما
حفر اسمي
على الأسوار الخلفية للمدينة
أحد ما
أراد أن يقلق
سكينة القطط المتسافدة
أن يطير أنثى الحمام
من عشها
أن يفرغ
اللقلق كي يغادر القمة المنيفة
أن يمزق
نسيج العنكبوت الحكيم»ص-ص14،13.

بالحفر يقلق القطط أثناء الجماع، والحمام، ويجعل اللقلق يغادر قمته، ويمزق نسيج العنكبوت؛ هذه الحركة لها علاقة بحفر الاسم، ومن هذه الحركة على (تمثال من فراغ) تتولد القصيدة، لكن من هذا الذي له القدرة ؟

«وحده هذا القادر
على إزعاج
سلم ريختر روحي
يظل غارقا
في قلقه الأبدي» ص، 15.

يزلزل الكيان والجوهر، لأن الشاعر
«مجرد تمثال
من فراغ
مجرد غبار
على حافة الشرفة
مجرد فتات خبز « ص، 15.

من يحرك الشاعرسوى هبوب القصيدة، هي التي تبعث الروح في الجسد، وتتساقط الأبيات (من مفكرة فصل الخريف)ص،16.
الشعر هو الروح والخبز، ومن تعالق المجاز، بشكل متناقض، يكشف الشاعر عن المستودع، الذي يلائم ذخائره، ويخلق النص، فكأني به  يقودنا إلى خلواته دون خوف، ويكشف لنا – بكل تلقائية- عن مرجعياته ثم يذهب إلى النوم، كما فعل جدنا المتنبي، ويتركنا نفكك ما آلف، وما نثر كحبات القمح:

«بكل هذا الهراء
أصنع قدري
ثم أمضي
إلى النوم «ص، 25.

وبكل تواضع يسميه هراء، لكنه الشعر العاصف، الذي يزلزل كل كيان، ليؤسس نظرات جديدة.
في قصيدة (منديل أبيض مضرج بالفراشات الميتة)، ينجرف النص نحو العبث والسريالية، حيث (الفشار الممضوغ، والحافلة في الواقع المتجهة نحو وادي «زم»، ثم الحافلة في الحلم ) والغاية من ذلك، أن الشاعر يستطيع بناء النص، من لاشيء، كالطيور التي تبني أعشاشها من القش، ويصمد في الخريف والشتاء:

«الحافلة
تلوح لي الآن من بعيد
بمنديلها الأبيض
المضرج بالفراشات الميتة «ص، 35.
هذا اللعب يستهوي عمر العسري، ويمضي به إلى اللغة ، حيث مفتتح الكلمة يكون سببا في تكوين النص، كما الأمر في(مسافة بين الطين والخزف)، كل صانع الجمال يلولب المادة، كالخزاف كلما حرق الطين، كانت الأشكال جيدة وقوية، وكلما عانى الشاعر وتألم، كانت اللغة مطواعة وسهلة التناول.

«حتى المكان
يتقصد الابتعاد عنك
لا تتفطن للجسر
ما دامت الهاوية قريبة
فبين الطين والخزف
مسافة نار «ص، 43.

في أحايين كثيرة أوقليلة، يدع المجاز يتفتق، وكأنه طفل مساكس، يغافل أمه اللغة، ويسبح في الحدائق والمغارات وخلف النجوم.
«يطأ جبال الخراب
بجراب فارغة
والغيم سقفه
والمستحيل نشيده «ص،73.

هكذا تتحقق معادلة الكتابة ،إذا تساوى الشكل مع المضمون، أوتحقق تساوي الدال مع المدلول، ليواجه الهدم والخراب، بالهدم والخراب، ليتحقق نهر النشيد، ويحقق الصوت أناه:
«أكتب
وشما بللته النار المقدسة»ص، 79.

ويتحقق انقلاب النار إلى بلل، أي النار العاطفية المكنونة داخل الصدر، كما يشير إلى ذلك غاستون باشلار، فالمقاطع التي يجعلها الشاعر مثل ضفائر، لضفيرة سابقة، تزيد المشهد غموضا محببا، بفعل توالد الصور، وكأنها لقطات سينمائية، يبوح الشاعر من خلالها بزوادته، وبأن المتلقي يختار المشهد الذي يحب، ويصل إلى وجدانه، ويتفاعل معه:

«أجمع
شتاتي
وحيدا
وحيدا ثم أغيب مثل أفعى
يافعة في الرمل «ص، 82.
تتأسس لغة الشاعر، في (المقر الجديد لبائع الطيور) وفق مبدأي: بالقوة وبالفعل، حيث المؤشر الأصغر، يتغير إلى مؤشر أكبر مثل:
«هل صرت رجلا
يكدح على الطريق
ملتهبا ..بلاراحة
يبسم لعصافير
منقرضة؟
أم غدوت نايا وحيدا «ص، 93.

وهذا التحول يهدف، إلى كشف معاناة الشاعر وراحته في الآن نفسه.
في نهاية المطاف، أي في (طارق الصواني النحاسية)، ينفرد هذا النص بشكله عن بقية النصوص، حيث الامتداد من بداية الصفحة إلى نهايتها، وكأن هذا البياض، لم يعد بمقدوره احتواء تجربة الشاعر، لذلك يدنو السرد الشعري من جو النثر تماما، ولنا أن نطرح السؤال: لماذا (منفذ الإغاثة ) في وداع النصوص أي في خاتمتها ؟ لا بد وأن الشاعر يلفت اهتمامنا إلى شيء خفي.
إن عمر العسري يصرح بمشروع الكتابة الجديدة، في آخر تلويحة وداع، طي (المقر الجديد لبائع الطيور)، و»إذن هي الحاجة الملحاحة لبداية جديدة، لفعل مغامر بعد إسقاط أقمشة الوجل من منصة الذات « ص، 119. فلننتظر.


الكاتب : محمد عرش

  

بتاريخ : 24/12/2021