«المقــــاومـــة الفلسطينية» و«ســـرديـــــات التـــأويــل»

 

1 ـ القراءات المتعددة

«محنة الحق تذهب منطق إدراكه، وتأويله يسكت الضمائر عن ملامسة آثار الحقيقة »

قد تتقاطع الآراء وتتخالف، عندما تروم الاستئثار بوجهة نظر مغايرة، ترنو أحيانا إلى فك الالتباس، وتشريح المسكوت عنه، في مضمار استعار التأويل ولي الأعناق، في خضم أحداث غزة المؤلمة والمأساوية.
وأكثر هذه الاستنتاجات الواردة بخصوص آراء النخب الثقافية المغربية والعربية، أن يرتطم مدار تصنيف الأعمال التي تقودها المقاومة الفلسطينية في غزة، بأبواق غيرية خارج سياق التداول الإعلامي الغربي على وجه الخصوص، والتي تخندق حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى، في خانة البروبجندا المسعورة، التي تقول بنظرية «الإرهاب الإسلامي» وتؤلب عليه العالم بأسره.
ولست هنا، بحاصر أو مستنفد لمنطق التدليل، على حجم التدافع المخيف والمروع، بين بني الجلدة الواحدة، أو التوجه المحدود، إذ لا يقيم المنطق في العدد فحسب، بل في القيمة الاعتبارية لهذا الاختلاف، إن كان بداهة، يصير إلى الحوار العقلاني والتنظير المنطقي، دون تعصب أو مزايدة.
وقد سبق للعديد من الأصدقاء الكتاب والمثقفين، أن أدلوا بأفكارهم في هذا السياق، عندما اشتد أوار الحديث عن القضية، في عز انبلاجها وانتشارها ما بعد السابع من أكتوبر المنصرم. وتحديدا بعد انتقال سرديات واهية متسرعة وملفقة لعديد أقلام تنهل من وعاء الفضاء الغربي، وتستثمره في نظام سيرورتها وأعمالها داخل الكيان الثقافي للبلد المضيف. ونسوق هنا، نموذج الكاتبين المغاربيين المقيمين في فرنسا الطاهر بنجلون وياسمينة خضرا، بالإضافة إلى الإعلامي المغربي ورجل الأعمال أحمد الشرعي.
بداهة، لا يمكن تقييم العلاقة التاريخية والسياسية، بين الضحية والجلاد، وجذور امتدادها وتداعياتها على الزمان والإنسان، دون استعادة الظروف والملابسات القائمة، ورصد معطياتها على ضوء الحقائق والوقائع الموثقة. وعلاقة بمثل هذه الحساسية، تفرض على القارئ وضع منظار لربط الأنساق السالفة الذكر، بالآثار المستنتجة راهنا، في أفق تحديد المسؤوليات والمخرجات الناجمة عن القراءة إياها.
ولا يختلف اثنان، عن وجود اختلال في القراءة المستنتجة وتبعاتها، وما يتصل بها من «التشكيك» و»الاستبلاد» و»محاصرة الحقائق»، الشيء الذي يجعل المتلقي فيها قابلا للرهن والمحاججة الضعيفة وتغليف الأحداث، وهو أمر تلعب فيه ماكينة الإعلام الموجه، وخلفياته الإيديولوجية والسياسية، وظائف ممسوخة ومبتورة، لا تنفع فيها الاستعارات الساكنة والبلاغات الخطابية الفارغة واللعب على الأحبال، من غير المواجهة وسد الثغرات ونسف الافتراءات وتصحيح التوجهات المغلوطة.
فمن كان يؤمن طريق «الاحتلال» ويعول على تبريراته، ويوازن بين مطالبه وآفاق انتقاله، يكون مغيبا في الوعي، ومكرسا لتبعات ذلك في «الأفق التطبيعي» و»المصلحة المجزأة» و»الالتفاف حول القضية الفلسطينية». وسيكون تأويل هذه الخوارزمية المغلفة باشتراطية الديمقراطية وتقسيماتها المتباينة، مرفوعا بدرجة التآمر والفضح وتغليب المصلحة على ما دونها من الآليات النقدية الأكثر انضباطا للمعايير والمقايسات.
وإلى هذا التوجه، صار نظر العديد من المنظرين المعتبرين، ممن تستنفرهم الحاضنة التاريخية والثقافية لتجربة السلوك الإنساني والكوني، المبني على منطق العلم والتدافع والمآلات المحسومة.
وقد جمعني ببعضهم نقاش عميق وذو دلالة نبيهة ومشرقة في مسار الجدل إياه. وأعتبر رأي المجاهد الأستاذ مولاي عبد السلام الجبلي، واحدا من هؤلاء الشرفاء، الذين يناصرون على الدوام فكرة «المقاومة» أو «المجاهدة» في أسمى تجلياتها وامتداداتها. فهو يؤسس سيرورة هذه المقاومة، مهما كانت جنسيتها ومرجعيتها وجذورها الإنسانية، على شرف وجودها ورسالتها وتعاطيها مع الأحداث، كما هو الشأن بالنسبة للمقاومة الفلسطينية في غزة. بل إن مولاي عبد السلام، يراهن على مسألة انتقال القضية الفلسطينية، من موقعها في المنظومة الدولية كواجهة ل»التخزين» و»التقسيم والتورية» ومن ثمة لـ»التركيع» و»الاقصاء المتعمد»، إلى فاعل أساس في المنظومة، وفاضح لمتاهة تعويمها وإقبارها.
وثمة رأي آخر، مساهم بشكل لافت لنفس هذا التوجه، ويتعلق الأمر بما اعتبره الكاتب والمؤرخ الأستاذ مولاي عبد الله العلوي، الذي يرى أن استنفاد أدوار المقاومة، لم يأت من فراغ، بل له أصول وامتدادات في الذاكرة العربية المعاصرة، مؤكدا على أنه «ليس حصرا اعتبار مفهومية المقاومة أو الجهاد ، نمطا للصراع الحضاري، أو الديني»، بل «يتعداه إلى طمس الهوية القومية العروبية والإسلامية للمتصلين بالمفهوم والمصلحة». وللتحقق من هذا النظر، يفسر العلوي، اقتدارية المقاومة الفلسطينية في غزة ب»العودة إلى إحياء هذه الجذوة»، انطلاقا من واقع معاندة الدول النووية لعدالة القضية الفلسطينية، ومحاولة تعويمها وإفراغها من فكرتها. ولا يرى المؤرخ العلوي أي شك أو تردد في دعم مقاومة غزة، مستنتجا أن «الحصار والقتل والإبادة» و»كل أنواع الجرائم الصهيونية» هي بداية لنهاية محتومة، حقيقة أن الفلسطينيين سينتصرون لا محالة. وصدق من قال واعتبر «أن الحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنّما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل» ،كما»أن الحق إذا استنفد ما لدى الإنسان من طاقة مختزنة، لم يجد الباطل بقية يستمد منها».

2 ـ سؤال التفكير
في زمن الحرب

( إن رجال السياسة يصنعون الزمن الجماعي على مرآة زمنهم الفردي، أما رجال الفكر فينحتون زمنهم الفردي على مقاس الزمن الجماعي ) ـ عبد السلام المسدي ـ

عن حال الكتابة عندي أتحدث. فقد أجد نفسي موغلا في العزلة، وتصيبني كآبة تجاه العالم والمحيط. لا تثيرني شهية الكتابة كما اعتدت كل صباح، أو عند ارتشاف كأس شاي، في خلوتي الخاصة.
هاته الفواجع والمآسي المتراصة، تشاغب ظلي، وتتعب أفكاري المليئة بالثقوب والمرائي الثقيلة. تسحبني مشاهد البؤس والبكاء والدم، في مقامع الزلزال الأخير في مراكش وأحوازها، والحرب على أهلنا في غزة العزة، وقبلها الزمان الكوروني المقبور.
أي كتابة تلك، ستمسح ندوب النفس والجراحات الثكلى؟ وأي أمل سيعيد جذوة الحياة، بعد زحام الألم والقسوة والحزن؟
سيسألني سائل، عن جدوى الكتابة، بعد كل هذا الجنون والفوضى، وسأقول له، إنني أجزم بكون التفكير انعكاس حقيقي لتجربة الكتابة، بينما التفسير المضطرب لعدميتها هو نتاج السقوط الحتمي والغرق في اللاجدوى، والوصول إلى النهاية ..
الأرواح المغدورة في كل الأنحاء البشرية، تسائل ضمائرنا، وتقيد الأفكار المنذورة للخيال المسجى بأوثاق الزمن. نتلهى في الوطن المنتظر، في الدروب الطويلة، على أهبة كل حين، دون أن نيأس من تقعر العمر واندلاقاته.. نستعيد في الخلفيات التاريخية وجذورها الثقافية والحضارية، أورام الشرور الإنسانية وأحقادها، ومثبطاتها والصدوع المترامية عبر سيرورات الحروب الطاحنة والأطماع المستعصية وجنون الاستبداد والسيطرة، فلا يعكس استحضارها سوى التأبيد المروع الناقم على السلام الروحي والتواصل الإنساني والمثاقفاتي، غير الانغماس الطوعي والساكت في خرسانة النزيف الداخلي لأمشاجنا وندوبنا، في مسلكيتها وطريقها الغامضة والملتبسة؟
إن عواصف التغيير التي نشبت أظافرها فينا، وما عادت تترك لنا فرصة للتفكير والتروي وشيئا من التأمل، أناخت اللثام عن قهريتنا ومرضيتنا في مداواة يقيننا المعلول، ولاهويتنا المنخرمة، وتذبذبنا في الإبقاء على كوة ضوء في مفترق أدائنا لمهمة الأرض ورسالتها القيمية.
إنه لا سبيل لفضاء العيش المشترك بين بني الجلدة والعقل، سوى الأمان الأصيل، والوجود المؤتمن الأقدر على تمكين أخلاق الحرية والمساواة والعدالة، من إبعاد كل قذارات الخوف والإظلام وانتهاك الحقوق والإبادة.
ومن أبلغ انتقاء لهذه المبادئ السامية، والقيم المجيبة على أسئلة الراهن والوجود، يكسر ثنائيات التناقض والتأويل السياسوي والحربي، ويدرأ عن وشاح التفكير الحر واليقظ، مخالف كوابيس التصنيف الضدي القاتل والمنتهك لحقوق البشرية في العيش بكرامة والاستقلال المصيري الموقن بالائتمان والسلام والمحبة.
إنه في حدود الأنظمة الإطلاقية للتيه والجنوح نحو القوة والسيطرة، كان وسيظل هناك، متحالفون ضد رعاتها ومتنفذيها، يقاتلون بالأفكار والثقافات، ما شذ ونشز، ويبادرون إلى توسيع ثمرات الفضائل والمكارم وقيم الإخلاص للحوار والاصطبار والتحول الإيجابي والإيثار الوجداني والتمنطق بالعقلانية.
ولا يزال هذا الانتماء، في حدود هذه العلامات القيمية الواعية بأدوار ووظائف المثقفين، مندغما في إواليات ما أطلق عليه بيار بورديو ب»رأس المال الثقافي للشعوب .. حيث ينثني وجود القيمة بالإصغاء والاقتراب ومباشرة الإصلاح».
فهل تحول تقاطعات هذا الهم، وتجافيها بين الإدغام والإبهام، دون تحقيق مناط تكسير مواطن الخلل وانعدام الرؤية، في تدوير أنساق الثقافة وأدوارها لدى المثقفين وصناع الفكر، حيث تختفي مسؤولية الكتابة والإبداع، بالتعتيم على مناهجها ونهوجها، والإقصاء الجبري والتجهيلي لمراميها وآثارها في الحضارة والعمران؟..


الكاتب : د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

  

بتاريخ : 08/12/2023